الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كتاب المهد العربي

سميح مسعود

2013 / 2 / 12
الادب والفن


يتجاوز محتوى هذا الكتاب عنوانه ، فهو لا يتوقف فحسب عند مهد السيد المسيح في بيت لحم وظهور المسيحية في فلسطين ، وإنما يتخطى ذلك إلى البحث في تاريخ ودور المسيحية المشرقية العربية على مدى ألفي عام ، وفي العلاقة المتبادلة مع الإسلام : موقف الدين الإسلامي منها ، واستمرار بقائها في ظل الخلافة الإسلامية.

صدر الكتاب في أربع طبعات خلال سنتين ونصف ، أصْدرت طبعته الرابعة دار نشر "كل شيئ " في حيفا لتوزيعه في الدول العربية ، وقد لاقى الكتاب رواجاً خاصاً في معرض عّمان الدولي الرابع عشر للكتاب ( أيلول 2012 ) واستضاف المعرض مؤلفه واستقطب حضوره جمهرة من المثقفين ، واهتمام الصحافة ووسائل الإعلام المرئية ، وكتبَ عن الكتاب عشرات المقالات النقدية والتعليقات الجادة من قبل نقاد ومثقفين معروفين في داخل فلسطين وخارجها .

إنه كتاب نادر في عمق تناوله لموضوعٍ على جانب كبير من الأهمية ، يمثل حصيلة ناضجة ومركزة لعامين من البحث والتمحيص والتأمل في شتى المراحل التي مرت بها المسيحية المشرقية العربية ، وعلاقتها بالمسلمين التي ارتبطت دوماً بمشاعر عالية من الألفة والاحترام والتجانس ، والاعتزاز بالعروبة ، والإنتماء للشرق العربي بكينونته الوجودية و بنائه الجغرافي وما يبثه من دلالات وطنية وقومية .

لهذا قُدم الكتاب كهدية " للعرب عموماً ،لأبناء وبنات ديانتيْ هذا الشعب من مسيحيين ومسلمين ساهموا معاً في بناء حضارة الشرق العربي وثقافته المشتركة ، لكي يكون زاداً إضافياً لهم يعينهم على وعي تجربة تاريخهم العريق ، وتوطيد و حدتهم القومية ، وبناء مشروع المواطنة الحديثة في دولة قومية ديموقراطية جامعة ومنشودة ."

مؤلف الكتاب الكاتب الفلسطيني المعروف سميح غنادري ، يقيم في مدينة الناصرة ، تتجلى فيه عقلية الباحث الجاد الذي يتعامل مع موضوعات كتابه بمنطق العالِم ، فيبُدع في توضيح حقائق كثيرة ، تاريخية ولاهوتية وفقهية نحن بحاجة لها في هذا الوقت لتثبيت رواسي المعايشة الوطنية الحقيقية بين المسيحيين والمسلمين بعيداً عن أصحاب الغلو والتطرف من الذين لا يكادون يتبادلون الحوار مع غير رعيتهم ، ولا يتعاملون مع غير ذوي عقيدتهم ، يُكفرون الأخر ولا يعترفون به كشريك في الأرض والتراب .

المؤلف مثقف معروف بمنهج تفكيره الجدلي والقومي الديموقراطي ، من الذين أقاموا فكرهم السياسي وصاغوه بمرجعية يسارية علمانية تؤمن بالمساواة والمشاركة الكاملة في الحقوق والواجبات العامة بين المواطنين وإن اختلفت أديانهم .

لهذا بينَ المؤلف بوضوح في مقدمة كتابه بانه لم يهتم بموضوعه " من منطلق ديني أو طائفي ، وإنما من منطلق سياسي ولأهداف وطنية " وبين أهدافه الوطنية باختصار في سياق حوار أجرته معه جريدة الدستور الاردنية بتاريخ 5-10-2012 ، " بهدفين مترابطين يكمل أحدهما الأخر ، الأول هو دحض ومحاربة تغريب وغُربة العرب المسيحيين والمسيحية عموما عن مهدها – الشرق العربي والعروبة ، والثاني هو دحض فرية دمغ الإسلام بالعنف والعنصرية وبالإرهاب ."

وللوصول الى هذين الهدفين بحث بنظرة موضوعية وبتقييم منصفٍ عادلٍ وعقلاني ، وتمكن من توضيح دور المسيحية المشرقية العربية في تاريخ المسيحية عموماً ، وشعبها خصوصاً ، ودورها علماً وأدباً وعمراناً وثقافة وفلسفة وترجمة مع أبناء شعبها من العرب المسلمين في بناء حضارة وثقافة الشرق العربي ، أو ما اصطلح على تسميته "بالتمدن العربي الإسلامي ."

كما تمكن أيضاً من توضيح العلاقة الحقيقية بين المسيحية المشرقية العربية والإسلام ، بما في ذلك عدم ظهور حروب طائفية دينية بين الدياتتين ، علما ً بأن المسيحية المشرقية عاشت في ظل حكم الخلافة الاسلامية على مدى 13 قرناً وأكثر ، والعرب من أتباعها كانوا من حماة وأنصار الدعوة الإسلامية ، ومن المرحبين والداعين للفتوحات الإسلامية .

أهداني مؤلف الكتاب نسخة من كتابه ، كتب لي عليها كلمة إهداء جميلة مؤداها " لتأكيد وتبيان تاريخ وأصالة المسيحية المشرقية العربية , ولترشيد العلاقة والعيش المشترك والوحدة الفلسطينية والعربية الوطنية مع الإسلام كان هذا الكتاب . سبرتُ دروس التاريخ على مدى ألفي عام ، بهدف التصدي لقبلية الطوائف ، وطائفية القبائل التي أخذت تنخرنا وتشوه ديانتينا المسيحية والإسلام ، وذلك دفاعاً عن شرق عروبي كان "مسليحيا " ومعاً بنى حضارة وتمدن شرقنا العربي . "

استفسرت من الصديق سميح غنادري مؤلف الكتاب عما يقصده بمصطلح " المسليحية " ، وأجابني بأن الذي ابتدع هذا المصطلح هو الكاتب الفلسطيني الكبير الراحل إيميل حبيبي ، وذلك حين أصرّ عليه صحافي ما أجرى معه مقابلة في سبعينيات القرن الماضي ، على معرفة انتمائه الديني ( وهو مسيحي ) فأجابه : " مسليحي " ... وأضاف في توضيحه لي بأنه استعار هذا المصطلح منه " قاصداً أن انتماءنا وثقافتنا وهويتنا في الشرق العربي ، بديانتينا المسيحية والإسلام ، هي مسليحية : أي مسيحية– مسلمة ، ومسلمة – مسيحية."

احتجت إلى فترة طويلة لقراءة كتاب " المهد العربي " بسبب ضخامته ، وقد دهشت للكم الهائل من المعلومات القيمة المسجلة بين دفتيه ، رُتبت بأشكال مختلفة من الفعاليات النصية ذات القيمة البنائية المتميزة في تكوين وحدة متكاملة لعمل كبيرعلى امتداد 608 صفحة ، يتضمن مادة منسجمة ومتناغمة ، بلغة جميلة سلسة ، تمكن المؤلف من بلوغها - كما بين في مقدمة كتابه – " نتيجة دراسته للتاريخ والفكر القديمين للشرق العربي ، وقراءته للكتب الدينية : التوراة والأناجيل وكل ما جاء في العهد الجديد والقراّن ، و قراءته أيضاً لمصادر وكتب حديثة وتراثية تاريخية قديمة عن المسيحية وتاريخ الكنيسة والعلاقة المتبادلة مع الإسلام . "

تَعمق المؤلف في دراسة كتب التراث والأدب ، وتاريخ الشرق العربي وقبائله وجغرافيته بما في ذلك تاريخ الاديان والخلافة الإسلامية واللاهوت والفقه الإسلامي ، وتمكن من جمع مخزون وافر من المعلومات النهائية التي منحت عمله كمالا ً متميزاً من حيث سياقاته النصية والفكرية ، وشَرعَ بعمله أبواب المعرفة أمام القارئ العربي على مصراعيه ، تمكن من تزويده بمعلومات وحقائق كثيرة غير معروفة - أو منسية أوغير متداولة – تؤكد على استنتاجات حيوية كثيرة مهمة ، منها أن " المسيحية ليست نبتة غريبة في الشرق العربي ، بل هي أصيلة أصالة أهل الوطن وأصالة أرض ودفيئة المسيحية : فلسطين وبلاد الشام ، ووجودها ليس دخيلاً أو مؤقتاً أو طارئاً عابراً ، بل هي من طين وتراب وهواء وثقافة الشرق وعروبته ، بمن فيهم المسلمون ، وهي ليست استيراداً غربياً ، بل الشرق هو الذي صدرها للغرب . والشرق لم يعرف الحروب الدينية بين المسيحية والإسلام ، عرفها على يد " الصليبين " الأوروبيين ، ورفض الأجداد العرب تسميتهم " بالصليبيين " بل سموهم " بالفرنجة " واتحدوا معاً في مقاومتهم ودحر احتلالهم ."

ومن الاستنتاجات الأخرى التي توصل إليها الكتاب : " الحروب الصليبية ( حملات الفرنجة ) جريمة أوروبية بحق شرق عربي بمسيحييه ومسلميه . والعرب المسيحيون ليسوا من مخلفات الفرنجة الصليبيين ، وإنما هم من أهل البلاد الأصلانيين وأحفادٍ لنصارى عرب تصدوا إلى جانب المسلمين لغزاة أجانب اتخذوا الدين ستارا ً لجرائمهم ."
إنهم من أحفاد الذين قاوموا الإحتلال الصليبي لأوطانهم ، ومن الأجداد العرب الأصلانيين في الشرق العربي ، بمن فيهم عرب الجزيرة وبلا الشام وبلاد الرافدين .

منهم : قائمة طويلة من شعراء العرب المسيحيين ، في مقدمتهم الأخطل التغلبي شاعرالخلافة الأموية ، وأحد أبرز شعراء العرب ، ومنهم من تولى في شتى وظائف الدولة العليا على امتداد الخلافات الاسلامية الثلاث – الراشدية والأموية والعباسية - أحصى الاب لويس شيخو في كتابه " وزراء النصرانية في الاسلام " 406 من كبار الموظفين ، منهم : 75 وزيراً ، و31 موظفاً تنفيذياً كبيراً ، و300 كاتب ، من مشاهيرهم يوحنا الدمشقي ، وهو منصور بن سرجيوس ، زميل ونديم الأخطل ويزيد بن معاوية في شبابهما المبكر ، الذي خلف عمل والده سرجيوس بن منصور في ديوان المالية عند الأمويين.

توصل الكتاب أيضاُ إلى استنتاجات مهمة تبين الحقائق التاريخية والدروس لتلك العلاقة الغنية المتشعبة بين العرب المسلمين والمسيحيين ، وأعتبرأن أتباع الديانتين عبارة عن " توأمين سياميين في بناء الشرق العربي وثقافته منذ أواسط الألفية الأولى للميلاد ."

لهذا أتفقُ مع نتيجة مهمة توصل لها سميح غنادري ، مفادها " لا يحق تاريخياً ولا علمياً ولا ثقافياً أن يُصور البعض المسيحية وكأنها دين غريب عن البيئة الشرقية والعربية ، فأحفاد المسيح الفلسطيني الشرقي هنا باقون والكنيسة كنيستهم والوطن وطنهم سوية مع شعبهم العربي على اختلاف ديانته وطوائفه ، وعبق التاريخ شاهدهم ".

كتاب " المهد العربي " هو جزء أول من مشروع لمؤلفه سيكتمل بإصدار جزءٍ ثانٍ في السنوات القريبة القادمة ، يعنى بشؤون البطريركية والرعية العربية الأرثوذكسية ، والسيطرة اليونانية عليها ، وهي " قضية عربية وطنية مسيحية واسلامية ، إنها قضية حفاظ على الأوقاف المسيحية في فلسطين للعرب ، قضية رعايتهم والصرف على خدماتهم وتعزيز وحدتهم لتسهيل بقائهم وصمودهم في وطنهم ، وقضية إدارتهم لمؤسساتهم الوطنية بما فيها الدينية والأهلية ، وقضية توطيد الوحدة الوطنية لشعب عربي واحد متعدد الأديان و الطوائف ."

يبين سميح غنادري في هذا الشأن على " أن هذه القضية ، بحاجة إلى تضافر كل الجهود الوطنية الفلسطينية ، بما فيها جهود الحركات السياسية والمؤسسات والأطر المدنية والأهلية العربية وكذلك الكنسية ، دعما ً لها وسعياً لانتصارها . إنها قضية وطن وبقاء وتطور . وقضية مواجهة ليس فقط مع القيادة الكهنوتية اليونانية للبطريركية وإنما أيضاً مع المشروع الصهيوني في إحدى دوائره ."

لهذا يمكن القول أن الكتاب القادم لسميح غنادري يُضارع الأعمال الوطنية الكبيرة والمهمة ، وإنني على يقين أنه حين صدوره في قادم الأيام سوف يعتبر مثل " كتاب المهد العربي " الكتاب الأجدر بالقراءة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - إبداع
طارق قديـــس ( 2013 / 2 / 12 - 20:37 )
مقال كامل متكامل .. تجتمع فيه رشاقة القلم بالشرح الوافي .. إبداع

اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في