الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القمار

أحمد فرحات

2013 / 2 / 13
الادب والفن


عليكم أيها السادة أن تحافظوا على الابتسامة . القمار هو الحل المتطرف . لم تكن القسمة أو العقلنة تلائم الأمور هناك ، كان على كل أن يضع حدا ، وأن يمضي في اختياره إلى نهاية المدى . لم تكن التي تلعق الآيس كريم ، وتتلمظ بشفتيها وتسرح عينيها في الجالسين ، وتجاهد لتحتفظ بالنظرة والنبرة والظرف ، لم تكن تعرف أنها ستمتليء برائحة الاشتهاء ، ثم تتزوج غير ما اشتهت وتسلم ، ويشعث الشعر ، وتتفجر الطاقات السيالة في البنيان المتماسك ، لم تكن تعرف بوضوح أن الجسد يحمل سرا ، وأن السر رهيب ، وحش جامح رابض في الأعماق ، وأن الزوج سيحتفظ به القبر، ولم أكن أعرف أنني سأغدو مقامرا ، وأنا العقلاني الذي يحسب و يروز ويدرك متى يخاف ومتى يقدم ، لكن أحدا لم يتوقع سقوط البرجين ، ولم نكن نحن نتوقع أننا بلا موهبة وأن العمل ليس هناك ، أو حتى أن الآباء و الأمهات يقترفون هذا الجرم كل يوم ، لكنني اكتشفت موهبتي بعد أن دخلت مكتب رئيس التحرير . وقالت لي السكرتيرة للأسف لا مكان . فقال لي ابن السافلة ذو المارلبورو وإطار النظارة الذهبي أفكارك غير ناضجة . وبعد أن تشاجرت مع صاحب المطعم الذي عملت عنده نادلا وقذفت بمريلة مطعمه السوداء في وجهه وقلت له فلتؤد حاجتك بنفسك ، وبعد أن كنت نائما وأحلم فسافرت وطرت وحلقت وانتشيت بالمدى ، وبعد أن أسففت بالأحلام حتى لا أذكر أيها أردأ . عيناها زرقاوتان ، كنت أعالج الولاعة فلم تنقدح ، ويحها تلك النظرة ، ظلمت إنسانيتها بعد أن انحنت فرأيت ما لا يرى ، لم تتحمل طاقتها أن تلتقي العينان ، كان الجرح عميقا وغائرا وشهيا ، فوق الثلاثين بقليل ومعها تلك الحيرة الأنثوية بين النظرة والابتسامة وبين رد الفعل ، ومن يتردد يفز به الشيطان ، أكلنا معا ، شربنا معا ، ونمنا معا ، والطاقات التقت وتحدثت بين هذا الغطاء وذاك ، وبعد أن توفر لي كل شيء يرفضه المحافظون ، لم تكن تقامر بعفتها ، ولم أقامر معها بعمري ، كنت أعرف وكانت تعرف أن هناك حدا فاصلا بعده ستنقلب الأمور .كانت تكذب طوال الوقت ، كما كانت تخجل مني أحيانا وهي تتأمل نفسها في المرآة ، كما كان الخجل يصيبها أيضا عندما يسقط نظري على حرق مسها في الإصبع ، هل يذكرها بالمطبخ والزوج ، هل يحطم الساتر المزين البراق ، كائنات بلاستيكية ، قالت لي " أترك عمر مع ماما وسنذهب معا إلى شقتي في الرحاب " ، وفي اليوم نفسه قال لي صديقي " غدا سنسأل عن عمل في دار الكتب " . أمسكت الكتاب بين يدي ، وتمددت وسألت وأنا أضحك ولدي رغبة آكلة في أن أخلع ما أرتديه " في عالمنا الحداثي جدا ليس علينا أن نقرأ ، علينا أن نكتب ، أن نصيب الورق بالقروح ، هل يعقل أن أقتحم روح امرأة في الثلاثين وجسدها ، وألعب التلميذ أمام صفحة ، إن حمالات الصدر صارت شفافة ، وطلاء الأظافر الأسود انتشر ، والسعووديون أسنانهم اصفرت وتآكلت من التبغ والحشيش " . قال لي " هذه المرأة ستضيعك …أنت إنسان لك هدف ووعيك لن يسمح لك بأن تتمادى " . حديث الوعي والغاية كان مضغتنا على خشب المدرجات ، الكائن المدجن كان يقبل أن يهان ، وقلت له " بعد الوعي هناك اليأس ، واليأس الحقيقي أول أبوابه الوعي الحقيقي " .

لكن أحدا لم يتوقع أن صديقي الشيخ " سراج " سيصير مدمنا للخمر بعد أن سافر ليعمل في كوبنهاجن ، في شركة متعددة الجنسيات يقبض منها ثلاثة آلاف دولار ، ويتحدث بلسان الحداثة الأوروبية هو الآخر ، كنت أعرف من البداية أننا لن نخسر شيئا ، حاولت أن أكتب ، وحاول صديقي أن يعمل ، وجاهد " سراج " ليحتفظ بالصفحة البيضاء و الركعتين . قلت لها " متى شربت سيجارتك الأولى ؟ " ، تثنت تحت الغطاء الأبيض وقالت في كسل ترش عليه الشمس ضوءا من النافذة " سؤال غريب مثلك..في الجامعة ..في السنة الثالثة " ، سحبت نفسا من السيجارة ونفخته في وجهها ، قالت " وأنت…." ، قلت " في رابعة ابتدائي " ، وقلت لها " إذا عرفت متى بدأت لعبة الاستغماية مع بابا وماما فقد وضعت يدك على السر " ، التحرر يبدأ بالخطايا الصغيرة ، الذات تنمو في منطقة اللا سلطة ، في الطريق ، في الحمام ، في هذا العمق حين تنظر في عينها وتنظر في عينك وأنت تسير في سيتي ستارز فتجرحها وتميل عليها وتقول بجسدك وتكون هي قد مرت ،( كنت كلما ابتسمت ابتسمتْ ، وسألتني عن السبب ، أنطلق من قوة يأسي ، وتتلزج من حرج العمر الجارح ) قالت لي " ماذا ستفعل اليوم ؟ " ، " لا شيء " ، " حسنا….سأترك معك السيارة ومفتاح البيت " ، تعودت ألا أسأل فارتاحت . قال لي " سنقبل معطيات الوضع الجديد … سنبحث عن عمل أقل قيمة " ، تركته يثرثر وكنت أعاني مما يفعله الحرمان بالمرأة ، كانت تقول لي " أنت شيطان صغير لكنك طيب " ، حين كنا نلعب ونحن أطفال لم نكن نعرف شيئا . كنت أعتبر نفسي كفولتير ، أو كأي أديب رضي أن تنفق عليه رغبة امرأة . قلت " إنه الحظ " وكنت جالسا في الندوة أستمع لمن يملك فيلتين وينطق الجيم جيدا ، لا يجب أن يتهمنا أحد بالتواكل ، فالفرصة قد تشرق في أي ركن من أركان القاعة . كان الإعلان خفيا منزويا في ركن من أركان الصفحة ، كانوا يعلنون عن سباق للشباب بالسيارات ، كل ما في الأمر أننا سنسافر ، رميت بمفاتيحها في القمامة ، وودعتها عضوا عضوا في مساحتها الضيقة في الذاكرة ، ودعتها كما تولد لذة ، تُسفح وتنقضي ، عرضت على صديقي – الكاتب المبتديء كما ينعتوننا – فوجدت قلبه يدق لأن زوجة البواب تبتسم له بإغراء ، كان يحسب الإمكانيات والبدائل ، قلت له و الخبث المر ينتشي " والكتابة ؟ " ، وألقيت بالزهر وأمسكت به في خانة قريبة من اليك ، كانت الدنيا تدور من حوله ، والأدوار تنقلب سريعا وتتبدل ، كاد يخسر الدور ، قال " ستثري الكتابة " ، قلت " الجسد يحرر الروح بمرارة لتكتب ، ها ستكتشف أن الجسد حي " ، سأزيد من جرعة الإغراء ، " لكن السباق سيكسر حدود الضيق ، المساحة مجهولة ، والمكان مجهول ، هذا السباق سيحطم عقدة الشكل ، لننمُ في العراء ، بعيدا بعيدا ، ربما كان الهواء نظيفا ، بعيدا عن سرير الشقة التي هي ملك للأب ، بعيدا عن الوجه الذي تنتظر أن يبتسم لك فتجد في ابتسامته الملجأ المفقود ، السباق السرعة المتطرفة ، ودع كل ما تعرف القمار على العمر ينتظر " ، حرر نفسه من نظرة امرأة البواب الشهية ، ومن ملابسه القديمة ، ومن بيت الأب ، وانطلق معي لنسجل أنفسنا بين المتسابقين ( كنا نصلي التراويح في رمضان ونجتهد لنبكي مع الباكين على خطايا لم نقترفها بعد ، وكان يؤمنا في الصلاة في الكلية ، وكنت ألقي درسا بعد الصلاة عن آداب الأخ المسلم ، وكان القاريء ، وكنت الفقيه ) .

لم يزر أحد هذا القبر منذ سنوات ، أزحت التراب عن شواهد ثلاثة قبور حتى وجدت الذي يثوي فيه أبي وأمي ، وضعت الزهور ، وقرأت الفاتحة ، وانصرفت ، قال لي بواب المقبرة " هل تريد رقم الموبايل حتى تكلمني قبل أن تأتي " ، واصلت انصرافي إلى المطار ، كان جيدا أن يهبونا كل شيء ، ثمن التذاكر والإقامة ، ثم بعد إمضائنا على تحمل مسؤلية أعمارنا سيهبوننا سيارة السباق ، في الأمر شيء ما ، فبنظام الاقتصاد الحر ، لا يمكن أن يعطوا من غير أن يأخذوا ، اشترينا علبا كثيرة من البيرة ، وسيجارين لاحتفال بعد النصر ، وسجائر ، ولا نريد شيئا آخر ، تكفينا أضواء العالم الحداثي ، والهواء النظيف و السرعة المتطرفة ، بداية سنتسابق أميالا وأميالا ثم هو ممر ضيق يكفي لعبور سيارة واحدة ، لا يفوز غير واحد فقط ، مباح لك أن ترطم سيارة الآخر ، مباح لك أن تدفعه حتى يخرج عن الطريق ، قد يُقتل ولست القاتل ، القاتل هو قراره وربه ، ومحطات الوقود ستجدونها عندما تحتاجون إليها في الوقت المناسب توفرها الشركات الراعية ، ثم يستدير الطريق ويلتف ليكون الجبل عن يسارك ، والفراغ عن يمينك ، القمار هو الحل المتطرف ، ويجب أن تصل هناك قبل غروب شمس يوم ما ، لأن الطريق مظلم ، قد قبلنا ، وركبنا ، على الأقل السباق والقمار قد وضعا حياتنا في إطار ، وفتحنا العلبة الأولى على بركة الطريق ، وكان القلب يدق ، مهما بدا اليأس قاسيا وصلدا ، فهناك خط على الأرض سننطلق منه ، يذيب نهاية اليأس عند شغاف القلب ، ويميع المتبقي في كيان اللحم والدم فيهتز مع ضربات القلب ، وسط المجهول المختلط بالطعام والشراب والذكريات والدخان والشهوة والخلايا و الخوف ، قال لي " فلنأخذ البدايات … اليمين خالي من ناحيتي …. ولعن الله عوامل الوراثة …أشعر أنني " أنا "….ولعن الله فتيات دار العلوم ..ولعن الله الانتظار …زد من سرعتك فإن البدن يخف " ، قلت " والروح تشفى ….إليك هذه الملاحظات حتى ننتهي على خير ، أولها لا تبال كثيرا ، ولا تحزن من النتيجة ، لا تتوقع الخسارة ولا تتوقع الفوز ، افعل كما ينبغي أن تفعل ، النتيجة غيب ، لا ينبض قلبك بالأمل كمراهقتنا ، ولا تتشاءم وتعبس كمراهقتنا أيضا ، دع الأمل يتحقق ويكشف عن نفسه ، وأما الخسارة فالقمار يحرق كل شيء ، إذا خسرنا سنخسر شيئا لن نبكي بعده ، سنخسر العمر ….ولتحرص دائما على الابتسامة ، ولنجعلها من عل ، فالابتسامة استهانة " ، كانت السرعة على الأعصاب حريقا ، السرعة المتطرفة وتفادي الفتي المتحير في منتصف الطريق ، المهارة ترضي ، والنشوة على الأعصاب تأتلق نارا مع الابتسامة ، السرعة مع المنحدر تحرير من الكثافة وغلظة التفكير البطيء ، البيرة الباردة التي تنقضي سريعا ومَلَكية الفتاء والطريق ، هذا الطريق المظلم نحن أبناؤه ، ولكن كان يعوزنا الإطار ، التصادم فاجر ككل المقامرين ، نتصادم بالصاج وبالمخ والأفكار والأسنان تجز ، الفكرة التي تقول لك " اخش " ، ستخرجك لترقد بالسيارة على العشب والرمال ، فار صاحبي بالنشوة التي خافها وهو يلود من نظرة امرأة البواب ، صرخ فتيا " لا تبطيء عند المنعطف ، خذه من الواسع ، وارفع قدمك ودع السرعة تحملك " ، " ابن السافلة وراءك على اليسار " ، تركته يأخذ اليسار ليضيق عليه الملف ، لم يحسبها جيدا ، لو رطمني لانقلبت ، لكنه خشي مردود السرعة على سيارته ، فانقلب خارج الطريق ، قلت لصاحبي" ألم تقل له أمه وهو صغير ألا يعبث مع الغرباء " ، نعم الإطار تصنع فيه أخلاقك المنسجمة معه ، " لا أريد لهذا السباق أن ينتهي ، لا أريد العودة إلى غرفة بمائة جدار ، لا أريد أن أسمع كلاما " ، السرعة عند المنعطف طهرتني بنشوتها الحارقة ، لم يتبق شيء من كل ذاك الضعف والانتظار والخوف على قيمة ذات هشة لا مكان لها ، أنت الآن المبادر ، أنت الآن من يضع نعل قدمه على البنزين ويدوس ، كنت أسحب الدخان بوحشية ، قال صديقي " ألم تلاحظ أن الجائزة غير معلنة " ، لم يكن ثمة مكان في عقلي للتفكير ، السرعة هدأت ، فالذكرى …( كنت في الثالثة عشر أحاول أن أجد صديقا ، عدت لأجدهم يبكون حول جسدها المسجى على الفراش ، ملامح وجهها لا زالت قاسية ، لكنها الآن في العجز التام ، رفضوا أن أنزل معهم القبر ، وأصررت ونزلت ، ولمست جسدها آخر مرة قبل إهالة التراب ، كانت صبورة ، تتقبل القسوة بصرامة وتسمع بعدها أغاني عبد الحليم وهي تشرب الشاي بلبن ، وتصنع لي كعكة عيد الميلاد بيدها وتغني وتملأ المكان ضيوفا ، لكن أحدا لم يزرنا بعدها ، لكن قبرها هجر ، واختفى شاهده بالتراب ، والبيت تفكك ولم يسكنه غيري ، كنا نلهث ونلهث ونلهث كأننا استمناء عاجز ، ليغضب الحداثيون من المباشرة ، ماذا كانت الجائزة هل هي التراب أم الحرق لكل لطمة لطمت وجهي بها ، أم النعمى للصبر والصراخ عند الولادة والإرضاع والصلاة ، الجائزة غير معلنة ) ، " نعم يا صديقي الجائزة غير معلنة " ، قال لي مستشهدا " أبو المعاطي أبو النجا يقول من المخيف أن تشعر أنك لم تعد متأكدا من شيء ، وأن الآتي سيقع بمحض المصادفة " ؟؟" ، " قل له سنتعالج باليأس ..فقط ايئس وابتسم وافتح علبة البيرة " ، وهل يمكن أن تجري النشوة في عروق كدرتها ذكرى مرتعشة وفكر ، سنأخذ وقتا جديدا ، سنسرع ، وسنتفادى ابن السافلة ، قال صديقي " الآن يمكننا أن نقول أننا سنفوز بالسباق أليس كذلك ؟ " ، علمت أنه بدأ ينهار ، بدأت الجدوى تقلقه ، بدأت النتيجة تقلقه ، " يا صديقي لسنا كالنساء نبتسم للمعاكس اللبق ونخشى منه " ، لكنه لم يسيطر على خوفه ، صارت السرعة المتطرفة خارقة لروحه ، الحل المتطرف يؤذي المفكرين ، ومات بجانبي في ظروف حداثية غامضة ، بالكاد أقمت سيجاره في يده ، وسابقت ، حملت جثته بالسرعة المتطرفة وعلى أنغام صوت الموتور المدوي ، وانتشيت أكثر وأكثر ، فالدراما اشتعلت في الدماء ، السرعة والمهارة ، الجبل عن يسارك ، والفراغ عن يمينك ، وحدي على الطريق المظلم ، سيجارك في يدك يا صديقي ، ها نحن نعبر الخط ، ها هي الأعلام تلوح ، تصفيق المنتظرين ، سأدور ثلاث دورات أمام أعين الجميع في ذكراك ، السيجار اشتعل ، وحملت الجثة في التابوت ، وأعلنوا الجائزة والكاميرات تمجدني " عشرة ملايين دولار " ، قامر ليصبحوا خمسين ، نعم حداثتهم الحقيقية تمجد المقامرين لا منتظري هذه الفرصة القديمة ، والخمسون قامر ليصبحوا مائتين ، القمار يحرق كل شيء ، سأقامر ، اشتريت سيجارا جديدا ، سأقامر لا طمعا في المزيد ، سأحرق ساعات هذا العمر مقامرا ، على الطريق ، ابن لا أحد ، أو ابن الشيطان ، والليل القاسي معي ، أقامر بهذا العمر حتى لا أنتظر ، حتى تنقلب السيارة مطروحة في وحشة الفراغ على العشب والرمال ، فنجان القهوة قارب أن ينتهي ، قالوا لنا سنطير إلى مكان السباق الجديد ………………………………………….








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل