الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بصدد منهجية طرح إشكالية التخلف الاقتصادى العربى

محمد عادل زكى

2013 / 2 / 13
العولمة وتطورات العالم المعاصر


بصدد منهجية طرح إشكالية التخلف
(1)
من العبارات المألوفة والتى عادةً ما يتم تداولها فى الندوات والمؤتمرات، وعلى المنصات الإحتفالية للمؤسسات المهتمة بمشكلات الوحدة العربية؛ وللعجب نجد العبارات نفسها يتم تداولها فى بعض الندوات والمؤتمرات والفعاليات الفكرية والثقافية التى تنظمها الأنظمة السياسية الحاكمة، والمؤسسات الرسمية فى الأقطار العربية، تلك العبارات التى تقول: أنه يَحق لكل عربى مؤمن، بل وحتى غير المؤمن، بالقومية، ووحدة المصير، والهدف المشترك، أن يندهش، بل ويَسخر حزيناً متألماً، حينما يجول ببصره على خريطة عالمنا المعاصر، ومهما أن كانت الخريطة التى يُنظر إليها، سياسية، جغرافية، طبيعية،... أو حتى صماء؛ فلسوف يُدرك على الفور أن هناك شيئاً مستنكراً غريباً يحدث على أرض الواقع؛ إذ أن تلك المساحة الشاسعة الهائلة على الخريطة والتى تحتل نحو 10% من يابسة الكوكب؛ وتُسمى بالعالم/الوطن العربى، لا ينقصها أى شىء من الموارد البشرية والإمكانيات الطبيعية والمادية حتى تنطلق نحو التقدم... نحو حياة أفضل... نحو خَلق حياة كريمة للأجيال القادمة، ومع ذلك لم يزل وطننا العربى (متخلفاً) تابعاً على الرغم من أن الاستعمار، الذى كان حُجة المتحججين، قد انقشع منذ عشرات السنين، ولم يزل الوطن العربى مكبلاً بقيود التخلف! فلماذا؟ وإلى أى حد؟ وكيف الخروج من هذا الأَسر؟ وهل هذا من الممكن إنجازه؟
للإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها من الأسئلة المرتبطة بوجودنا الاجتماعى ذاته كبشر، وبمستقبل أجيال لم تأتْ بعد، ونتحمل المسئولية التاريخية كاملة تجاهها، يجب أن يكون واضحاً الطريق الذى يسلكه الذهن فى سبيله إلى إنتاج هذه الإجابات. فليس من المهم، فى حُكم مذهبنا، الإجابة على الأسئلة المثارة بشأن إشكاليات التخلف الاقتصادى والاجتماعى على الصعيد العربى، وإنما المهم هو الطريق الذى يسلكه الذهن، بوعى ناقد لصنمية الفكر ووثنية الرأى، كى يُنتِج هذه الإجابة. وتلك هى المشكلة الرئيسية فى الطرح على المستوى النظرى، ومن ثم الحياتى اليومى، التى يُعاني منها التحليل فى حقل ظاهرة تجديد إنتاج التخلف الاقتصادى والاجتماعى العربى... نحن نرى تلك المشكلة، مشكلة الطرح، متركزة موضوعياً فى خمسة أمور:
أولاً: إن غالبية المساهمات النظرية، وما يُعرف بـ (التراكم المعرفى) فى حقل تحليل ظاهرة التخلف الاقتصادى العربى لم تستطع أن ترى ظاهرة التخلف إلا من خلال بيانات المرض، والفقر، والجوع، وإحصائيات الدخل والناتج والتوزيع والتضخم،... إلى آخره. ومن ثم يصير الحل لدى هذه المساهمات النظرية، وهى المعتمدة رسمياً، للخروج من الأزمة. أزمة التخلف، هو التركيز على النداء، وأحياناً الصراخ، باتباع السياسات "الرأسمالية" التى تتبعها الدول التى لا تُعانى من الفقر المرض والجوع؛ لكى تخرج البلدان المتخلفة من الفقر والمرض والجوع!
ثانياً: وهو ما يترتب على أولاً، إن غالبية المساهمات إنما تنتهى حيث يجب أن تبدأ، إذ عادةً ما نرى مئات الكتابات فى هذا الصدد تقترح للخروج من أزمة التخلف سياسات اقتصادية ذات مدخل آدائى/ خطى، من دون محاولة إثارة الكيفية، الجدلية، التى تكوّن بها التخلف تاريخياً على الصعيد الاجتماعى فى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر بوجه عام، وعالمنا العربى، الذى هو أحد تلك الأجزاء، بوجه خاص. وأفضل ما أمكن تحقيقه هو الإشارة إلى الإستعمار، كتاريخ ميت، ثم القفز البهلوانى إلى إقتراح سياسات السوق الحرة.
ثالثاً: عادةً ما يتم تناول إشكالية التخلف الاقتصادى العربى بمعزل عن إشكالية التخلف على الصعيد العالمى، أى دون رؤية الاقتصاد العربى كأحد الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، وربما كان هذا ترتيب منطقى لتناول الإشكالية من منظور أُحادى، يفترض التجانس، ولا يرى سوى الطرح "التكاملى" والمنادة "المثالية" بالتكامل الاقتصادى العربى. وكأن البلدان العربية تعيش خارج نطاق الكوكب. على الرغم من ارتباط (إنجاز) مشروع التكامل الاقتصادى العربى بالخروج من الرأسمالية؛كنظام عالمى، باستبدال علاقات اجتماعية رأسمالية الطابع بعلاقات ذات طابع اجتماعى/إنسانى ترتكز على فك الروابط مع الإمبريالية العالمية من خلال مشروع حضارى لمستقبل آمن.
رابعاً: السؤال الأهم، وهو غالباً ما لا تتم الإجابة عليه: لماذا بعد أن خرج الاستعمار، الذى شوه الهيكل الاقتصادى وسبّبَ التخلف، لم تزل بلدان العالم العربى متخلفة؟ هذا السؤال من المعتاد تجاهله، من قِبل النظرية الرسمية، وبالطبع من قِبل المؤسسات المالية والنقدية الدولية، والإنتقال، الكوميدى، إلى: كيف نخرج من التخلف "بالتكامل"؟ وهنا نرى سيلاً من المقترحات (المدرسية/الرسمية) التى لا تَعرف ما الذى تقترحه للخروج من الأزمة. لأنها فى الغالب لا تَعرف ما الذى تبحث عنه؛ وذلك أمر منطقى، أيضاً، حينما لا تَعرف هذا المقترحات ماهية التخلف ذاته، على الرغم من أن الحديث عن التكامل الاقتصادى يكون عديم المعنى والفائدة معاً إذ لم يقترن بالبحث الموازى فى ظاهرة التخلف الاقتصادى والاجتماعى فى بلدان العالم العربى، وإنما كأحد الأجزاء المتخلفة (وغير المتجانسة) من النظام الرأسمالى العالمى المعاصر، من جهة درس ماهية ظاهرة التخلف ومحدداتها وكيفية تجاوزها التاريخى؛ فلن يُمسى مقنعاً الحديث عن تكامل اقتصادى عربى من دون الحديث عن كيفية هيكلية لتجاوز التخلف ذاته، وإنما ابتداءً من إعادة النظر فى التراكم المعرفى فى حقل نظرية التخلف ذاتها.
خامساً: ولأن النظرية الرسمية (النيوكلاسيكية فى مُجملِها) هى المعتمدة للتلقين فى المدارس والمعاهد والجامعات فى عالمنا العربى؛ فالنتيجة هى الإعدام اليومى لمئات الآلاف من الطلاب، الذين يتم تلقينهم صباحاً ومساء بيانات الفقر وعدد المرضى والجوعى، ويقولون لهم أن هذا هو التخلف بعينه، وإذ ما أردتم الخروج ببلادكم من هذه الحالة فلتنظروا إلى ما يفعله صنّاع القرار السياسى الاقتصادى فى الغرب الرأسمالى، وأفعلوا ما لا يفعلون! لأنهم يستحون! كونوا أكثر طموحاً... إفتحوا الأسواق... حرروا التجارة... عوموا العملة...لا تدعموا الفلاح، وأتركوه نهباً للرأسمال المضاربى... سرحوا العمال... قلصوا النفقات العامة... ارفعوا أيديكم عن الأثمان... ساندوا كبار رجال المال... تخلصوا من القطاع العام... رحبوا بالرأسمال الأجنبى... وإفعلوا ما تمليه عليكم المؤسسات المالية والنقدية الدولية... قدسوا نموذج هارود- دومار... لا تقرأوا إلا للنيوكلاسيك... جوفنز، ومنجر، ومارشال، وفالراس، وجوارتينى، وسومبارت، وفريدمان، وكروجمان، وصولو، وغيرهم من النقديين والحديين؛ طبعاً بعد أن يُقال لهؤلاء الضحايا الذين يتم إعدامهم يومياً، فى المدارس والجامعات فى أرجاء العالم العربى، إن "الاقتصاد" هو ذلك الكم المكدس من الأرقام والمعادلات فى مؤلفات هؤلاء فقط، أما غيرهم فهم إما تاريخ مقبور، أو كفار مُلحدون... ولكى تكون المحصلة النهائية، حينما يكون بأيد هؤلاء الطلاب/الضحايا صُنع القرار السياسى، فى بلادهم المتخلفة، هى المساهمة الأكثر فعالية فى تعميق التخلف، وربما تسريع وتيرة تجديد إنتاجه.
معنى ما سبق أن ثمة شك فى ما يسمونه "التراكم المعرفى" فى حقل النظرية العامة للتخلف، إن إفترضنا أن نظرية من هذا النوع موجودة بالأساس، فهو الأمر الذى كذلك موضع شك كبير، على أقل تقدير من ناحية الطرح. هذا الشك يجعلنا نرى أن إشكالية تخلف اقتصاد البلدان العربية من المحيط إلى الخليج، بل النظرية العامة للتخلف ككل، تحتاج إلى مراجعة، أى إعادة طرح، يبدأ من حيث تحديد ماهية التخلف ذاته. بالتصدى وبوضوح للإجابة على السؤال الأهم، والذى عادةً ما يتم تجاهله، بمنتهى الاستخفاف بأهميته الفكرية والواقعية؛ وهو: لماذا بعد أن خرج الاستعمار لم تزل بلدان العالم العربى متخلفة، تابعة؟ نحن نعتقد أن طريقة الإجابة على هذا السؤال تجعلنا نقف مباشرة فى وجه الظاهرة محل إنشغالنا. ظاهرة تجديد إنتاج التخلف. وإن ما سوف نقدمه كفرضيات أدناه، والذى يُمثل الخطوط المنهجية العريضة لمجمل مذهبنا، فى سبيل "افتراض نظرية عامة فى تجديد إنتاج التخلف"، سبق أن إعتمدنا عليه فى معظم أبحاثنا فى تجديد إنتاج التخلف، ولسوف نعيد الارتكاز على هذه الخطوط العريضة هنا أيضاً، مع بعض الإضافات ربما جوهرية فى بعض العناصر، والأفكار.
(2)
ولنعد إلى السؤال، لماذا بعد أن خرجَ الاستعمار لم تزل بلدان العالم العربى متخلفة؟ والسؤال بطبيعة الحال يشتمل على نفس السؤال بشأن باقى الأجزاء المتخلفة. فى سبيلنا للإجابة على هذا السؤال، بمعنى تقديم طريقة إجابة، نضرب مثلنا التقليدي، حين نذهب إلى أن جميع المجتمعات البشرية، منذ أن هبطَ الإنسان من فوق الأشجار، وحتى يومنا هذا، الذى يسوده نمط الإنتاج الرأسمالى، لا تكف عن الإنتاج؛ ومن ثم يتعين أن يتجدد هذا الإنتاج على نحو يضمن تجديد إنتاج البشر أنفسهم، وفلنفترض أن المجتمع (ويهمّنا هنا ليس بلدان عالمنا العربى فحسب، وإنما أيضاً باقى الأجزاء المتخلفة من النظام الرأسمالى العالمى) فى لحظة تاريخية معينة، وفى إطار ظروف اجتماعية محددة، يدخل العملية الإنتاجية على صعيد "الكُل" الاقتصادى بــ 30 مليار وحدة من النقد (بالمعنى الواسع لكلمة نقود كمظهر نقدى للقيمة) موزَعة بين القطاعات الإنتاجية الثلاثة التى يتكون منها الهيكل الاقتصادى (الزراعة، والصناعة، والخدمات) بواقــــع 10 مليارات وحدة لكل قطاع ويتم توزيع هذه المليارات العشرة على النحو التالى: 5 مليارات وحدة لشراء أدوات العمل، كالماكينات والآلات والمعدات، و3 مليارات وحدة لشراء مواد العمل مثل المواد الآولية والمواد المساعدة، و2 مليار وحدة لشراء قوة العمل التى تتمثل فى المجهود الإنسانى الواعى الهادف؛ وهكذا الأمر فى كُل قطاع. وفى نهاية الفترة، ولتكن سنة، وبإفتراض أن القيمة الزائدة المنتَجة فى كل قطاع من القطاعات الثلاثة=100%، أى أن الرأسمال يدفع لقوة العمل 2 مليار وحدة ويتلقى مقابل هذه الـ 2 مليار وحدة عملاً يساوى 4 مليارات وحدة؛ أى أن الرأسمال يستأثر بـ 2 مليار وحدة قيمة زائدة فحينئذ سيكون لدينا ما يلى:
القطاع الزراعى: (5 أدوات العمل) + (3 مواد العمل) + (2 قوة العمل) + (2 قيمة زائدة) = (12)
القطاع الصناعى: (5 أ ع) + (3 م ع) + (2 ق ع) + (2 ق ز) = (12)
قطاع الخدمات: (5 أ ع) + (3 م ع) + (2 ق ع) + (2 ق ز) = (12)
ووفقاً لمثلنا أعلاه فلقد زادت القيمة اجتماعياً، أى أن المجتمع بدأ بـ 30 مليار وحدة، وفى نهاية الفترة صار لديه 36 مليار وحدة. أى أن المجتمع حقق 6 مليارات وحدة كفائض، والذى ننشغل به هنا ليس من أين أتت هذه القيمة التى زادت لأن الاقتصاد السياسى قد قرر صراحة وبوضوح، وهو مُحق، إنها نِتاج العمل الإنسانى(1). إنما الذى ننشغل به هو أين تذهب تلك الـ 6 مليارات وحدة الزائدة؛ والتى أُنتِجَت فى داخل الاقتصاد القومى (المتخلف بوجه خاص، وعالمنا العربى بالأخص) فى فترة زمنية محددة؟ من أجل تقديم "طريقة إجابة" على هذا السؤال، ونحن نستبقى فى أذهاننا السؤال المركزى المتعلق بسبب إستمرار التخلف حتى بعد أن خرج الاستعمار العسكرى الأجنبى، فإنه يتعين علينا من البداية أن نبرز أربع ملاحظات تَتَعلق بالفرضية المقترحة بشأن نظرية عامة فى تجديد إنتاج التخلف.
الملاحظة الأولى: إن القيمة التى زادت (ونُشير إليها إختصاراً بالقيمة الزائدة) ليس حقل إنتاجها المصنع فحسب، كما تقول كراسات التعميم والموجزات الأولية، وإنما هى موجودة فى النظام الرأسمالى بأكمله، ليس فى حقل الصناعة فقط، وإنما كذلك فى باقى القطاعات التى يتركب منها الهيكل الاقتصادى، أى فى قطاع الخدمات، وفى الزراعة أيضاً، فلا فارق بين إنتاج القيمة الزائدة فى مصنع لإنتاج الحديد والصلب وبين إنتاجها فى مكتب للمحاسبة يعمل فيه عشرات المحاسبين بأجر. فالعامل لا يُنتِج فى المصنع فقط قيمة زائدة، وإنما يُنتِج المهنى، كالمحاسب، وغيره، أيضاً قيماً زائدة فى المؤسسة التى يعمل فيها بأجر، ويُقدم من خلاله الخدمة، وبالطبع فى قطاع الزراعة أيضاً يُنتِج العامل الزراعى قيمة زائدة مثل العامل فى قطاع الصناعة، وكالمهنى فى قطاع الخدمات. وتلك هى القاعدة العامة فى النظام الرأسمالى؛ كما سنوضح، حالاَ، فى الملاحظة التالية.
الملاحظة الثانية: أن إنتاج القيمة الزائدة يجب أن يُنظر إليه نظرة عِلمية، فهو ليس رذيلة تماماً، كما يُقال، إن قيل، وإنما النظام الرأسمالى المعاصر، كشكل تاريخى مــن أشكال التنظيم الاجتماعى والاقتصـادى، لا يُمكـن أن يعمل بدونه، فهو القانون العام الحاكم لعمل الرأسمال، أياً ما كان حقل توظيفه (الزراعة، أو الصناعة، أو الخدمات).
ومن هنا يجـب علينا، إن رغبنا فى مستقبل إنساني، مراجعة الخطاب الأيديولوجى غير العِلمى ضد الرأسمال. لأنه مُشوش ومُعطل، وليس بإمكانه دفع عجلات التاريخ، فأياً ما كانت شرور الرأسمالية، كشكل تاريخى لأحد أنماط الإنتاج، وهى بلا ريب بغيضة، كثيرة ظاهرة، فيجب علينا، إن أردنا الفهم؛ ومن ثم التغيير، أن نُقدّر كل حضارة تقديراً موضوعياً بعيداً عن الأهواء وإدعاء إمتلاك ناصية الحقيقة الاجتماعية، ونبحث فى الوقت ذاته عن القانون الموضوعى الحاكم لعمل النظام ككُل. والقانون العام الذى أفترض أنه يَحكم عمل النظام الرأسمالى هو قانون القيمة؛ ومن هنا؛ ومن هنا فقط، قد نتمكن من فهم النظام بل والقضاء على شره، ومن ثم رسم المشروع الحضارى لمستقبل آمن لأجيال لم تأتْ بعد؛ ونكرر، ونتحمل أمامها المسئولية التاريخية كاملة.
الملاحظة الثالثة: إن العملية الإنتاجية، بالمعنى العام للإنتاج، تحتاج إلى أشياء أخرى كثيرة مثل: الأرض، والفكرة، والإدارة، والطاقة، والنقل... إلخ؛ بيد أن تلك الأمور تأتى فى مرتبة أو مرحلة تالية لإتمام المنتَج، وهى مهمة من زاوية ما من أجل"تسيير" العملية الإنتاجية، وهى، فى نفس الوقت، ثانوية وغير مؤثرة فى عملية زيادة القيمة، إذ لا تزيد القيمة إلا بقدر دخول عنصر العمل الحى أو المختَزن(2) فى العملية الإنتاجية والذى من شأنه أن يُزيد القيمة، ولكنه سوف يزيد قيمة على السلعة الجديدة وليس القديمة، فالنقل مثلاً لا يزيد قيمة السلعة، وإنما يمكن لعملية النقل خلق قيمة فى حقل صناعة النقل نفسه.
الملاحظة الرابعة: القانون الذى يعتنقه ماركس، بعد إعادة صياغته، وهو القانون الذى وضعه ريكاردو، بشأن نظرية القيمة الزائدة نصه كالآتى:"إن القيمة الزائدة وقيمة قوة العمل تتغيران فى اتجاهين متعاكسين. فتغير قوة العمل المنتَجة، أى ارتفاعها أو انخفاضها، يولد تغيراً معاكساً له فى قيمة قوة العمل، وتغيراً طردياً فى القيمة الزائدة. إن القيمة المنتَجة من جديد فى يوم عمل مؤلف من 12 ساعة، هى مقدار ثابت، وليكن 6 جنيهات مثلاً. إن هذا المقدار الثابت يساوى مقدار القيمة الزائدة زائداً قيمة قوة العمل، والقيمة الأخيرة يعوض عنها العامل بما يُعادلها. وبديهى أنه إذا كان هناك مقدار ثابت يتألف من حدين، فلن يزيد أحدهما دون أن ينقص الآخر. إذاً، فقيمة قوة العمل لا يمكن أن ترتفع من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات، ما لم تنخفض القيمة الزائدة من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات، دون أن تنخفض قيمة قوة العمل من 3 جنيهات إلى جنيهين. وبالتالى ففى ظل هذه الشروط لا يمكن أن يطرأ تبدل متزامن على مقداريهما النسبيين... إن ارتفاع إنتاجية العمل يولد هبوطاً فى قيمة قوة العمل وارتفاعاً فى القيمة الزائدة، فى حين أن انخفاض هذه الإنتاجية يولد، بالعكس، ارتفاعاً فى قيمة قوة العمل، وهبوطاً فى القيمة الزائدة".
وفقاً للنص المذكور فإن القيمة الزائدة(التى يستأثر بها الرأسمال) تتناقض مع قيمة قوة العمل(التى يحصل عليها العمل المأجور) فحينما ترتفع قيمة قوة العمل لابد أن يُصاحب ذلك انخفاضاً فى القيمة الزائدة، وبالعكس. ووفقاً للنص كذلك، وفى ظل نفس الظروف، فإن إحلال الآلة،على سبيل المثال، من شأنه الارتفاع فى القيمة الزائدة القيمة الزائدة، والانخفاض فى قيمة قوة العمل، وحيث يستخدم ماركس مصطلح "إنتاجية العمل" كمرادف لمصطلح" قوة العمل" فإن هذه الإنتاجية لا يمكن زيادتها إلا من خلال فن إنتاجى جديد يُمكّن من إنتاج نفس الكمية من السلع فى عدد ساعات أقل. فحين يحل، أو لا يحل، هذا الفن الإنتاجى الجديد، فإنه يستصحب معه، فى جميع الأحوال، عدة فرضيات تتناقض فيما بينها على النحو التالى:
(أولاً) ارتفاع إنتاجية العمل _____ انخفاض فى قيمة قوة العمل _____ ارتفاع فى القيمة الزائدة
(ثانياً) انخفاض إنتاجية العمل _____ ارتفاع فى قيمة قوة العمل _____ انخفاض فى القيمة الزائدة
ولنناقش ذلك ببعض التفصيل
أولاً: ارتفاع إنتاجية العمل
والارتفاع هنا نتيجة استخدام الآلة، وبحيث تخرج إلى السوق نفس الكمية المنتَجة من السلع فى عدد ساعات أقل، وهو الأمر الذى يؤدى إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة (التى يتحصل عليها الرأسمال) إذ تم إنتاج نفس الكمية فى عدد ساعات أقل. ومن الناحية الأخرى ونتيجة لارتفاع القيمة الزائدة، يؤدى هذا الارتفاع فى إنتاجية العمل إلى تقليص فى قيمة قوة العمل، فلا يتحصل العامل على ما كان يحصل عليه قبل استحداث الفن الإنتاجى الجديد. وإنما أقل.
فإن افترضنا أن القيمة المنتَجة تساوى 6 جنيهات، قيمة سلع منتَجة فى يوم عمل مكون من 12 ساعة عمل، فإن الجنيهات الست تلك هى محل الارتفاع، والانخفاض كذلك، لأنها تعوض عن القيمة الزائدة وقيمة قوة العمل. أى أن القيمة المنتَجة تساوى (القيمة الزائدة + قيمة قوة العمل) ولأن القيمة المنتَجة ثابتة ومحددة بالجنيهات الست المذكورة، فحين ترتفع القيمة الزائدة كى تُصبح مثلاً 4 جنيهات، فيتعين تقلص قيمة قوة العمل إلى جنيهين.
ثانياً: انخفاض إنتاجية العمل
وحينما تنخفض الإنتاجية، يحدث انخفاض مماثل فى القيمة الزائدة، ونتيجة لهذا الانخفاض فى القيمة الزائدة، ترتفع معدلات قيمة قوة العمل. فلم يعد الرأسمال يتحصل على ما كان يحصل عليه قبل انخفاض الإنتاجية، وإنما يحصل على أقل مما كان يحصل عليه، فإن افترضنا، طبقاً لنفس المثال أعلاه، ان قيمة قوة العمل قد ارتفعت من 3 جنيهات إلى 4 جنيهات نتيجة انخفاض الإنتاجية، فإن ذلك الارتفاع يستصحب الانخفاض المباشر فى القيمة الزائدة من 3 جنيهات إلى جنيهين.
هذا هو القانون الذى صاغه ريكاردو، وعدّله ماركس، وهو قانون ينتمى إلى الجدلية بامتياز. بيد أن ثمة ملاحظات بشأنه بعد أن أعاد ماركس صوغه، وتتبدّى فى الآتى:
وفقاً للقانون، يؤدى الارتفاع فى إنتاجية العمل إلى تغيّر فى أمرين: أولهما قيمة قوة العمل، أى قيمة وسائل المعيشة التى يستهلكها العامل من أجل تجديد إنتاج نفسه. وهى بمثابة حد الكفاف، ثانيهما القيمة الزائدة، أى قوة العمل غير مدفوعة الأجر. ولكن هذا التغير لا يحدث فى إتجاه واحد، وإنما حين ترتفع قيمة قوة العمل، تنخفض القيمة الزائدة، والعكس: فحين تنخفض قيمة قوة العمل، يطرأ على القيمة الزائدة الارتفاع. والمحور فى هذا التغير بالارتفاع وبالانخفاض هو إنتاجية العمل التى تزيد القيمة الزائدة حين ترتفع، وتقلصها حين تنخفض. والقانون من تلك الوجهة لا يعدو أن يكون سوى أحد نماذج التغير الممكن حصوله فى النظام الإنتاجى الرأسمالى، دون أن يصل إلى مرتبة التطوير الجدلى للنظام نفسه.
ووفقاً للقانون كذلك، لا وجود لأى حديث عن باقى ساعات يوم العمل؛ فكل ما يُفترض هو أن سلعة ما كانت تُنتَج فى عدد معيّن من الساعات، فظهر فنٌ إنتاجى جديد جعلها تُنتَج فى عدد ساعات أقل، ولكن لم نعرف مصير باقى ساعات يوم العمل. فالافتراض هو ما يلى: إن يوم عمل مكوناً من 12ساعة يُنتِج من السلع ما قيمته 6 جنيهات، فلما ظهر الفن الإنتاجى الذى زاد من إنتاجية العمل، جعل الـ 6 جنيهات تلك تُنَتج فى 6 ساعات. فما هو مصير باقى ساعات يوم العمل المؤلَف من 12 ساعة، أى ما مصير الـ 6 ساعات المتبقية من اليوم؟ الإجابة عند نمط الإنتاج الرأسمالى، إذ يقول إن الـ 6 ساعات المتبقية هى ساعات عمل غير مدفوعة الأجر، ومن ثم تُضاف إلى جانب القيمة الزائدة، فنكون أمام النسب الآتية:
12 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة.
6 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة + 6 قيمة زائدة إضافية نتيجة استخدام الفن الإنتاجى الجديد.
وعلى حين تنخفض الإنتاجية، أى أن نفس الكمية من السلع تُنتَج بكمية عمل أكثر، فسنكون أمام النسب الآتية:
12 ساعة = 6 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 3 قيمة زائدة.
12ساعة = 4 جنيهات = 3 قيمة قوة عمل + 1 قيمة زائدة .
وسأفترض مؤقتاً، وعلى غير اعتقادى، أن التغيّر النسبى بين قيمة قوة العمل والقيمة الزائدة، المؤسَس على التغيّر النسبى فى قيمة قوة العمل أمام القيمة الزائدة، ثم التغير ككل من(3:3) إلى(3:1) أمام الإنتاجية، هو ما يمثل الجدلية التى إنطلق منها ماركس بعد تعديله للقانون الذى وضعه ريكاردو. ولكن ما مدى اتساق هذا القانون مع مجمل البناء النظرى لماركس؟ وعلى وجه التحديد مدى اتساق القانون المذكور مع قانون"ميل معدل الربح إلى الانخفاض" الذى قال به ماركس وصار من ركائز البناء النظرى الماركسى؟ إذ يقف هذا القانون بالذات فى تضاد وتناقض مع القانون الريكاردى المعدل على يد ماركس، إذ يقول هذا القانون أن: معدل الأرباح تميل إلى الانخفاض كلّما تم استحداث الفن الإنتاجى الجديد بإحلال الآلة محل عنصر العمل.
عَلِمنا حتى الأن أن استحداث الفن الإنتاجى الجديد يؤدى إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة، فى الوقت الذى تنخفض فيه قيمة قوة العمل. وقد إفترضنا أن هذا الفن الإنتاجى الجديد يتمثل فى إحلال الآلة، الأمر الذى كان من شأنه تسريع وتيرة الإنتاج؛ فتُنتَج نفس الكمية فى عدد ساعات أقل، ويمسى صحيحاً أيضاً القول بإنتاج كمية أكبر فى نفس عدد الساعات السابقة. ولكن ليس هذا كل ما فى الأمر، إذ لم يزل أمامنا نصف الطريق، وهو الذى لم يكمله ريكاردو، ومن ثم ماركس؛ فعلى الجانب الآخر، فإنه طبقاً لقانون ميل معدل الربح للانخفاض فإن إدخال الآلة يؤدى إلى إنخفاض معدل الربح (أى النسبة بين القيمة الزائدة ورأس المال الكلى) إذ يعنى دخول الآلة تحويل المزيد من المواد الأولية والمواد المساعدة إلى منتجات، وذلك بالعدد نفسه من العمال خلال المدة الزمنية نفسها، أى ببذل عمل أقل.
ولأن الرأسمال ينقسم عند ماركس (بعد إعادة النظر فى التقسيم الذى وضعه الكلاسيك للرأسمال، إذ رأوا أن الرأسمال ينقسم إلى رأسمال أساسى ورأسمال دائر) إلى نوعين، أولهما: الرأسمال الثابت: وهو ذلك الجزء مِن وسائل الإنتاج (تحديداً وسائل العمل، والمواد الخام، والمواد المساعدة) الذى ينقل جزءً من قيمته(التبادلية) إلى الناتج، دون استهلاكه كلياً فى"عملية إنتاجية واحدةً". وثانيهما: هو الرأسمال المتغير: وهو لا ينقل فقط قيمته إلى الناتج، وإنما يَنقل إليه كذلك قيمة زائدة. وهو ما يتمثل فى قوة العمل. فالرأسمال من تلك الوجهة لا يمكنه استخلاص قيمة زائدة من الرأسمال الثابت، على حين يمكنه ذلك من الرأسمال المتغير، ومعنى دخول الآلة حدوث انخفاض فى مصدر القيمة الزائدة، الأمر الذى يستتبع انخفاض فى الربح الذى هو حاصل النسبة ما بين القيمة الزائدة وبين الرأسمال الكلى.
وعلى ذلك نكون أمام قانونين متناقضين، أولهما يقول بأن الآلة تزيد من القيمة الزائدة بالنسبة لقيمة قوة العمل، والثانى يقول أن الآلة تُخفض من القيمة الزائدة لتخفيضها الرأسمال المتغير بالنسبة للرأسمال الثابت! فماذا يعنى ذلك؟
يعنى، فى تصورى، الديالكتيك... التناقض الحقيقى. وهو المستتر؛ يعنى الجدلية فى أوضح صورها، وهو المعنى الذى لم يحققه ريكاردو، وماركس بالتبعية، فحين تم استحداث الفن الإنتاجى تصور ريكاردو، وماركس من بعده أن التناقض يقع بين القيمة الزائدة وبين قيمة قوة العمل، وفى الحقيقة يمكن تسمية ذلك تناقضاً، ولكنه ليس التناقض الذى نبنى عليه مُجمل فرضيتنا بشأن نظرية عامة فى تجديد إنتاج التخلف.
فحين دخل الفن الإنتاجى الجديد حدث تغير فى القيمة الزائدة بالنسبة لتغير مماثل فى قيمة قوة العمل، بيد أن ذلك ليس نهاية الطريق، وإنما نصفه فقط، إذ لا يؤدى الفن الإنتاجى الجديد فقط إلى ارتفاع فى القيمة الزائدة بالنسبة لقيمة قوة العمل، وإنما يؤدى، وفى نفس اللحظة، إلى انخفاض فى القيمة الزائدة بالنسبة للرأسمال الكلى. فتتحدد القيمة الزائدة (الكلية) على هذا الأساس بالتناقض بين التغير فى القيمة الزائدة (ق ز) بالنسبة لقيمة قوة العمل (ق ع) وبين التغير فى القيمة الزائدة بالنسبة للرأسمال الكلى (ر). القيمة الزائدة الكلية إذاً هى: حاصل التناقض بين الارتفاع فى القيمة الزائدة بالنسبة لقيمة قوة العمل، وبين الانخفاض فى القيمة الزائدة بالنسبة للرأسمال الكلى.
وتلك هى "القيمة الزائدة" التى أعتد بها بشأن إعادة طرحى مفهوم التخلف وتجديد إنتاجه، أى حين أقول أنى أفترض أن "تجديد إنتاج التخلف" يعنى، كما سنرى:" عملية اجتماعية من ارتفاع معدل إنتاج القيمة الزائدة، المتناقض مع ضعف آليات إنتاجها، ومن خلال هذا التناقض ما بين الارتفاع فى معدل إنتاج القيمة الزائدة الكلية وضعف آلية إنتاجها، تتبلور ظاهرة تسرب القيمة الزائدة المنتَجة داخلياً فى الأجزاء المتخلفة من الاقتصاد الرأسمالى المعاصر إلى الأجزاء المتقدمة". فإننى أقصد هنا بالقيمة الزائدة التى تتسرب نحو الخارج تلك القيمة التى تكون حاصل التناقض بين الارتفاع فى القيمة الزائدة"الأولية" بالنسبة لقيمة قوة العمل، وبين الانخفاض فى القيمة الزائدة "الأولية" بالنسبة للرأسمال الكلى. وهذا ما اسمية "التناسب بين الكتل".
أى أن القيمة الزائدة، التى أقصدها، هى القيمة الزائدة الكلية، وهى نتاج تناسب بين كتلتين:
الكتلة I: وتحتوى على التناقض بين القيمة الزائدة وقيمة قوة العمل.
الكتلة II: وتحتوى على التناقض بين القيمة الزائدة والرأسمال الكلى.
فإذ إفترضنا أن الكتلة I = (1:2)
وإذ إفترضنا أن الكتلة II= (4:1)
فإن القيمة الزائدة الكلية = (1:2) : (4:1)
وعلى ذلك، يمكن القول بأننا أمام فرضية قوامها إعادة طرح لمفهوم ومحددات القيمة الزائدة، استكمالاً لخطوات لم يكملها ريكاردو، ومن ثم ماركس، وأفترض أننى قد مشيت بعض الخطوات المتقدمة فى هذا الشأن.

-------------------
(من مقدمة كتاب: النظرية العامة لتجديد إنتاج التخلف، 2013)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يخيب آمال الديمقراطيين خلال المناظرة الأولى أمام ترامب


.. تهديدات إسرائيل للبنان: حرب نفسية أو مغامرة غير محسوبة العوا




.. إيران: أكثر من 60 مليون ناخب يتوجهون لصناديق الاقتراع لاختيا


.. السعودية.. طبيب بيطري يُصدم بما وجده في بطن ناقة!




.. ميلوني -غاضبة- من توزيع المناصب العليا في الاتحاد الأوروبي