الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رائحة الليل

جمال الدين أحمد عزام

2013 / 2 / 13
الادب والفن


رائحة الليل

ليل ربيعي حالم، يبث رائحته في الشوارع و الأزقة، و عبر إضاءات الأعمدة و السيارات و شرفات المنازل، رائحة يزكيها سنا البدر الضاحك المطل على بقايا حدائق المدينة. تركني أخي ليصعد إلى عيادة الطبيب في العمارة الملاصقة للمقهى. جلستُ في الخارج قبالة نضد صغير تداعبني النسمات المنعشة بين الفينة و الأخرى، منتصرة على عوادم العربات المارة من أمامي. المقهى يكاد يكون ممتلئا، و ضجيجه الخفيض الرتيب يعلو حينا بنداء صبي القهوة، أو بضحكات المتسامرين أمام أكواب السحلب، أو بقرع أحجار الدومينو بالطاولات. تناغمت أضواء النيون النابعة من المقهى خلفي مع حالة الصفاء الغريبة التي انتابتني مضفية ذلك السحر العجيب على هذه الليلة، خاصة عندما انبعث صوت غناء كارم من مذياع المقهى، "أمانة عليك، يا ليل طوّل، و هات العمر من الأول...".
وضع صبي القهوة الفنجان أمامي و كوب الماء. حملت الفنجان المستقر على طبقه الصغير، تنشقت رائحة القهوة الساخنة المحوجة، تخللت الرائحة رأسي عندما رشفت أول رشفة، تناثرت علي الصور كرذاذ مطر خفيف. ها أنا ذا أراني طفلا في بيت جدي العتيق، أطل من الشرفة على المباني القديمة المزخرفة، و رائحة القهوة تنبع من الداخل، و ضحكات الزائرين تأتى من الغرفة المجاورة. أجلس في الصالون، أقلب أوراق المجلات الصفراء القديمة، فأجدني مسحورا بالأخبار القديمة و الصور المهترئة التي تحوي بين ثناياها بريق زمن مضى. رائحة قهوة الجد الزكية ما زالت تتدفق في رأسي و أنا ألهو في الحديقة الواسعة بجوار القصر القديم، أركض في خفة، أسدد الكرات في المرمى بين حجرين، أتقافز فرحا مع كل هدف. لا يتجاوزني جريا أيا من زملاء اللعب اللذين لا أعرفهم عندما أتناقل الكرة بين قدمي. أشعر بقرب رحيلنا من بيت جدي، أعود مسرعا، ارتقي الدرجات في رشاقة، أدخل شقة جدي متلمسا رائحة القهوة و البهار، تشملني الرائحة، فأنتشي بها.
تنقشع الصور مع تدفق رائحة الليل الخالصة من القهوة، و التي لم تلبث أن تلونت من جديد برائحة أخرى، رائحة اللحم الذي يطهى، و النابعة من العمارة الملاصقة للمقهى. أراني عائدا من المدرسة، و قد طالت قامتي و دخلت أطوار الرجولة. تنفستُ رائحة اللحم المطهو من بداية الشارع، حملتني الرائحة إلى شقتنا. أجد أمي تمسح الأرضية قبالة باب الشقة و الرائحة يجري لها لعابي، تستقبلني بابتسامتها العريضة، أحتضنها، ألصق خدي بخدها الندي، ثم أنطلق إلى الداخل ملبيا نداء اللحم.
أيقظتني نسمة منعشة تلونت فيها رائحة الليل بتلك الرائحة القادمة من الهضبة المشرفة على المدينة. إنها رائحة اليود، إذ أن المدينة كانت غارقة في البحر من قرون بعيدة و لم تزل تربة الهضبة مفعمة بيودها التاريخي. أراني في الزي الأبيض و كفاي ملتصقتان بالرمال الصباحية الباردة، و صوت العريف يزأر بالعد، و صدري، كما الآخرين، يقترب من الأرض و يبتعد. أجمل ما في التمرين هو رائحة اليود الزعفرانية المنبثقة من الرمال و الحصباء، و التي تغمر أنفي مع كل ضغطة. تفوقت عليهم في العد تحت تأثير الرائحة المبهج، عدت بالخطوة السريعة إلى مقهاي مع ضحكة فوز و سحبة قشاط.
تتلون رائحة الليل هذه المرة برائحة العود. من أين أتي العود! رشفت رشفة ماء، انتقلت إلى عالم آخر، رفعت رأسي لمطالعة البدر الوضاء،الذي امتزجت زرقة نوره برائحة العود و نجيل الحديقة و نثرات من روائح الفل و الياسمين عندما بدأت الخيوط الفضية تتداخل مع الذهبية، و تنقشان الثوب الأسود بسواد الليل. تعلو الزخارف الصدر و تتشابك و تلتف في روعة عند الرقبة، و شعر ناعم أسود كليل المحاق منسدل على الكتفين. رائحة العود تنبعث من الجسد الرقيق الذي لا يبدو منه سوى الوجه الأبيض معتليا الزخارف العربية المذهلة، بينما يلمع نور القمر في العينين الواسعتين المبتسمتين على أنغام الشفاه الوردية. تدافعت الروائح منها كزهرة تفتحت عندما تلامس كفينا، يخفق قلبي لأول مرة على أهازيج رائحة العود المتلونة بروائح جديدة لم أتذوقها قبلا. رائحة النظرة، رائحة اللمسة، رائحة الهمسة، رائحة العناق، رائحة الجسد المتلعثم كطفل يتعلم الكلام، رائحة الضحكة، رائحة الانتشاء، رائحة الفرحة، رائحة الارتواء، رائحة الحب. أفقت من زخم الصور الممتعة على غناء كارم، "...حبيبي الفجر لمّا يبان، عوده الغصن لما يميل، خدوده الورد في البستان، عيونه السحر فيها جميل...".
مازالت رائحة الليل تتلون، ثم في هذه اللحظة، مرقت تلك الرائحة الشقية. أرى الزهرة الصغيرة، و قد خرجت من الكبيرة، تحمل نفس عطرها الرائع مصغرا فصار أروع. الكتاب بصوره الكبيرة الملونة أمامي، و صغيرتي في سريرها الصغير لصق جانبي، تشير في الكتاب و أروي لها القصة. أغير صوتي مع تغير الأبطال، تضحك، فتنبع نفس رائحة الأم الواقفة لدى الباب و التي تراقبنا في غبطة. لا تريد الشقية أن تنام، تجلس الأم لصق جانبها الآخر فتصبح ابنتنا بيننا، ندغدغها فتنطلق الضحكات الصغيرة مشمولة بكل تلك الروائح العطرة الجميلة التي لا أعرفها.
انسحب تدريجيا صدى الضحكات و كارم يختم، "أمانة يا، ليلي، يا ليل"، و أخي أمامي معه آخر لا أعرفه. بادر أخي..هل انتظرت كثيرا. أجبت مبتسما..أبدا. قال..هذا هو الدكتور مجدي، نزل خصيصا من أجلك. صافحتُه..أهلا يا دكتور. التفت أخي إلى الطبيب مشيرا إلي..ها هو أمامك. رد الطبيب..لم يكن هناك داع، فقد قلت لك، أنا لا أعالج هذا المرض. عقب أخي..يعني، لا علاج لديك..اجعل الأمل في الله، فقد يُكتشف العلاج. قال أخي في أسى..لا إله إلا الله، إنه مقعد هكذا منذ ثلاثين سنة، منذ كان في الخامسة...
تبددت الكلمات، تباعدت عن مسامعي و النسيم الربيعي يملأ رئتيّ. دارت عجلات كرسيَّ و نحن نفارق المكان، و رائحة الليل تتخلل الطرقات، ألاحقها، فتلقي في قلبي نشوة البحث عن تلوناتها.
تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تضارب بين الرواية الإيرانية والسردية الأمريكية بشأن الهجوم ع


.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي




.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل


.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج




.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما