الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


على أجنحة النحل: شغب على الطريقة البوهيمية

كريم ناصر
(Karim Nasser)

2005 / 3 / 31
الادب والفن


في مساء صيفيٍّ مشبع برائحة زهور القدّاح المعطرة، انفردنا أنا و (حميد العقابي) في مقهى صغير يقع في مركز المدينة، لم تكن لتمرّ سوى بضعةِ أيام على عودته من مكان عمله في (الكوفة) في مسح الأراضي العام 1977، ولا أدري لماذا وافق على عمل كهذا، وفي مدينة بعيدة كالكوفة، هل في نيته الابتعاد، أم لأنه أُجبر كباقي الموظفين الجدد الباحثين عن العمل، والذين كانوا في العادة لا يرتقون الوظائف في مراكز المدن الكبيرة، إلاّ بعد مرور سنوات..
على العموم لا أدري..

لم تكن تمرّ لحظة من لحظات حياتنا نحن الشعراء، إذا لم نكن قد انتهزنا الفرصة مجهدينَ بالتفكير والتمحيص، من أجل الخروج من الوضع الذي نحن عليه..
مرّة خطرت على بالي فكرة نادرة تفتّقت عن مخيلة مجنونة.. قلت لحميد:
ـ بما أننا ضجرون اليوم فما رأيك أن نحتسي الخمر؟
ـ ردّ حميد قائلاً: إنها فكرة رائعة..
وأردف بعدها ـ وكانت على شفتيه بقايا ابتسامة خجولة ـ فإننا بهذا سنخرج في الأقل من ضجرنا. السكر يفسد الفراغ، وما أكثر الفراغات التي تسود حياتنا نحن الشبّان، حتى أننا كنا نفكّرُ دائماً بالرحيل عن (الكوت) بل عن البلد بشكل نهائي..
وبعد أن ابتعنا قنينة خمر من النوع (المستكي) من بائع المشروبات الكحولية المسيحي القريب من (كراج) بغداد القديم كذلك ابتعنا السكاكر من (دكان) مجاور.

انتشى حميد قليلاً، وشرع يبحلق عينيه مسدّداً نظراته نحو المارّة بدهشةٍ وعفوية، كان يعتقد بأنَّ الناس مثلنا متبرّمون، وريثما احتسى نصف القنينة، شرع يغنّي ويضحك بصوت عالٍ وأخذ يسأل المارّة للاستفسار عن أحوال الرعية....
فهو الآن ليس ضجراً كما كان في السابق.
أول ما صادفنا في الطريق كان جندياً ضجراً، ويبدو عليه أنه يمقتُ الثكنة والحراسة الليلية ويكره الضباط كرهاً شديداً كما أخبرنا هو..
عندما سألناهُ عن رأيه بالنظام الفاشي، أجاب ببسالة معهودة: (خره).. عجباً كيف يجرؤ جندي بائس على مثل هذا الكلام الخطير!؟
ألا يخاف! هل كان هو مثلنا سكران، وإلاّ كيف تجرّأ على قول ما لا يقوله أحد..
مع أننا حذّرناه سلفاً من مغبّة النتائج فيما لو قُبض علينا، (وضبطتنا السلطة متلبسين بالجرم المشهود).
اندفعنا بخطوة رجلٍ واحد كموجة خبلة، حيث رأينا شاباً وكان في مقتبل العمر، ورحنا نطرح عليه ذات السؤال، محذرين إيّاه من أننا سندوّن كلامه في دفاترنا التي هي بأيدينا، لقد تبيّن لنا أن معظم أهل المدينة كانوا متذمرين، حتى الساذج منهم كان يعبر عن رفضه بإشارة من عينيه..
يا إلهي ما القصة؟ الجميع متبرّمون..
لكن حين سألنا رجلاً رأيناه بالمصادفة ماراً على سكتنا الخطرة، وعلى ما أظن أنه كان يشبه بقالاً، ذلك واضح من مسوحه ـ قال بالحرف الواحد: إمّا أنتم منتحرون أو مجانين! ألا تخافوا على شبابكم؟ الظاهر كنا غير مكترثين لما سوف يحصل لنا، ولو صرنا جدّيين بعض الشيء، إلاّ أن شغبنا كان نوعاً من العبث على الطريقة البوهيمية، رغم أننا كنا نعرف بأنَّ الإقدام على مثل هذه الحماقات، قد يجرنا بلا أدنى ريب إلى الموت المحقّق.. من يتصوّر لو نحن وقعنا بيد (خضير بطنج) جلاّد الشيوعيين.. هل يتركنا أحراراً نجول ونمرح كما نشاء، أم أنه سوف يملص رأسينا ويتركهما يتدحرجان مثل كرتين..

لكن المهم أننا استطعنا في الأقل أن نحضَّ الآخرين على المسكوت عنه والمحرّم والممنوع والمقموع في عهد الديكتاتورية المنتنة، وأن نخلّص ثلّة من الضجرين من أهوال الوضع الراهن.
في اليوم التالي أخبرني حميد، قال: إنه رآني ـ ليلة أمس نائماً على أحد تخوت المقاهي، وإنه تعجّبَ من وصولي سالماً إلى البيت.. وهكذا أيها الأحبّاء عندما تثقل أعضاؤنا بخدرٍ مسكر في العشيّات، كنا نبتدع الحكايات، ونفلسف القصص الخرافية، وحينما نُفرغ جعبتنا من الأشعار والأغاني ونوزّع الحبّ على الناس، نكون عندها قد أرحنا ضمائرنا كليّة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-