الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنتحار آخر حمامة سلام

جوزفين كوركيس البوتاني

2013 / 2 / 14
الادب والفن


كادت أحدى المركبات العسكرية ان تدهسني اثناء عبوري للشارع العام- كنت شاردة وتعبة، كما وكنت لا أزال مصعوقة. ففي طريقي عودتي من العمل للبيت شاهدت حمامة رمادية اللون- اي بلون السماء في وطني- وكانت الحمامة مدهوسة وملتصقة على اسفلت الشارع وبشكل مروع، كما وكان دمها القاني الحمرة مراقًا من كل جانب. ولكم ارعبني المشهد وانتابني اثر هذا المنظر شعور بالغثيان وشعرت بدوار وكاد ان يغمى عليَّ بالكامل. بدا وان احد ما قام بدهسها وهو يقود سيارته بشكل عشوائي. أحسست لا إراديًا وكأنني أنا وآلاف من النساء الأخريات مدهوسات مثل تلك الحمامة؛ مدهوسات من الداخل وبشكل متعمد وعلني. أجل، لقد سحقتنا ظروف المعيشة وأتلف الحصار ورود شبابنا وهاهو العمر يمضي كومضة برق في ليلة شتوية ماطرة. وبقيت لوقت طويل أفكر بالحمامة وأقارنها بكل النساء من اللواتي سحقتهن ترهات الحكومة وبطشها. وفجأة، اعادني إلى الواقع صوت سائق سيارة القمامة وهو يصرخ بملء صوته: انتبهي يا مجنونة! وهكذا اجتازتني سيارة القمامة بسرعة وبسلام..

وهكذا هو حال البلد- مستعجل وفي حالة انذار دائمًا، ومن يدري فلربما كانت تلك الحمامة المسحوقة وسط الشارع انذار شؤم لنا جميعًا. فهذه الأمور باتت تحيط بنا من كل جانب، وبتنا نرى كل شيء ملوث بالدم: كلامنا، وسائد نومنا، وحتى رؤيتنا للمستقبل باتت بلون الدم. لقد اصبحنا ننظر للمستقبل كمن ينظر إلى بركة دم. فحياتنا دموية وأحلامنا دموية بدلاً من وردية..ولعل السائق لم يكن مخطئًا حين لقبني بالمجنونة، لأنني حقًا اصبت بشيء من الجنون حين رأيت تلك الحمامة الرمادية. أتراها كانت آخر حمامة سلام مرت ببلادي؟ أم تراها هي التي رمت بنفسها تحت عجلات السيارة منتحرة حالما ادركت بأنها فشلت في غرس غصن زيتونها في أرض هذا الوطن؟ أكان الأنتحار افضل لها من ان تعود مخذولة وحاملة بمنقارها راية سلام مزيفة ملطخة بدماء الأبرياء بحجة الكرامة وعزة الأنسان؟ وهل تبقى لنا شيء من العزة حقًا؟
توقفت لبرهة قبل عبور شارع آخر حالما لمحت مركبة قادمة لئلا أتعرض للشتم من احدهم من جديد، واكتشفت بأنها كانت مركبة فخمة تعود لأحد "الكبار" في البلد، وكأنه بقي لنا بلد كي يكون فيه "كبار"..وكانت السيارة تسوق ببطء شديد وكأن من فيها غرباء عن المكان. بدا على راكبي السيارة عدم الأكتراث بما يدور حولهم. وأحسست من طريقة القيادة بأن كبير البلد الذي يركبها يرسل لعنات ملفوفة بالأحتقار لكل من حوله. وكأنه كان يقول لي: تبًا لك ولحمامتك! فأنا لا يهمني شيء طالما انا السيد في الوقت الراهن، وأزيدك علمًا فأنا ادهس عشرات النساء من امثالك كل يوم دون يرف لي جفن! وحين اقتربت السيارة مني كان المسؤول الكبير يتاملني بنظرات وقحة وشهوانية وكأنه يقول: ان من امثالك يدهسن في اماكن مظلمة وبعيدة عن الأنظار.

ثم مضى ولكن نظرته المليئة بالشماتة تجاه الآخرين بقيت معلقة في ذاكرتي اللعينة..فأسرعت وعبرت الشارع وفي داخلي رغبة بالصراخ، رغبة بالأحتجاج، ولكن من يجرأ ان يحتج في هذا البلد؟ اردت ان احتج ضد من دهس الحمامة وعلى سائق المركبة وعلى ذلك الوغد الذي يسمى بصاحب المعالي! كما وكنت اريد ان احتج بالنيابة عن كل المسحوقات من امثالي، ولكن احتجاجي التصق على جدار قلبي وعبرت الشارع وصورة الحمامة مطبوعة في ذهني؛ غير دارية فيما لو كانت آخر حمامة سلام تمر ببلادي.. اتمنى ان لا تكون كذلك واتمنى ان يعم السلام واتمنى ان أنام وأستيقظ لأجد اسرابًا من الحمام ينقر على زجاج نافذتي.. ولكن متى يا ترى سنأخذ بثأر تلك الحمامة الشهيدة؟ أعرف بأن امنيتي هذه بعيدة المنال ولكن من حقي ان اسأل متى ستمتلئ ساحاتنا بالحمام مثل بلدان أخرى؟ ومتى سنطعم حماماتنا من حنطتنا المقدسة بدلاً من سحقها على اسفلت الشوارع؟
5
-5-1999








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فنان بولندي يتضامن مع فلسطين من أمام أحد معسكرات الاعتقال ال


.. عندما يلتقي الإبداع بالذكاء الاصطناعي: لوحات فنية تبهر الأنظ




.. إسرائـ.يل سجنتني سنتين??.. قصة صعبة للفنان الفلسطيني كامل ال


.. عمري ما هسيبها??.. تصريح جرئ من الفنان الفلسطيني كامل الباشا




.. مهرجان وهران للفيلم العربي يكرم المخرج الحاصل على الأوسكار ك