الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


غرفتى الأولى

سهير المصادفة

2013 / 2 / 16
الادب والفن


الغرفة الأولى


كان طلاء غرفتى الأولى متهالكًا وضائعًا فى عدة ألوان تميل جميعها إلى الاصفرار، كنت أرى ــ على صفحته ــ كلابًا شرسة، وملوكًا تُكلل رءوسها تيجانًا غريبة الشكل لم تستطع البشرية تصميمها فيما بعد، وأتابع ــ بشغفٍ ــ هروب طفلة مُعفرة الجديلة تشبهنى تمامًا يعدو خلفها رجل عملاق ذو لحية بيضاء، كان إخوتى الصغار يضيفون كل يوم ما يصلح لأن يكون عينَ نسر أو قمرًا مستديرًا، أو يُحدّد رشحُ الماء من عند الجيران دوائر جديدة فيزداد ثراء المَشاهد.. ظلَّ وربما من غرفتى الأولى هذه ــ والتى كانت لا أدرى لماذا مزدحمة طوال الوقت دون غيرها ــ أوّل ما يلفت انتباهى فى أية غرفة جدرانها.
كانت لى على كل حال عينان متمرستان على إزاحة الأثاث أيًّا كانت ضخامته وإلقائه بعيدًا وتحرير جدار واحد على الأقل مما يعيق رؤيته.. أزحت كنبة اسطانبولى عملاقة وسرير أمى القديم بأعمدته النحاسية وديفانًا روسيًّا لا يستطيع حمله أربعة رجال أقوياء، وصالونًا مذَّهبًّا ماركة روميو وجولييت، وغرفَ نومٍ من موضات متعاقبة وصورًا لقطط قطيفية الملمس وراقصة الكانفاه الشهيرة التى يقعى بالقرب من ركبتيها الطبال بطاقيته الصغيرة وطفلاً جميلاً باكيًا وآياتٍ قرآنية مرّصعة بلمعة زاعقة تدعو إلى الجنون.
ظلّت الغرفة ماثلة دائمًا أمامى وخلفها الحقول التى رغم اخضرارها نهارًا بقيت موحشة شديدة السواد ليلاً مسكونة بكل حكايات الجن والعفاريت والقتلى والمقتولين والأطفال الرضع المرميين فى لحظاتِ تخلٍ مؤلمة والخارجين من السواقى والترع بلونهم الأزرق الباهت.. قليلة هى الذكريات التى أتذكرها قبل السادسة.. ربما جملة مبتورة لا أتذكر قائلها أو نصف حكاية أو مشهد غارق فى عشرات المَشاهد التى تُشبهه، سمعت ــ فى هذه الأيام للمرة الأولى جُملةَ ــ: أننى لست طبيعية. صرخت بها أمى فى وجهى ويبدو أنها كانت تسألنى لساعات عن شىء ما أو تدعونى إلى طعام ما، بينما كنت أتابع ــ على الجدارــ كيف ستتمكن إحدى الأميرات المحبوسات فى برجٍ عالٍ من الهرب من الجنى الشرير الذى يحبسها هناك.
تبدل الجدار المُتحرر من أثاثه والمواجه لعينيَّ مرارًا، ظلّ لفترةٍ تقترب من السبعة أعوام مجرد جدار زجاجى هو محصلة نوافذ عملاقة ملتصقة ببعضها البعض تصفعها ثلوج موسكو وتتراكم على إفريزها لمدة ثلاثة أشهر كاملة، ثم تذوب بعد ذلك على مهلٍ مشكلة أضخم معرض نحت لتماثيل تعرف جيدًا أن مصيرها الوحيد هو الأفول، ثم صار جدارًا ممتلئًا بمئات الكتب التى يخرج منها كل ليلة مؤلفوها يتحاورون معى أحيانًا ويوجهون لى اللوم أحيانًا أخرى وهم يلهون بكلماتى ولكنهم دائمًا ما يربتون بحنان بالغ عند الفجر على كتفى .
مع تبدل الغرف وتبدل جدرانها ومرورالسنوات اكتشفت ــ ببساطة ــ أننا نكاد نُولد هكذا.. على نحو ما سنكون.. جزءٌ كبيرٌ منا ربما هو الجزء الأهم يظلّ محتفظًا بشفرة خاصة تُحدد هويتنا، فأنا ما زلت أرتعد كلّما رأيت حتى على شاشة التليفزيون حشرات صغيرة زاحفة، بينما أتأمل بهدوء الوحوش الكاسرة، وما زلت أحب رجلاً واحدًا رأيت ملامحه وهو يحتضننى آنذاك على ذاك الجدار ــ على الرغم من أن تجليات هذا الرجل خدعتنى أحيانًا وهى تنعكس خلال رحلتى على بعض الرجال ــ وما زلت أسامح السكيرالمأزوم عن الكسول البطىء المتسول.. لا أدرى ما الذى يجعلنى أتذكر ــ بوضوحٍ ــ مقطعًا من ليلة أوى فيها أبى ــ الذى لم يكن يترك فرضًا من صلواته ولم يذق طعم الخمر طوال حياته ــ سكيرًا مُتشردًا أخذ يُمازحه شطرًا من الليل وينهر أمى بسبب إصرارها على طرده من بيتنا، ما زلت أحب سعاد حسنى الضاحكة الباكية الناعسة الصاخبة الحالمة الشبقة البريئة العاهرة المظلومة الظالمة عن فاتن حمامة المسكينة الراضخة، وما زلت أرى النخلات العاليات فى باحة الدار وهى تزحف إليَّ، وما زلت أرى الكراكيب على ضوء الشارع الذى يتسرب من الشيش وهى تتحول إلى جِمالٍ صغيرة وراع يحمل عصا أو فتاة وفتى يتبادلان الحب خلف خباء، تبقى الكراكيب مغطاة على حالها بشراشف قديمة، وتتبدل الحكايات والشخوص كل ليلة، وما زلت أصدق أن أرواحًا ما تسكن الأركان وتضيق أحيانًا برتابة وضع الأثاث فتحركه بضعة سنتيمترات من آن إلى آخر، وقد تمر بلحظات ضيق أو لمجرد اللهو فتصفع غطاء الأباجورة ليعمّ الظلام فى الغرفة فأسمع تنهيدةَ ارتياح واضحة.
أو ليس مدهشًا أن ما تغير فى استقبالى للعالم هو سقوط بعض القشور.. ربما كانت هى القشور التى سقطت من طلاء غرفتى القديم ونمو قدرتى على إزاحة الحقول والنخلات السائرات والغرف والبيوت والجدران بجميع أشكالها لأتابعَ ــ فى فضاء افتراضى شاسعٍ ــ شخوصًا تخرج منى كلّ ليلةٍ، وأطاردَ فيه نهاياتِ رواياتٍ من تأليفى أنا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاخت سهير
جمشيد ابراهيم ( 2013 / 2 / 17 - 09:21 )
قصة رائعة اخذتيني معك الى جدارك لاعيش عالم يجتمع على جدار واحد و اعيشه دون ترك الغرفة تذكرني هذه القصة بقصة اللكاتبة
Patricia Highsmith
بعنوان
I like to look
اليك الرابط لقصة تشبهها من بعيد كتبتها بالانجليزية
http://www.jamshid-ibrahim.net/273.0.html
تحياتي القلبية

اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل