الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين عزيزين

عدنان اللبان

2013 / 2 / 18
الادب والفن




السياج الخارجي للبيت يرتفع عن الشارع قليلا والبوابة تكفي لدخول شاحنة صغيرة الحجم , عند الدخول تظللك قمرية عنب توصلك الى طارمة وضعت فيها عند المدخل الى البيت اريكتا خشب وبعض الكراسي , جلس عند الباب شاب ملتحي يحمل بندقية , ترك الكرسي عند دخولنا ووقف عند السياج الخارجي . لم يمض وقت طويل وعاد الذي اصطحبني وقد تغيرت سلوكيته بالكامل واخذ يعتذر لأنه لم يعرفني , وبدل البندقية التي كان يحملها يحمل صينية فيها استكان شاي وقنينة ماء وضعها على الطاولة الصغيرة امامي , وسألني ان كنت ارغب بشئ ؟
شكرته , وأكدت : اريد فقط ان ارى مسئولكم .
مثل ما تريد , اجابني : يكمل شغله بيده ويجيك .
تغيّر سلوكيته اعادت لي بعض الاعتبار , وقدرت ان احد المعارف في المقر شاهدني من خلف زجاج الشباك واخبره بشئ جعله يحترمني .

كان معي في السيارة صديقي عباس , توقعت ان لا يتركني وحدي عندما انزلتني المفرزة .
كان يدافع عن حقيقة تملكته , واقسم بالله العظيم انه : متأكد من ان سيد حسن يمتلك جني .
سألته : هل رأيته ؟!
لا, اجابني بانزعاج : شلون واحد يشوف جني ؟! لو تريد تتمسخر ؟
اجبته : اريد اعرف انت بأي طريقة تأكدت ؟! لو غيرك حاجيها اكَدر استوعبها , مو انت .
عباس : ذهبت اساله من يكون الذي سرق المئتي الف دينار من زوجتي وهي في البيت ؟!
سألني : من دخل البيت في ذلك اليوم ؟
اخبرته : اربعة , وعددت له اسمائهم .
أجابني بانفعال بعد ان عمل بعض الاشارات وتحدث بكلمات لم افهمها : وليد , وليد , ابن اختك وليد .
وعندما جئت بوليد اليه , وليد تفاجأ واخذ يرتجف من الخوف , وسأله بصوت آمر : وين الفلوس ؟؟؟
وليد تلعثم واخبره بأنه صرف منها اربعين , واخرج المئة والستين الباقية .
سيد حسن معلم , وسمعت بعد ان رجعت الى العراق ان والده رحمه الله كان يشور , وقد كنت اعرف الوالد جيدا( الهبري كاتله ) كما يقول العراقيون وعايش على الصدقة , ويبدو ان سيد حسن استورث ( شارة ) الوالد بعد ازاحة النظام الصدامي , ومنها (عرف ) ان السارق وليد , ووليد طالب في الصف السادس الابتدائي عند سيد حسن في المدرسة , ويسكنون في ذات الشارع .
ضحكت وهززت يدي .
اجابني بعصبية : والله لو تشوف الجني بعينك هم ما تصدكَ .

لم اعد ادرك الوضع , عباس ما الذي جرى له وأصبح يؤمن بالجني ؟! كان لاعب كرة قدم , وكثيرا ما يسألني ابني الذي يحب اللعبة عن امكانيات عباس الفنية الكبيرة التي حدثته عنها , ابني قدم من العراق وهو طفل , ولرغبتي في تنمية مشاعره بحب العراق اذكر له الكثير من الذكريات الجميلة مع عباس , وفي بعض الاحيان اكذب واختلق حالات اعرف انها ستغرس وتنمو في ذاكرته , وتجعل من العراق اجمل ما موجود في الوجود . ابني يلح علي بالذهاب الى العراق .
يسألني : لماذا ذهبت انت عدة مرات ؟ ولم تدعني اذهب معك لمرّة واحدة ؟!
ومن الصعوبة علي ان اعترف له ان الوضع الآن اسوء مما كان عليه الحال مع صدام بسبب الاحزاب الدينية وهذه المليشيات الطائفية , وماذا سيقول عندما يراني بوضعي هذا ؟!
عباس كان يرغب بدخول الكلية العسكرية , ولكونه ليس بعثيا رفض طلبه , وعندما كان في السنة الثانية كلية الهندسة كان البعث يخطط لبناء مؤسسة التصنيع العسكري الضخمة , فعرض على جميع طلاب كلية الهندسة ان يقبلوا ضباط برتبة ملازم اول وراتب من اول يوم اذا قبلوا ان يسجلوا بعثيين . رفض عباس , وسيق بعد التخرج جندي مكلف , وفي الحرب مع ايران سحبت مواليده لخدمة الاحتياط , انفجرت بالقرب منه قنبلة ودخلت شظية كبيرة في جهة اليته اليمنى , ويبدو انها كانت ملوثة مما ادى لاستئصال جزء كبير من اليته .
صديقنا الخياط خضير يقول : آني تك عين يسموني اعور , تك رجل يسموه اعرج , انت شيسموك ؟ تك فردة ؟ لك هاي حتى بالقاموس ما موجودة , حيرتني شلون راح افصل بنطرونك .
ابني يرتاح كثيرا عندما انقل له اجواء الالفة هذه , وتبقى التعليقات الساخرة عالقة في ذهنه .

نظرت الى ساعتي , مضى اكثر من نصف ساعة . كان البعثيون يذلون من يستدعونه للمنظمة او لدائرة الامن بالانتظار لساعات , وبعض الاحيان يصرفونه بدون اي سؤال ويطلبون منه القدوم يوم آخر . ويبدو ان الجماعة تدربوا جيدا على ايدي البعث , والصانع مثل ما يكَول المثل يصير ستاد ونص .
الشاب الذي فتش السيارة سألني : شنو هذا حجي ؟!
اجبته باستغراب : ويسكي , ما شايف ويسكي ؟!
الشاب : اعرف , شلك بيه ؟
سألته : قابل اتشطف بيه ؟ اشربه .
ضحك مع ضحك الجالسين في السيارة , وأراد ان يسمح لنا بالذهاب , الا ان آمر المفرزة الذي جاء بي الى المقر لم يكن بعيدا , وقد استفزه الضحك وعرف بوجود الويسكي فقال بغضب : وجماله تصنف ؟! بهذا العمر وتشرب ؟ بيا وجه راح تواجه ربك ؟! ما تعرف احنه منعنه كل الشرب بالولاية ؟
اجبته : هو لو موجود بالولاية ليش اجيب من بغداد , بعدين انت شنو علاقتك بيا وجه راح اواجه الله ؟! كل لشه معلكَه من كراعها . انت حاسبني اذا اكو قانون يمنع الشرب ؟!
لم يتحمل الجواب فصرخ بوجهي : احنه نمنعه , انزل ( وسحب كيس الويسكي ) , انزل اكَلك ( سحبني بشدة ) . وأمر السيارة بالذهاب .

عباس يجلس بجانبي , وعندما انزلوني ادار وجهه الى الجهة الثانية وكأنه لا يعرفني , وماذا يمكن ان يفعل ؟ احترم نفسه قبل ان يهان مثلي .
سيؤنبني عندما يراني : الم اقل لك ان لا تحمل انت الويسكي ؟ نتفق مع سائق يخفيه لان الجماعة يفتشون , بس انت ما تاخذ كلام .
والحق انه قال هذا , ولكن بدون اصرار , ولو تيسر سلامة القنينتين لما شربت غير نصف قنينة , وهو سيشرب القنينة والنصف الاخرى . عباس يقول انه لا يشرب , ولكنه يشاركني في شربي لأنه لا يريد ان اشعر بالوحشة , رغم ان الطبيب منعه من الشرب الا انه يخاطر لأجلي . عباس صديقي منذ الطفولة , وفي قدومي الاول بعد ازاحة نظام صدام لازمني مثل ظلي , علاقتي بأهل مدينتي تعمقت اكثر رغم اني فارقتها لخمسة وعشرين عاما بين الاختفاء والأنصار في كردستان والغربة , ولم يبق من اهلي في المدينة غير شقيقتي التي اسكن عندها , اقربائي وأصدقائي هم اهلي الحقيقيين , وتتالت الدعوات من المعارف , عباس لم يتركني وحدي , وتولى تعريفي بكل من شقت علي معرفته من اول وهلة , كان حريصا على ان لا احرج بتحية الاحبة التي اكلت سنين البعث الطويلة نظارتها , ويوصيني باستمرار : ان لا اذهب وحدي .

خرج من احد البابين آمر السرية الذي عرفني باسمه (عامر) بعد ان صافحني وقبلني , اعتذر عن التأخير , واخبرني ان عباس اتصل به واخبره بضرورة اعادة القنينتين .
وأضاف : استاذ يمكن ما عرفتني , آني جنت طالب عندك بثانوية العزة .
ثانوية العزة في الجانب الثاني من الكوت , والعزة افقر احياء الكوت .
اجبته : يا اهلا وسهلا , بس اريد اسألك اكو مادة بالقانون تمنع الشرب ؟!
عامر : والله العظيم افهمك استاذ , شتسوي ؟! ( خفض صوته وأشار الى الغرفة ) عقلهم هذا , يا قانون يا بطيخ ؟ شفتك من الشباج وسألته لهذا الجابك " المن جايب ؟ لك هذا الوكَف بوجه صدام من جنه كلنه طليان , لك هذا ابونا كلنه " احسبه علي ولا يبقى بخاطرك استاذ (و قبلني ) .
علقت : والله ما اعرف شكَلك , تعرف هو هذا شلون جرني من الياخة ونزلني من السيارة !!
عامر : ابوسهه لأيدك استاذ على كيفك ( خفض صوته الى اقصى حد وسحبني الى الباب الخارجي ) هذولة ما تعرفهم , هذا الجابك نفسه جان يركض وره الناس يطوعها بالجيش الشعبي , والعالم صاحت الداد منه , سقط صدام تاب وسجل ويه الجماعة , وباسم الدين مابقه شي يعتب عليهم . المهم استاذ , بعد صلاة العشه البطلين اذا الله سهل آني اجيبهن للبيت ,( قبلني ) ودعته وذهبت .

اعتقد لولا الويسكي لما توسط عباس عند عامر , اكد له على قنينتي الويسكي كما يقول عامر . عند قدومي الاول في بداية السقوط عام 2003 كان يسألني عباس عن وضعي , وكيف قضيت هذه السنين الطويلة ؟ كانت رنة صوته تشي بالحرص والقلق كما اعتقدت , وعندما احدثه عن الاشكالات التي واجهتنا في الانصار عندما كنا في كردستان , او الصعوبات في الغربة , يرخي اجفانه , ويشعرك بتعبير وجهه ان لا طاقة له بسماع هذه المآسي . كان حريصا على معرفة عملي , وكم اكسب , وهل ادخرت شيئا يفيدني بالاستثمار في العراق ؟ ولتلطيف الجو يسألني : كيف اتمتع بجمال السويد والدول الاسكندنافية ؟ ويكملها بحسرة : خوما مثلنه . كان يأمل ان يكون معي مبلغ محترم كي نبدأ سوية بمشروع مشترك , وهو يمتلك علاقات جيدة مع الاحزاب الشيعية ويمكن ضمانة الفوز بالكثير من المقاولات . الا انني خذلته , وخاصة حينما اكدت له باني لا املك حتى بيت اسكن فيه , بل اسكن بالإيجار .

كنت انقل لوعة عباس وقلق نبرته الى ابني , ابني قدم الى السويد طفلا وأصبح عباس بالنسبة له العراقي الشريف الذي يتمثل به لكثرة ما حدثته عنه , كنت انفي عن عباس جميع الصفات التي تعوّد ابني من خلال تربيته في السويد على رفضها , فهو لا يكذب , صريح وصادق , ولا يسأل عن حجم الراتب , ولا عن الدين , او القومية , ولا عن من انتخب من الاحزاب , ولا اين تقضي اوقات فراغك , ولا عن تفاصيل حياتك , والحرية الشخصية مقدسة بالنسبة اليه . وفي نفس الوقت كانت تجري في عروقه الحنية والانتماء الى الجماعة ( اصدقاء , رفاق , ابناء طرف , عراقيين ..) اكثر من الاستقلال الشخصي . صورت له اسئلة عباس اشبه بالحنايا التي تحمل غطاء الكوخ , وكم كان اعتزازه بهذه الحنايا بعد ان شرحتها له . اكدت له ان عباس صديقي قبل اكثر من ثلاثين عاما , وعندما يسألني عن تفاصيل حياته الحالية , اجيبه بالذي اعرفه عنه سابقا , وكم احرجني بأسئلة معاصرة عنه , والحقيقة اني لا اعرف الآن عن عباس كثيرا , فهو لم يوضح لي وضعه وإمكانياته الحالية , ولكني عرفت ان بيته الكبير الذي يسكنه هو ملكه , وعندما سألته عن شريكه الذي يعمل معه في اخذ بناء بعض البيوت تهرب ولم يجبني , ولكني عرفت انه يعمل مع ابنه المهندس ايضا.

جاء عامر بقنينتي الويسكي , وجلسنا انا وعباس نحتسي سوية . عباس اعز اصدقائي وكم بذلت من جهد كي اديم تصوري لعلاقتنا السابقة , وكم كذبت على نفسي وعلى ابني عندما احدثه عن تكافؤ علاقتنا ورفقتنا السابقة على انها مستمرة الى الآن وبنفس الروحية , وكيف كان الوفاء للرفقة والحزب اقدس شئ , وكم ذكرت له من الرفاق الذين دفعوا حياتهم ثمنا في التعذيب كي لا يكشفوا اماكن اختفاء رفاقهم . المشكلة ليس بالعصابات والمليشيات والوضع الامني الذي اتحجج به لابني كي لا يذهب , فهذه كلها ستنتهي , ولكن كيف سيفهم حقيقة عباس ؟! وكيف ان عباس قد تجرد عن الكثير من براءته حاله حال الكثير من العراقيين , وبدل الاثرة التي كانت تسيّره اصبح الاستئثار هو الذي يحركه . . كيف سيحتفظ ابني بعمق مشاعره ونبل رغبته بالعودة الى العراق؟
اوصلت لعباس في لحظة غضب تملكتني بكوني لست غشيم , وقد تكون بسبب تأثير الشرب : باني رغم ابتعادي عنهم طيلة هذه الفترة الطويلة , الا اني افهم وضعيتهم جيدا , وأدرك الانحطاط الذي وصل اليه المجتمع , الضحالة , والبخل, والكذب , والجدوة , سمات عامة ومشتركة بين الجميع , ونادر من استطاع الخلاص منها وحافظ على جوهره .
نظر في عيني طويلا , وأخذت ملامحه تتلبد وخفض بصره , لزم ذقنه بيده اليسرى ورفع وجهه , كانت المرارة تنهش ملامحه , احتقن وجهه ولم اره بهذا السمار , ندمت , اردت التراجع , ولكني عجزت عن الكلام , وفهم الكلام جيدا انه موجه اليه, كان نظره قد تجمع بشعاع عله يساعده في حفظ كرامته .
خفض بصره , وبصوت بالكاد يسمع : والله العظيم ظلمتني .
وتناول كأسه وأفرغه كاملا في جوفه ,وتناول القنينة وملئ كأسه دون ان يضيف له قطرة ماء , رفعه , ولم يتمكن من افراغه بالكامل , اعاد نصفه الى الطاولة , لم يتناول ولا حبة فستق واحدة , انتظر لتهدأ هجمة الكحول . افرغت كأسي وتشاغلت بإعادة تهيئته .
وبصوت متقطع لم اعرف هل هو بتأثير الشرب , ام اراد ان يوحي بعمق المرارة التي تملكته : صار لي .. اكثر من عشر سنين ( ورفع يديه بأصابعه المفتوحة ) .. ما حاط هذا القز القرط بحلكَي .. تعرف اني لخاطرك اشرب .. ما اريدك تشعر بالوحدة .
اجبته : اعرف , كل الزين اعرف .
رفع يده بحدة وقاطعني : ارجوك , ارجوك خليني اكمل .آني اللي اعرف انتوا تختلفون عنا , لان انتوا عشتوا حياة طبيعية رغم كل العذابات اللي شفتوها , لا تكَلي احنه ناضلنه وتأذينه اكثر منكم .
نظر في عيني مباشرة : لا , احنه ما سكتنه , احنا حاولنا , الأمريكان , الامريكان مو غيرهم صدكًنه همه ضده من طلعوه من الكويت , والله سقطناه , لكن بخيمة صفوان رجع ابنهم . تكَدر تفسر لي ليش الامريكان منعو العراقيين بالانتفاضة , وبحجة ايران ؟ تعتقد لو ناجحه الانتفاضة تكَدر ايران تتلاعب بالعراق مثل ما تتلاعب بيه اليوم ؟!
وبصوت جازم وحركة قاطعة من يده : آني اكَلك لا . صدام مو هوالمشكلة بعد تحرير الكويت , الامريكان , الامريكان بعد ان ثبتوا بالحكم فرضوا الحصار , الحصار اللي هشم كل شي ماكَدر يهشمه صدام , صرنه لعبه بأيدهم , مثل ما يردون يلعبونه و دتشوف بعينك الوضعية .
لم اتمكن من السيطرة على نفسي فطلبت منه : ان لا يضع كل شئ في راس الحصار مثل الآخرين .
اجابني بعد ان افرغ كأسه سريعا : واعرف هم راح تكَلي اعرف الحصار . نعم تعرفه , لكن المعرفه شي والإحساس بيه شي آخر.
يكمل بعصبية : تعرف شيصير بيك وابنك يسألك من يشوف موزة وعمره اكثر من عشر سنين : يابه هم ماكل موزة ؟!
تجاوبه : نعم .
يسألك بلهفة : شلون طعمها ؟
تكذب عليه تكَله : مو حلوه . وحيرتك تنسيك حتى علاقاتك بأعز اصدقاءك .
وزعوا طحين ما اعرف شمخبوط , الخبز ماله اسود , بعد اقل من ساعة اختلق الف حجة حتى اطلع من البيت , بطني راح تنفجر , وبحجة اتمشى اصرف الغازات لان اخجل اطلع اي صوت وتسمعني مرتي وجهالي , همه يعرفون ليش اطلع لان عدهم نفس المشكلة . هذا بالبداية , اجه الشته والخجل يوم عن يوم قل , والغرفة بعد كل ربع ساعة نضطر نشيل البطانية اللي بمكان الباب قبل ما نختنك , لان الباب بعناها , اطفالك وزوجتك يخجلون ان يتلفظون بأسماء الغازات بصوت وبدون صوت لان يعرفون انت تنحرج . تعرف ؟ اطفالنا مو اطفال غيرنا يبوكَون من عدنا حتى ياكلون , واكو آباء ياكلون بغفله عن اطفالهم , تعرف النسوان شيسون حتى يعيشين اطفالهن ؟! معلمين وأساتذة جامعة يبيعون اسئلة الامتحانات النهائية , ضباط امراء وحدات يبيعون اجازات للجنود , مدراء شرطة يتقربون للبكَاكَيل على كيلو مخضر , والبكَال صار الطبر ما يكص خشمه . نذّلينه , كرامة ما بقت عدنه , حتى الولد كبروا وهمه ما يعرفون يشترون حاجة لنفسهم , لان آني وأمهم المعلمة لازم نحسب كل فلس من تقاعدي وراتبهه وما نشتري شي الا اللي يبقينا على قيد الحياة .
اردت ان ادفعه لتغير الموضوع : حتى الكَعده سويتهه عزى .
نظر في وجهي , واجبر نفسه على ابتسامة لم تتمكن من تغطية تقلصات عصبيته , فتشوه وجهه بشكل مؤلم من تعاكس الحالتين , واخرج صوتا لا هو بالأنين ولا هو بالضحك , وقال : اريد اضحكك , بس لا تحسبهه على الحصار .
لا يمعود , الله وأيدك .
ابني , ابني الصغير بالألفين ما نقبل بالمدرسة لان ما مكمل الست سنين , لكن يا سبحان الله شكَد موهوب بالغنه , من تسمعه ما تصدك هذا عمره , كَاعدين آني وأمه وأخوته اثنينهم وأخته , والكل متضايقة من الغازات , الصغير انفجر بأغنية كاظم الساهر :
ضرطت الشط على مودك خريتك على راسي
كل هذا وكَلت اكثر يمه اتشكَك لباسي
ضحكت بقوة .
وأكمل عباس : مثل ما انت ضحكت انفجرنا كلنا بضحك هستيري , ومن شدة الضحك الولد ارتبك , خاف , يتلفت علينه واحنه نضحك , هو يعاني من سوء تغذية ولونه مترب , صارلك اصفر مثل النومية من الخوف , حضنته امسد على شعره , سالته : هاي منو العلمك ؟
اجابني كعادته بخوف : والله ما احد علمني .
كان يخاف ان يقول انه احد اخوته الذي ينقل كل ما يمس هيبة السلطة الى البيت , وفي احدى المرات اضطررت لضربه كي يترك نقل هذه السخريات , واعدت عليه ما كررته عليهم سابقا : ان صوفتنا حمراء , وكلامنا يفسر ليس مثلما يفسر كلام الآخرين , والصغير كل شئ يتعلمه من اخويه يقول انه سمعه من الشارع , وأمه لا تسمح له بالخروج الى الشارع .
ضحكت , وأردت ان يستمر جو الضحك .. شعرت بسذاجة رغبتي عندما استعادتني رهبة صوته وهو يكمل : "كنا نخاف ان نضحك من كل قلوبنا .. " , وتلاشت ضحكتي في فراغ ذلك السكون الذي سيطر على كل شئ .
خفض رأسه ولزمه بكلتا يديه كمن يضغط عليه نتيجة صداع .
اردت ان اخفف عليه : آني مو قصدي انت , ليش انثاريت ؟!
اجابني بمرارة : حتى اذا قصدك مو آني , لا زم تعرف موكل العراقيين سوه .
تناول كأسه المملوء الى نصفه : آني مو كحف , وآني ما محتاج وحالتي زينه . لكن الحرمان والفقر والجوع اللي شفناه هو اللي يخليني ما اصرف فلس واحد بدون سبب . من انت رجعت انتشت مشاعري اللي فقدتها من زمان , ومن تروح ارجع للجفاف اللي تعودت عليه , صدكَني حتى زوجتي وأطفالي يشعرون آني اكون لطيف من انت تجي , صدكَني بدون خيمتكم ما راح نرجع لإنسانيتنا .
سقطت دمعه من عينيه .
وقف , رفع القنينة وأكمل املاء قدحه , افرغه دفعة واحدة وأعاد الكأس الى الطاولة , تناول سترته وخرج مترنحا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع