الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رسائل من العالم الآخر

جمال الدين أحمد عزام

2013 / 2 / 19
الادب والفن


رسائل من العالم الآخر

كان يوما صعبا، أصعب يوم منذ بدأت المعارك، فقد وصل بنا الأمر إلى مواجهتهم مباشرة. أخيرا، تقابلت الأعين المتحدية الغاضبة المتشوفة للدم و قد أفسحت البنادق التي نفذت ذخيرتها المجال للنصال الحادة. أخيرا، ترشش وجهي بدمائهم، لا أعلم كم قتلت منهم قتلا مباشرا بالسكين. ما زالت رائحة دماءهم تفوح مني رغم إغتسالي منها و مازالت أصداء صرخات أرواحهم المفارقة تتردد في أذني بين الحين و الحين رغم انقضاء أسبوع على تلك المذبحة. لم تفلح أسلحتنا الحديثة في تجنيب الطرفين تلك المنازلة المملؤة بالغضب و العنف و اللكمات و العضات و نثار الدم و اللحم العالق بأجساد القاتلين و المقتولين.
هكذا هي الحرب، إذن بالقتل، إذن بإخراج العنف المكبوت أو استجدائه لمن رقت نفوسهم، إذن بتحرير مارد الغضب المجنون ليعيث في الأجساد تدميرا و في الأحلام تحطيما. إنها إذن بتبديد مستقبل ثلة من البشر اتفقوا أن يلعبوا لعبة القتل من أجل قضية عادلة أو أطماع زائلة. و في كل الأحوال، المحصلة دم مراق، دم شهيد مع دم مقتول، كلاهما لإنسان.
لا أعلم لماذا ازدادت وطأة الحرب علي مذ شرعت في كتابة هذه المذكرات. ربما لأني أعيد كتابة ما سبق و كابدته في يومي فكأني أحارب كل يوم مرتين! و كلما كتبت ما حدث هالني أني مررت بتلك اللحظات الحاسمة و أني ما زلت حيا، رغم أنه قد يكون الفارق بين الموت و الحياة عند حلولها أقل من لحظة يتحدد فيها مصيري. الكارثة أني أجد نفسي مطالبا بخوض نفس التجربة بعد نجاتي ربما بثانية، فالآلة المجنونة بدأت في الدوران و انطلقت و لا سبيل لإيقافها إلا بأمر ممن جعلونا تروسها.
قبل الحرب و مهما تكن دوافعك و معنوياتك و عدالة قضيتك، و مهما تكن قدراتك على القيادة و الإنصياع، و مهما يكن قدر التدريب و قدر القوة البدنية و العقلية، لا يمكن لأحد أن يتصور ما يحدث عند خوض المعمعة بالفعل. لأن الأمر يتحول إلى لعبة مربكة بين الحرص على النجاة و الحرص على تحقيق الهدف. فيكون عليك أحيانا أن تنسى غريزة البقاء لتواجه القذائف و الرصاصات لتحقق هدفك. و في أحيان أخرى فاصلة عليك أن تنسى هدفك للإبقاء على حياتك. يكون بطلا من يتقن تلك اللعبة، يكون بطلا من يمشي على ذلك السلك المشدود على سفح الموت بين حياته و هدف حدد له. فإن نظر أمامه رأى هدفه و هو متجه إليه و إن نظر خلفه، رغم صعوبة ذلك، رأى حياته و هو يبتعد عنها. و عليه أن يصل إلى هدفه فيحطم أو يحرق أو يحتل أو يأسر ليصيح في الموت أسفله بأنه مازل حيا فيُمهَل. فإما أن تنتهي الحرب قبل أن يسقط من فوق السلك ليتبخر الهدف فينجو، أو يسقط قبل أن تنتهي فيُقطع السلك لينصب مكانه آخر واصل بين حياة آخر و نفس الهدف الذي لم يدركه سابقه، فيعتليه، فإن لم يفلح إنتصب سلك آخر و آخر حتى يتحقق الهدف. و قد يكون اللاعب محظوظا إذا أصيب فوق سلكه فجُرَّ إلى الخلف، إلى حياته، أو إلى موته المؤجل. و تستمر اللعبة المجنونة و تظل تنصب أسلاك أخرى لآخرين واصلة بين حياتهم و أهداف رصدت لهم. أسلاك مشدودة بعمق جبهات القتال فوق أشلاء و جثث. أسلاك تنتظر أن تضع الحرب أوزارها لتتبدد كاشفة عن مصائر شعوب بأكملها.
مشكلتي أن سلكي ليس لي وحدي بل يتبعني عليه باقي عناصر وحدتي، و علي بصفتي قائدهم ألا أنجو بنفسي وحسب. فعند خروج رأس الموت من قمقمه يتوجب علي حمايتهم. و الحماية قرار يؤخذ في جزء من الثانية. و قد يكون هذا الجزء هو ما يحدد نجاحك كقائد، و حينها ربما لا يكون معيار النجاح هو تحقيق الهدف بتحرير موقع أو تحطيم حصن بقدر ما يكون أحيانا مجرد الإفلات من قبضة موت أمسكت بك و بمن هم تحت إمرتك.
من السهل في الحرب أن تكون جنديا و لكن من الصعب أن تكون قائدا. و إن كنت أعترف أنه عند اللحظات الفارقة عندما يوشك الموت أن يدركني، أنسى القيادة و الجنود و الحرب و لا أفكر سوى في النجاة. ثم علي أن أتجرد من غريزة البقاء مرة أخرى بعد مرور تلك اللحظة و أن أنسى أني لثانية كنت إنسانا يريد أن يحيا لأتذرع و جنودي لتلك الغريزة بكل حجج الواجب و الإخلاص لقمعها حتى لا تنال من شجاعتنا التي لا تنفك تلح علينا بأن الموت أتفه من أن يعتبر و أن علينا المواصلة.
و على الرغم من أنهم علمونا أن الشجاعة هي وسط بين التهور و الجبن، إلا أن مساحة هذا الوسط كبيرة، فربما يكون من جنودك شجاع أميل للتهور أو شجاع أميل للجبن. و يكون عليك بذلك أن تعرف جنودك جيدا عندما توكل إليهم المهام إن كنت تريد أن تنجح. فهم ليسوا جنودا بلاستكيين كاللذين كنا نلعب بهم في طفولتنا، إنهم في النهاية بشر اختاروا أن يضحوا بحريتهم و بأحلامهم بل و بحياتهم من أجل حرية آخرين أو ربما أطماعهم.
نحن جميعا قادة و منقادين، أداة في يد ظالم أو صاحب حق. وعلى القادة أن يصنعوا عقائدنا ليتولد منها دوافعنا لخوض تلك الحمى سواء كنا مجبرين عليها من أجل أوطاننا أو مجبرين عليها من أجل دنيا يصيبها آخرون.
و على الرغم من عدالة قضيتنا و أننا نحارب لاستعادة مياهنا، قوام حياتنا المسلوب، إلا أن تلك العقيدة الصحيحة و رغما عني تنأى بعيدا في كالوس النفس لحظة أوشك على الموت، فلا يبقى على مسرح سريرتي إلا حرصي على النجاة من أجلها. أنجو لأستدعيها مرة أخرى أو ربما هي التي تنجيني لتستدعيني. تختبئ في تلك اللحظة المصيرية و يخفت صوتها كيلا تجعلني أستبسل بموتي في تهور أو أستسهله في بلاهة، ثم تستدعيني بعد ذلك في سبيلها. يبدو أنها تدافع عن نفسها كما أدافع أنا عنها.
و لكن أزمتي الحقيقية ليست في العقيدة التي من أجلها أحارب و من أجلها أعاني كل تلك المعاناة، أزمتي هي أزمة معرفة بما من أجله تشكلت تلك العقيدة. مشكلتي مع مفهوم الوطن نفسه. ففي الوقت الذي أجدنا فيه مقتنعون تماما بما نفعل، تفتتنا المعارك من الداخل و تحشرنا في تفاصيل صغيرة فننشغل بأهداف جزئية، مواقع و متاريس و موانع و خنادق و جروح و آلام و مؤن و إسعاف. نبتعد و نبتعد و يسن الروتين قوانين لعبتنا و تتسطح رؤانا و نتمثل الآلات و يصبح الوطن بعيدا بعيدا رغم أنه في قلوبنا مكينا مكينا. ذلك أنه أحيانا من كثرة الإقتراب تتعذر الرؤية و مع انعدام المسافة تمتنع الحركة. اكتشفت بعد مرور الوقت و في لحظة طفا فيها رأسي فوق غبار المعارك أنني ملتصق بالوطن التصاقا روحيا بحتا جعل المسافة بيني و بينه عدما ليحيله إلى مقدس مجهول أبحث عن ملامحه فلا أستطيع لأنه تحول إلى مطلق يعلو عن التصور و الفهم.
هذه آفتنا نحن نبت المدن الجديدة و الحضارة الحديثة. قوالب الأسمنت و ألواح البلاستيك عزلتنا عن التراب فترفعنا ظنا كل ترفع أبله فإذا بنا، و على الرغم من انغراسنا في الحس حتى رؤوسنا، نقطع من حسنا قضايا تحت زعم القدسية و نلقي بها مجردات في المطلق. أي رفعة حمقاء هذه التي نقحم فيها على الذات إنفصالا بين حس و معنى لقضايا لا نعلم حسها من معناها. ما الذي دفع مجتمعاتنا البلاستيكية التي لا جذور لها لتجريد الوطن و إحالته إلى فكرة مثالية محضة و كائن جوهري مترفع عن المادة. بأي حق و بأي علم فعلنا ذلك لتصبح النغمة الآمرة: انتمي للوطن، أحب الوطن، إعمل من أجل الوطن، ضحي من أجل الوطن. و إنني على يقين أننا، أدعياء هذا الزمان، لا نعلم ما هو الوطن. الوطن بالنسبة لنا فكرة جوفاء خالصة من كل حس ممكن. و أنا و إن كنت أضحي من أجل الوطن و أعلم أن واجبي يحتم علي ذلك، إلا إنني أدافع عن شيء، بالرغم من تمام يقيني بحقيقته و قدسيته إلا أني لا أعرفه لأني لا أشعر به. إنما أنا أنتمي لفكرة و أدافع عن فكرة لا أنكر بسالتي في سبيلها، و لكنها تظل مجرد فكرة.
..تمام يا سيدي، الشاي. تركت القلم و أغلقت الدفتر..شكرا يا محمود. هم بمفارقة الخيمة، فبادرت..اجلس يا محمود..حسنا يا سيدي. جلس العريف أمامي و قد ارتسمت عليه الجدية..ليلة طويلة يا محمود، أليس كذلك؟..نعم يا سيدي. ارتشفت قليلا من الشاي..استرح يا محمود، كفاك رسمية، أريد أن أتكلم معك قليلا..كما تريد يا سيدي. ارتخت ملامح العريف المشدودة. فاجأته بالسؤال..قل لي يا محمود، ماذا نفعل هنا؟! قال بصوت عال و في جدية..ندافع عن الوطن يا سيدي! ضحكت..إهدأ يا محمود، أنا لا أختبرك. نظر إلي في استغراب..على كل، قلت الحق، نحن هنا للدفاع عن الوطن و لكن ما هو الوطن في رأيك؟ لم يزل مستغربا و إن أجاب ببساطة..الوطن هو بلدنا، قريتي، أمي، الدار، الأرض، أحواض البرسيم و جاموستنا التي تدير الساقية. ضحكت..يال حظك يا محمود إذ لديك إجابة، ليتني أستطيع أن أجد إجابة بليغة كإجابتك..عفوا يا سيدي الرائد، فعلمي لا يقارن بعلمك. ضحكت حتى اهتز جسدي..فعلا، فأنت أعلم مني.
دخل علينا الرقيب مسعود، أدى التحية..خير يا مسعود. مد يده بظرف أبيض..رسالة يا سيدي. استغربت..أية رسالة؟! تناولتها منه، قلبتها مغمغما.. إنها ليست رسمية. ثم واصلت صامتا، من سيرسل لي رسالة، أبواي ماتا و اخوتي تفرقوا في الأرض. قرأت عنوان المرسل إليه: الرائد/ جلال سعيد علي، الكتيبة 15، الوحدة 6. العنوان صحيح. قلبت الظرف، ها هو الراسل: أديم صلاح مرسي، و تحته عنوان لا أعرفه. شرعت في فتح الظرف فبدا على الرقيب و العريف الإرتباك فصرفتهما و أنا أتساءل، من أديم هذا يا ترى. شرعت في القراءة...

"عزيزي جلال
لقد ترددت مليا قبل أن أرسل إليك هذا الخطاب لعلمي بما سيترتب عليه (وفقا لاتفاقنا) من أمل تنشده. و لكني أرجوا أن تلتمس لي العذر فكل شيء قد تم بسرعة و بطريقة لم أكن لأقبلها لولا الضغوط التي أحاطت بي بسبب تأخري المزعوم في الزواج. أعرف أنك لمست مني صدا بعد خطبتنا التي تمت على عجل و قد كان لطفا منك أن فتحت لي بابا للتراجع و لم تؤثر على قراري. و قد فكرت بروية وتراءى لي أنه لا بأس بك كبداية - ربما تضحك الآن-"، ضحكت رغم عدم فهمي لأي شيء ثم واصلت، " و عليه فقد نفذت اتفاقنا بأن أرسل إليك خطابا في حالة موافقتي على إعطاء فرصة لعلاقتنا، و بذا يمكنك الآن و حسب الاتفاق أن تراسلني. و لكن عليك أن تعلم أن ذلك ليس وعدا بشيء، إنها مجرد محاولة لنتعارف بعمق أكبر. و إن كانت الحرب قد فرضت علينا هذه الطريقة إلا أنه ربما تكون الكتابة أكثر كشفا لذواتنا.
اكتب لي لأطمئن عليك، أعلم أن المراسلة ستكون صعبة في تلك الأجواء و لكني أعول على حظي السعيد فطالما كنت محظوظة.
...أتمنى أن تعود سالما معافى...
أديم"
قلت بصوت عال..ما هذا؟! دخل العريف..هل هناك شيء يا سيدي؟..كلا، لا شيء، انصرف يا محمود. لم يكد ينصرف حتى دوت القذائف في غمرة حيرتي. استدعيت الجنود، يبدو أنها ليلة سوداء.
أخذ الشيطان يوسوس لي. فالخطاب جاءني بالخطأ و العجيب ألا يتشابه اسمي معه و حسب بل أن تتطابق الرتبة و الكتيبة و الوحدة!! لا أعرف لماذا يلح علي شيطاني لأغتنم الفرصة! ما سر تلك الحماسة التي انتابتني و ذلك التشوق لاستغلال الموقف؟! هل لأني لم يكن لي سابق علاقة بالنساء! هل هو فضول الاكتشاف! أم هي الحاجة الملحة للتسرية عن النفس التي طعنتها رتابة الحرب! الفرصة تبدو ذهبية، فهذا الآخر لن يرد إلا إن وصل إليه الخطاب و لأنه لن يصل إليه لأنه وصل إلي فإذا قمت بالرد ستظنني هو. و لكن هل سيلتزم باتفاقه معها؟! أم ترانا سنراسلها نحن الإثنين؟! لا بد أن أعول على نبله في عدم الضغط عليها. و لكن ضميري يؤزني أزا أن أبحث عنه و أعطيه الخطاب. إلا إن نفسي المتشوفة للوصل الإنساني اللذيذ و التواقة إلى شيء يخفف عنها قساوة هذه الحرب تتمسك بفرصتها بقوة. ربما بتقمصي دوره أكون مخادعا و لكني في نفس الوقت سأكون صادقا، لأني سأعبر عن نفسي، عني أنا، بصدق، فليس لدي شيء لأخسره و ليس لدي أمل أنشده لأتجمل تجمل خطيب لخطيبته. كل ما أريده هو تمضية تك الأيام العصيبة بتناول مسكن من الخيال و الحلم. و المفارقة أني كلما كنت صادقا و بارعا في تقديم نفسي كلما اقتنعت و صدقت و ازدادت حبكة الخدعة، فكلام من القلب لابد أن يصل حتما إلى القلب.
هيا إذن لا تردد، المهم أن تصل الخطابات- إن وصلت أساسا- بتأخر معقول خاصة و أن خطابها، حسب التاريخ المكتوب، قد وصل بعد أسبوعين. و الأهم من ذلك أن أؤكد لها العنوان الخاطئ حتى لا يصل إليه أي خطاب منها.
و لكن، هل سيعجبها ما سأكتب؟! هل ستشجعها كتابتي على مواصلة المراسلة؟! و ماذا سيكون الحال إذا أكتشف أمري لأي سبب؟! و السؤال الأصعب: ماذا لو نجحت؟! ماذا بعد الحرب؟! ألن أبالي بألمها حين انقطاع الصلة؟! و ماذا لو ذهبت إليه حينها و سألته عن خطاباته؟! ماذنبها لأؤذيها كل هذا الأذى؟! هذا على فرض أن كتابتي ستكون من الروعة لدرجة تجعلها تتعلق بي أو به. كلا، لن أغرق في محيط الأسئلة. لن أفكر كثيرا سأستسلم للحظ، سأجرب.

"عزيزتي أديم
لا تعلمين قدر السعادة التي تملكتني رغم مرارة الحرب التي أتجرعها كل ثانية. لم أصدق أنك رضيت عني و فتحت لي باب الأمل. أود أن أخبرك أني الآن فقط قد أصبحت بخير رغم أننا نتعرض لجوع شديد. إذ تم قطع خط الإمداد، فأضطررت أن أصدر الأوامر بصيد الأرانب. و ليتني ما فعلت فهي أذكى من أعداءنا بمراحل. وحدة بأكملها تعجز عن صيد أرنب. و لكن ذلك كشف لي أمرا، إن أسوأ ما في هذه الحرب ليس قتالهم، بل محاربة الطبيعة. اتضح لي أنها تصبح ضارية إذا عادت الإنسان، الرطوبة و الحرارة و البعوض و رائحة المستنقعات، أسلحة شديدة البأس، لا سلاح معنا يقدر عليها. و لكن لا ضير فقد أصبح لي سلاحا خاصا، أصبح لي مؤنسا في هذا القيظ و الشظف.
أرجوك لا تتوقفي عن مراسلتي، فالكلام يكون أحيانا مدادا للروح العطشى، خاصة إذا صدر من قلب صاف و نفس رقيقة.
جلال"

كم تكون قاسية ليالي الانتظار. لم تعد الليالي مرعبة فقد روضها التعود على الخطر، و لكنها أصبحت ثقيلة الوطء على نفسي. البريد تأخر و أنا في ترقب شغوف لأعرف ردها. و يلح علي سؤال قلق: ترى كيف ستتقبل رسالتي؟! و رغم تشوفي السعيد لخطابها إلا أن ضميري يستفيق أحيانا متمنيا أن تنقطع بنا سبل الاتصال حتى لا أبدأ كذبة لا يدري أي من اثنينا إلى أين ستفضي به. إلا أن تلك الأمنية تقاومها بشدة أمنية أخرى، أمنية الوصل، و لو في إطار كذبة منمقة.
مرت الليلة العاشرة على إرسال خطابي كدهر بأكمله. ما زالت حرقة في مجرى البول تنتابني. أيقظتني حتى الصباح. يبدو أنها تداعيات العطش. حاولنا تقطير ماء البحيرة المالح إلا أن النتيجة لم تكن مرضية.
الحرقان يقتلني. خضت البحيرة جلست في الماء محاولا التبول و ليتني لم أفعل. و بينما أتألم صاح العريف لدى الشاطئ..رسالة يا سيدي!
خرجت من البحيرة و قد تبخر الألم و جريت نحوه. خطفت منه الرسالة في لهفة، شرعت في فتحها فحمحم، حدجته..إنصراف يا عسكري! فأشار إلي مشيحا بوجهه. نظرت إلى نفسي ثم إلى الشاطئ. نصف ملابسي الأسفل كان هناك.

" عزيزي جلال
لقد فرحت أيما فرح برسالتك و بأنك بخير. لقد أضحكتني قصة الأرنب و إن آلمني عذابكم هناك. النشرات لدينا تخبرنا أن كل شيء على ما يرام. فإن صدقوا على المستوى العملي لا أعتقد أنهم صدقوا على المستوى الإنساني. ليتني أستطيع فعل شيء و لكني لا أملك سوى الدعاء لك و لهم بالصبر و الجلد. و إن كانت الطبيعة تحاربكم كما تقول فاعلم أنها تحاربهم أيضا، فأنتم جميعا إزاءها سواء. و لكني رغم كل ألم قد أحاط بكم أشعر بأن النهاية ستكون سعيدة و ..."
لا أنكر أني أصبت بخيبة أمل و إن لونتها بعض الفرحة بردها علي. لماذا تستخدم صيغة الجمع، هذا خطاب للجنود و ليس لخطيب متلهف!

"عزيزتي أديم
هل انضممت مؤخرا إلى قسم الشئون المعنوية بالجيش؟! أرجوك ابتعدي عن الرسميات و انسي هذه الحرب. أريد أن أراك أنت...".

"عزيزي جلال
أنا آسفة، فما زلت واقعة تحت تأثير رسمية علاقتنا التي أعدك أن أحاول جعلها أكثر إنسانية...".

"عزيزي جلال
...شِعرُك رائع، لقد ضللت طريقك حتما إلى الهندسة...".

"عزيزتي أديم
...هلا أرسلت لي صورة لك...".

"عزيزي جلال
...بدأت أشعر بلهفة عارمة لخطاباتك...".

"عزيزتي أديم
...لقد أصبحت هذه الحرب حاجزا بيننا لا يحتمل...".

"حبيبي جلال
...لم أعد أطيق صبرا لرؤيتك...".

"حبيبتي أديم
...اشتد وطيس الحرب، لكنه لا يبارى بلهيب شوقي إليك...".
...
كان المطلوب تدمير دوشمة كانت تعترض طريق الإمداد. أمرتهم بالاشتباك لإلهاءهم ريثما أزحف و أزج بالعبوة الناسفة من كوة في جانب الدوشمة. زحفت و الرصاص من فوقي. انتبه إلي أحد جنود الدوشمة. فاديت رصاصاته و احتميت خلف صخرة. أدركوا في هذه اللحظة من الذي ينبغي أن يتخلصوا منه، ازدادت مهمتي صعوبة. صاح العريف محمود لأرجع فرفضت و أشرت إليهم بالتركيز على الجهة الغربية. زحفت و النيران مركزة علي. أزلقت نفسي في حفرة ملاصقة لجدارها. أمال جندي في الداخل ماسورة مدفعه ليصيبني. أشعلت فتيل العبوة و أخرجت سكيني. أمسكت بحجر صغير ألقيته لهم في الداخل. إرتبكوا و توقفوا عن الإطلاق انتصبت لحظتها و ألقيت العبوة و جريت راجعا. كانوا يحاولون إخراج العبوة و لكني كنت قد ألقيتها بعدما أوشكت على الإنفجار. يبدو أن سرعتي لم تكن كافية. كان الإنفجار هائلا.
لم أدري تماما ما حصل لي. و كأني كنت للحظات منعدم الوزن. تبددت الأصوات، تراقصت صورهم و هم يصرخون في وجهي و يهزونني، أحسست بحريق في ظهري و انحباس في أنفاسي، أظلم كل شيء، لم تتبقى سوى صورتها، وجهها المبتسم و عيناها الواسعتين، ظل وجهها الأبيض يومض حتى تبخر.
كانت الممرضة تغير الضمادات..هل اشتقت إليها؟ أرني. ناولتها الصورة. ابتسمت و هي تنظر فيها..لا تقلق، ستخرج قريبا. قلت متحسرا لسبب آخر غير الذي سأقوله..و ما الفائدة؟! سأعود إلى الجبهة مرة أخرى. ثم قلت في نفسي، كل أيام الدنيا لن تنفعني. أعطتني الصورة و أنا أسالها..هل اتصلتم بالقيادة؟..نعم، سيرسلون لك من طلبت.
..هل فهمت يا عريف صادق!..نعم يا سيدي، سأتصل بك فور حصولي على المعلومات.
..ماذا؟! هل أنت متأكد؟! الرائد جلال سعيد علي!...
أقفلت الخط و أنا مذهول، كيف لم يخطر ببالي هذا الاحتمال؟! عدت إلى غرفتي عبر الممر و أنا أحدث نفسي . لقد استيقظ ضميري فجأة عندما أوشكت على الموت و أشفقت على تلك المسكينة من احتمال موتي. قررت أن أصلح خطأي و لكن يبدو أن الأوان قد فات منذ زمن بعيد، منذ بداية الحرب، فخطيبها استشهد في أول أيام العمليات. جلست على السرير و أنا لا أعلم ما العمل. في داخلي فورة فرح عارمة أحاول جاهدا حبسها، و استطعت كبتها بالفعل فعملي مشين لدرجة يستحيل تصورها. انتحلت شخصية خطيبها و لعبت بقلبها و أحبتني في هيئته و الآن عليها أن تتقبل فكرة تمزقها بين قلب حي تحبه و قالب ميت تعرف ملامحه، يال شناعتي!
..خطاب يا سيدي. ارتعبت و أنا آخذه من الممرضة، فتحته..

"حبيبي
كيف تتأخر علي كل هذا الوقت؟! أرجوا ألا يكون قد أصابك مكروه. أرجوك، أر...".
ما العمل؟! المسكينة لم تعرف بعد. صحت..كلا! كفى!
اقتربت بخطى وئيدة من منزلها الأنيق المشرف على حديقة صغيرة، ضغطت زر الجرس، فتح الباب..هل الآنسة أديم موجودة؟ غابت الخادمة للحظة ثم حضرت هي راكضة متلهفة، يا الله! إنها أجمل من الصورة بمراحل، كانت تترقب خبرا عني بالطبع، أقصد عنه..أنا أديم، أنت من هناك، أمعك رسالة؟! قلت و قد اختلطت مشاعري بين اشتياقي إليها و حسرتي على قرب فقداني لها..أنا زميل خطيبك الرائد جلال، أأسف أن أخبرك أنه استشهد. و أعطيتها خطابها الأخير. بدا عليها عدم الاستيعاب..هذا خطابك الأخير، أنا من كنت تراسلين، اسمينا كانا متشابهين، واحدا لم يكتب على يسار الستة وجه كل خطاباتك إلى وحدتي، أنا آسف. ثم أوليتها ظهري لأرحل. لم أكد أخطو خطوتين حتى نادتني من وراءي..جلال! انتظر. التفت إليها، دست الخطاب في جيب فستانها الأبيض الرقيق، أقبلت نحوي، قالت و عيناها تلمتع بالدمع..كنت أعرف. استغربت و إن لم يفارقني الأسى..تعرفين ماذا؟!..كنت أعرف أنه استشهد قبل أن ترسل أول خطاباتك. انتبهت كل حواسي و اجتاحني فرح عجيب..يعني أنت كنت...؟! ..نعم، كنت على يقين أنك لست هو، تصور أن تأتي لإحداهن رسالة من العالم الآخر، من يمكنها أن تقاوم شيئا كهذا؟! كدت أحلق و أنا أعقب..نعم، صدقتِ، كنت في العالم الآخر حتى شاء القدر أن أبعث على يديك. مدت يدها نحو كتفي المصابة المربوطة..هل تؤلمك؟ ثم ربتت عليها و قد تحررت من عينها دمعة سالت على الخد الناعم..ألهاذا تأخرت في الرد؟ ثم علت بيمناها و مسحت خدي ثم أنزلتها و فجأة ارتمت في حضني. ضممتها بقوة ثم فارقت صدري و إن ظلت ممسكة بكتفيّ. تبادلنا النظرات، ثم أنزلت يديها. أخرجتْ الخطاب من جيبها، قدمته لي و قالت مبتسمة، و قد تهدج صوتها لاختلاط الفرح فيه بآثار البكاء..هذا الخطاب لم يُرد عليه! أخذته مبتسما. ثم هممت رغما عني بالرحيل فقالت و أشعة المساء الربيعي الذهبية تغمر وجهها الذي أشرق وابتهج..إلى أين؟! ابتسمتُ و أنا لدى باب الحديقة و قلت بصوت جلي..لابد أن أسلم نفسي. ثم أردفتُ و قلبي يموج بالنشوة..لا بد أن أعود لأدافع عن الوطن.
تمت








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تكريم إلهام شاهين في مهرجان هوليود للفيلم العربي


.. رسميًا.. طرح فيلم السرب فى دور العرض يوم 1 مايو المقبل




.. كل الزوايا - -شرق 12- فيلم مصري يشارك في مسابقة أسبوع المخرج


.. الفيلم اللبنانى المصرى أرزة يشارك فى مهرجان ترايبيكا السينما




.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا