الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موعد في مقهى الشاهبندر

فريد الحبوب

2013 / 2 / 19
الادب والفن


كيف أتخَلص من كرُهي وقهَري، لا أدري، لماذا إنا ناقم على الحياة والناَس، لماذا لا أنقم على من خلقني هكذا بقبح عارم لا أشبه البشر في شيء حتى أظن في بعض الأحيان أني لست بشري. ما أبشعني وما الذي أنتظره سوى رهبة الآخرين مني، هل عليَّ إن اترُك هذه الحياة؟ أم أَقبع في ركنٌ مُظلم وأواري قبحي عن الناس ، إنا لست منهم، عليه إن أعترف، أتنفس بلهاث ومختنق على الدوام، ولساني منزلق في وسط الكلمات ، فقدت صبري، عنقي القصير وفخذاي العريضة وعيوني الجاحظة على الدوام. كأني من رمال، من صّفيح، من شيء لم يتبين حتى الآن معدنه ربما لم يأتي بي أبٍ وأم، يقيناً أنا أبن وحش، مستحيل..! أي وحش أخرجني من بطنه بهذه القذارة الأنُسية ، آه لو أستطيع قتل نفسي وأتخلى عن بقية حياتي، لفعلت، لضربت رأسي رصاصة قبيحة مثلي ومت وتخلصت من عبء شكلي ، لا أريد أن أضايق من يراني، لا أريد إن يكون لي أثر، ولا أريد أن أكون عبئاً على من حولي، أين عائلتي، الناس، أصدقاء طفولتي هل بقي لي من أحد . هجرني الجميع، تركوني وسط محنتي وألمي، لا . لا أتصور، نعم ليس كذلك، أنا الذي تركتهم ، نظراتي التي كانت تسبر أغوارهم هي التي مكنتني أن أرى مهانتي في نفوسهم، أنا في صراع وما من أحد يصارعني، دوامة الضياع تدور بي تخيفني، لذا فقط في أوقات الليل حين يصعب على العيون إن ترى بوضوح شكلي اخرج لأسير طويلاً، أنا حارس الليل في الدروب، وأنا الناطور الأصم المهدور حزنه وأساه وعطفه. وأنا حامي مطبعة السيد عواد مَثلي مثل الكلب المتوحش الذي يخيف حتى الكلاب السائبة، أنبح مثلما تنبح، نبرة صوتي المروعة تخيف المارين، لا احد يدنو من المطبعة في الليل لان الجميع يعرف فيها كلب أسمه عادل. أنا الذي لم تكن الحياة عادلة معي ولم تنصفني، كيف أكون غير حارس ليلي...! الليل وكر المنبوذين، الليل يخنقني على الدوام، ومن يهم...! من يسأل لما هذا البؤس، الجميع لا يعرف سوى قبُحي، هم لا يعرفوا آلمي الفظيع من جراء تشوهي، هل أصرخ ، لقد صرخت ألاف المرات وبكيت بدموع وبلا دموع ، كم مرة لطمت البقعة التي تملأ خدي الأيسر ، وكم وكم جررتها بعيداً عن خدي ولم تزول، ليس من السهل إن تزول الأشياء القبيحة، أنا نفسي أكره القبح، أكره الحياة وأفكر بالانتحار لكني متمسك بها. هل انا قط أخرمش حسراتي، إنسان سوي آم ديك، أم سقطت من كوكب يدور قريباً من الأرض ورماني هنا في غسقاً معتم....في الخلاصة أنا شيئاً غامض لا يبعث على السرور إلا إن ما يبزغ بروحي ، وما تحمله سفن قلبي لا تراه الناس، لا يعرفه حتى من كانوا مقربين لي ، كم مرة حاولت إن يكون لي أصدقاء من جنسي، يشبهون قبحي لهم نفس اللطخة والعيون والجبين المتجهم ذو النتؤات والفك الطويل العريض المزدحم بالأسنان الكبيرة جداً، لم أجد أحدا، ومن وجدتهم أظهروا لي العداء والرفض ربما لأني أذكرهم بأشكالهم، مررت على المقاهي، في الطرق الخاوية والساحات العتيقة بأناسها والحاجات التي تباع في الأكشاك والبسطيات ، لم يكن هناك أحد يقبلني، رأيت العميان كانوا يحظون بمن يساعدهم ، يدلهم على الطريق والحياة. رأيت البُكم مجتمعون يتبادلون الكلام، يحركون ويشابكون أصابعهم وعيونهم تتأثر بكل ما يقولوه، تمنيت لو كنت أبكم ، لكان لي أصدقاء، على الأقل يحملون جثتي حين أموت، بحثت عنهم، بحثت عن ثلاثة تقبلوني في صغري لعبوا معي ... قالوا أسمي مرات ومرات، واليوم أخذتُ أنسى أسمي، إنا الآن أسمي هووي في المطبعة . نعم هووي . مللت .تعبت . يئست.
وذات يوم في غرفتي المزدحمة بأكداس الورق وفيما أنا متكأ على همي اليومي، مضطجع هارباً من ذلي ومهانتي. أخذت أَتأمل لوحة كنت قد أبهرتُ بها في لحظة شرائها احتضنتها كحبيبه، شممتها ومسدتُ بيدي إطارها، اشتريتها من رجل كبير السن يبيع اللوحات القديمة في سوق الميدان، كانت المسافة بين المطبعة وسوق الميدان شارعين ضيقين ثم جامع حيدر خانة، النصب المهيب وسط شارع الرشيد، كان الأعلى بين كل البنايات، زرتهُ ذات مره، درتُ في الأروقة، لكني لم أصلي، لم أَتساءل أين الله والطيور والاستغْفار والملائكة، بل شعرت أني في متاهة، والصمت العميق جعلني أُفكر في خفيّ اللتان تركتهما عند عتبة الباب الكبير أكثر من أي شيئاً آخر.
كانت اللوحة التي علقتها في مقابل سريري الكارتوني رملية وصفراء اللون يملأُها فم امرأة مفتوح بقوة يخرج منهُ عشرات التواريخ المتشابكة التي تسيل على شكل لعاب، بعض التواريخ كانت تحوم على ظلال عيون مزوية في أحدى البقع الداكنة، وبعضها يجري بخطوط يد ضبابية الشكل تحلم بالمصافحة. كانت اللوحة تسرقني كل ليله، تشوش مخيلتي، أرضخ لهدأتها، تأسرُني لحظة حب مستحيل، وهل مثلي ينتظر الحب. تصفعني وأصفعها، تهاجمني مراتٍ عديدة. تمزق الآسى الدائر في عيوني، تتحرك أشباح على جدران، أشباح هيئة فتاة تبحث في التواريخ، لكني أقترف نفس الخطأ أترك أمر تفسيرها وأتصور أنهُ كابوس ليس ألا.. من يطرق بابي... الأحلام، لا أريد الأحلام، لا أُريد الكوابيس، أين المعنى، أنهُ غير موجود، يومياً أراكِ تكتبُين تاريخ، ماذا تعني تواريخكِ؟ من رسمكِ، أغلقي فمُك، ما هذه الكلمات الصغيرة المدورة التي تُذيل الأرقام، لماذا هذه اليد تجذُبني، لا لن أصافحها، ما حاجتي لامرأة تخشى الجلوس معي ، ولم لا أصافحها ، أن لم أفعل سوف أندم طوال حياتي.....! حين تموت الحقيقة في قلبي يكون الوهم هو الصديق.
ما زلت في ذلك اليوم، قمت من مكاني لأضع يدي بتلك اليد، علني ألمس شيئا، اختنقتُ من كثرة التواريخ المكتوبة بدقة متناهية في الخطوط، كان حالي مثل المجنون أتابع ألأرقام كما لو أني أبحث عن كنزٍ من الذهب، الكلمات المدورة كانت هي مفتاح الكنز، ذهبت للمرفأ المهجور، للمنارات المعتمة بجوار البحار، للواحة المقفرة، للجبل الوعر الخالي من النبات، للغابة ذات الأشجار الضخمة، ضاع الكنز عليّ، ظلت الكلمات أسرار وصارت عيوني مشاعل توغل في لغز الحروف.
كان ذلك في أخريات نفس النهار الذي طال مداه . في غروب كثرت بهِ الخفافيش بشكلٍ كبير، وقبل أن أخرج للحراسة غرزت عينيّ في اللُعاب ، توسلت بكل قلبي من أجل إن أجد شيئاً، نزلت إلى كفها، طالعت أصبعها الصغير يتدلى منهُ تاريخ وزمن سيحين أوانه بعد ثلاثة أيام وكلمة تقول مقهى الشاهبندر، كلهم كانوا في دائرة حرفين من كلمة الشاهبندر. حفظت التاريخ والزمن. وخرجت لمصارعة الليل. لكني بقيت أفكر متحير بأمر اللوحة، تواريخ منذ أكثر من عشرين سنة من زمن رسمها، ما الذي تصبو أليه في التواريخ والأزمان، استسلمت للظلمة وتواريت في المجهول.
حل اليوم الذي أنتظرهُ بفارغ الصبر، حل الصباح منسلخاً من ظلمة الليل، تلوح لي صاحبة الكف، استشعرت إن من حقي الخروج في النهار، لم أسلم نفسي لظلمة الإحساس بوحشيتي وغربتي عن الحياة، الكنز في الشاهبندر يلامس روحي، فتحت الباب، جرني طوفان من السعادة صوب الزمن، تأملت الممر الطويل ريثما يحين الوقت، لم أكن واعياً ماذا أفعل، وفي ذاتي مشيت بخجل تلبية لنداء الكف.
كانت الساعة الثانية بعد الظهر، لا أحد في الشارع، الشمس تفيض بحرارة بالغة تمزق العيون، كان هاجس الخجل يرنو في شراييني. هَرعتُ صوب النافذة أختلس النظر. لم أرى شيئاً. تحركت من شباكٍ إلى شباك، التفت بعينيّ حول الزوايا، لم يكن سوى سيدة بعد الخمسين نحيلة غائرة العينين حولهما هالة من السواد وعلى وجهها مظاهر القنوط والشحوب تُحرك جفنيها الذابلتان بصعوبة كما لو أنها ميتة. دخلت المقهى بحركة بطيئة وأنا أمعن النظر فيها، كان صدرها مضغوط إلى الوراء ونهديها صغيرين مختبئين خلف ثوب خفيف اخضر ذو أكمام بيضاء وياقة قصيرة تلف عنقها المجعد ، كانت ساقيها المتيبستين كأنهما في سبات. تعثرت أقدامي فيما لمحت هي قدومي صوبها، ابتسمت بثقل كبير وتسلق وجهها فرح عارم، خُيل لي للوهلة الأولى أنها ليست صاحبة الكف والزمن والتواريخ، إلا إن فمها المفتوح نفس الفم الذي رحب بي، رأيت وجهها البريء وأحس راحة تصبغ قلبه. جلست قبالتها كما لو اني جالس أمام اللوحة ،، اختلس النظر إلى كفها كانت أحداهم ذات ثلاث أصابع فقط فيما الكف الثانية ملتوية متحرشفة تثير الاشمئزاز، مكثنا هُناك لساعات طويلة طالعتها بحنية ولطفاً بالغ، تحدثت لها قليلاً جداً ورحت أصغي بحرص وأكتفي بشيء قليل من الملاحظات العابرة. أفكر كيف هُيئ لي إن أجالس امرأة تتحدث إليّ دون رهبة وخوف من وحشيتي. قلت لها
لنتحدث عن الزمن الماضي
- أي زمن
- زمن اللوحة
- وما الذي تود معرفته
- لماذا رسمتي اللوحة؟ وماذا تعني التواريخ أرجوك أشرح لي منذ أربع سنوات وأن أبحث عن تفسير لها.
- حسناً......، رسمتها قبل ثلاثة وعشرون عاماً، أنا مثلك جسدي يثير الاشمئزاز وليس لدي وجه ٌ بشري يتقرب منه ألي رجل أحبه أمنحه حياتي وقلبي وحبي. كنت حينها قد أقلعت عن الخروج وتقوقعت على نفسي ولوحاتي، انطويت في كهف حزني بلا قرار، ألا أمنيتي بلقاء رجل ظلت تأسرني، عشت لحظات مدمرة في وحدتي ربما أنت مثلي، نعم من الواضح أنك مثلي، كنت أتخيل حين أمد يدي في الظلام والأحلام سيلمسها رجل، سيقبلها ، سأكون امرأته ، هواه ، رغبته في لحظات الشهوة، كُل ما حلمت به لم يتحقق، خاب ضني بكل شيء الحياة، الناس، الحبيب، انكسرت الفتاة في داخلي، ولم أعد أعلق أملي بشيء، لذا رسمت اللوحة التي لديك وضعت فمي الصارخ بمئات المواعيد ونفذ صبري ولم يتحقق أياً منها، ووضعت كفي وسكبت في خطوطه تواريخ وأمكنه ومقاهي وأزمنة ولم أجد أحداً هناك .... صدقني كل هذا كتبته ورسمته في لوحتك من أجل إن يشاركني أحداً حياتي ولم يحصل، وها أنا بعد الثامنة والخمسين، تجرعت الكبر القبيح فوق قبحي، سنوات من الآلام واليأس. وها أنت تأتي في أخر المواعيد. أود لو أضمك. لكن هل من جدوى،
أنقطع حديثها ورجفت يديها وبكت. تأوهت بمرارة وقال بحزن عميق
- أنت قلت أنك تبحثين عن عشيق، لماذا يئستِ.
- نعم لكن لم يكن هناك أثراً له، انتظرته طوال عمري، ركضت أليه حتى داهمني الكبر، رحلة أليه، كان مخطوف، مقتول رأوه الجميع ولم أراه، بيني وبينه مسافات لم استطيع إن أفعل أي شيء
- ولماذا أتيت اليوم........
- أتيت لأرى من يستطيع إن يرى سري وينفذ في خطوط يدي ويسمع صرختي..أتيت كي أفي بالمواعيد.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حلقة #زمن لهذا الأسبوع مليئة بالحكايات والمواضيع المهمة مع ا


.. الذكاء الاصطناعي يهدد صناعة السينما




.. الفنانة السودانية هند الطاهر: -قلبي مع كل أم سودانية وطفل في


.. من الكويت بروفسور بالهندسة الكيميائية والبيئية يقف لأول مرة




.. الفنان صابر الرباعي في لقاء سابق أحلم بتقديم حفلة في كل بلد