الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الكشف عن ثراء النصوص ، و الأفكار في نتاج عبد الغفار مكاوي

محمد سمير عبد السلام

2013 / 2 / 19
الادب والفن


للمفكر و الأديب الراحل الدكتور عبد الغفار مكاوي (1930 – 2012) إسهامات قيمة عديدة في مجالات معرفية، و ثقافية مختلفة؛ مثل الفلسفة، و الأدب، والعلاقة بين الثقافات، و الفنون، و الكتابة المسرحية، و الحرص على تقديم مشروع إصلاحي يقوم على الفكر، و الجمال، و نشر الأفكار التنويرية في المجتمع.
و من يعرف الدكتور مكاوي يلاحظ فيه السمة الموسوعية، و الرغبة في العطاء، و تقديم رؤية ثقافية واسعة تتميز بالتسامح، و الإضافة، و العلاقة التأويلية الإنتاجية بين الرؤى الفكرية المتباينة.
و قد التقيت بالدكتور مكاوي حين كان رئيسا للمؤتمر العام لأدباء مصر بمدينة المنيا سنة 2003 ، و تحدثت معه حول الاتجاهات الفكرية، و الفنية الجديدة، و تحولات الكتابة الروائية عند نجيب محفوظ في مجموعة الأحلام، و توسع في الحديث عن علاقة الكتابة الأدبية بالنقد في حياة المبدع، و قد لمست فيه الحكمة، و البساطة، و التواضع، و الاهتمام بالعلاقة الوثيقة بين الثقافة، و المجتمع.
يتناول الدكتور مكاوي النتاج الفكري، أو الفني الذي يقدم له، أو يدرسه من زاوية تأويلية تحليلية تكشف عن جوهر الفكرة في سياقها الثقافي من جهة، و ما تحويه من دلالات عميقة أخرى محتملة في تفاعلها مع مرجعيات المؤول، أو الثقافات العالمية المختلفة من جهة أخرى؛ فهو يكشف عما يحتمله النص من أفكار مولدة من الاتصال الأصلي بين أبنيته، و التراكم الثقافي، و المعرفي العالمي، و حدس المؤول في الوقت نفسه؛ و من ثم يؤكد في دراساته النقدية، و الفكرية قدرة النص على إيجاد علاقات تأويلية محتملة في وعي القارئ، و سياقه الاجتماعي، و كان يقدم النصوص، ثم يضيف اللبنات الأولى لفهمها؛ مثلما قدم لأفلاطون، و هيدجر، و ماركيوز، و أدورنو، و غيرهم، و يحفز القارئ لإنتاج علاقة جديدة مع الأفكار، و الثقافات العالمية بعيدا عن التبعية، أو الرفض.
و يمكننا ملاحظة ثلاث استراتيجيات فكرية، و نقدية في كتاباته؛ هي:
أولا: الكشف عن ثراء دلالات النصوص، و تداخلاتها الفكرية.
ثانيا: الفاعلية الاجتماعية للرؤى الفكرية، و الجمالية.
ثالثا: المسار المتجدد لتأويل الأعمال الفنية، و الأدبية.
أولا: الكشف عن ثراء دلالات النصوص، و تداخلاتها الفكرية:
يتناول د. مكاوي الرؤى، و الأفكار الفلسفية في مستوياتها النصية، و الدلالية المحتملة بعيدا عن سلطة الخطاب، أو النسق، أو اختزالها في بعد واحد؛ فهو يستنطق مارتن هيدجر، انطلاقا من ثراء لغته، و أفكاره التداخلية المعقدة عن علاقة الكينونة بالزمن؛ إذ إنه يمكن قراءة القضية في اتجاهي السلب، و الإضافة المستمرة لماهية الإنسان، و يرد على فكرة الإعلاء من عدمية هيدجر من خلال أصالة مدلول (العلو) عنده؛ و هو يعبر عن ماهية الإنسان الذي لا يبلغ النهاية، أو التمام أبدا؛ إذ يعلو على وضعه الحاضر باستمرار، و هو ما يخفف ما في فلسفته من نزعة مأساوية (راجع / هيدجر / نداء الحقيقة / دراسة، و ترجمة د. عبد الغفار مكاوي / دار الثقافة بالقاهرة سنة 1977 ص 6 و 7).
إنه يعيد قراءة وجود الذات في لحظة الحضور المؤقتة من خلال ما تحتمله من إضافة تقاوم احتمالية السلب الكامنة فيها؛ و هو ما يمنح الإعلاء مدلولا إيجابيا يتجاوز المؤقتية من خلالها، أو يكشف عن أصالة التناقض الكامنة في مدلول السلب نفسه؛ إذ ينطوي على ثراء محتمل للهوية، و لمدلول الوجود الإنساني.
و يكشف تحليل د. مكاوي لهيدجر عن الدلالات الدينية الكامنة في أفكاره؛ فيربط بين حديث هيدجر عن الذنب، و الضمير، و أصداء فكرة الخطيئة الأولى في التراث الديني، و يرى أن ثمة رائحة للعاطفة الدينية عنده (ص8).
و هو ما يعكس نقطتين في استراتيجيته التأويلية:
الأولى: الاتصال الوثيق بين دلالات النص، و التراث الثقافي للإنسان، و الذي يكتسب هنا فاعلية إنتاجية من خلال تراكم النصوص، و اتصالها العميق من خلال فعل التأويل، و ارتباطاته المختلفة التي تؤكد ثراء الدلالات النصية المستمر.
الثانية: لا يمكن فصل النصوص، و الرؤى عن مرجعيات المؤول نفسه، و ما ينشأ عنها من إضافة تفسيرية تنبع من سياقه الثقافي، و اتجاهاته الفكرية؛ و هو ما يكسب النص ثراء متجددا انطلاقا من تعدد لحظات الحضور، و تعدد القراء في الوقت نفسه.
و قد يكشف عن تداخل المفاهيم، و المصطلحات، و سيولتها؛ و من ثم التناقض الأصلي، و التعقيد، و العمق في علاقة الفكر باللغة؛ و يبدو هذا واضحا في تناوله لعلاقة الحقيقة باللاحقيقة، أو الحجب عند هيدجر؛ إذ يرى أن الحقيقة هي الكشف، و كل كشف يفترض الحجب، أو اللاحقيقة؛ و من ثم فالعلاقة بين الحقيقة، و اللاحقيقة ليست علاقة تضاد منطقي، و لكن علاقة المؤسس بالأساس الذي يقوم عليه.
يحيلنا تقديم د. مكاوي، و دراسته هنا إلى ثراء اللغة الفلسفية لهيدجر، و تجاوزها للثنائيات التقليدية، و تعدد مستويات كل من الحقيقة، و الوجود، و الآنية و غيرها من المفاهيم التي تطمح لقراءة الإنسان من داخله كما أراد هيدجر، و عزز د. مكاوي من ثراء تلك المفاهيم في سياقات، و ارتباطات فكرية، و نصية مختلفة.
و ينتقل تحليل د. مكاوي لفكر أفلاطون من المنقذ إلى شكوله المتباينة في الفلسفات، و العصور المختلفة؛ مثل البطل الذي يتحد وعيه الذاتي بالروح المطلق عند هيجل، و الإنسان الأعلى عند نيتشه، و أحلام المعاصين بشخصية المنبوذ، و المغترب، ثم إلى فكرة الإنقاذ نفسها، و تتداخل فيها أفكار أفلاطون في سياقها الاجتماعي مع اللحظة الراهنة لدى المؤول؛ فهو يرى أن الإنقاذ في عصر العلم الذي نعيش فيه، لن يتم إلا عن طريق العلم؛ و هي فكرة تستند إلى أفلاطون نفسه، و لا يزدهر العلم إلا في مناخ من الحرية. (راجع / د. عبد الغفار مكاوي / المنقذ .. قراءة لقلب أفلاطون / دار الهلال سنة 1987 ص 86 و 87).
لقد تحولت قراءة التراث لديه إلى الكشف عن الفاعلية الجديدة لهذا التراث في لحظة الكتابة الحاضرة، و مدى التباسها بالأصل، و أشباهه في الأزمنة المختلفة؛ و هو ما يعكس الاتصال الروحي، و الثقافي المستمر بمعارف الماضي، و حكمته، و رؤاه في الإصلاح، و التقدم.
و قد يستعيد د. مكاوي وهج السياق الاجتماعي الأول لأفلاطون بصورة إبداعية لا تنفصل عن اللحظة الحضارية للكتابة التي تؤكد ميله للحرية، و الديمقراطية، و الروح العلمية، و ارتباط الحكمة بالإدارة، و نظم الحكم؛ فصور أفلاطون تندمج بروح شباب المثقفين من جيله، و تتلاقى الأفكار و رغبات الإصلاح في مشهد يجمع بين الماضي، و الحاضر؛ يقول:
"كان أفلاطون – مثل أغلب الشباب من جيلنا – مثاليا أخفق في تطبيق أفكاره على الواقع ... كان عصره عصر انقلابات، و ثورات سياسية، و فكرية، و اجتماعية. و كان في أعمق أعماقه شبيها بعصرنا، و عوامل الفساد التي كانت تدب في قلب مجتمعه القديم، و تدمره، لا تزال تنخر في قلب مجتمعاتنا الحاضرة"(المنقذ – ص85).
لقد بدا أفلاطون كمفكر حكيم يسعى إلى الحرية في زمن تسلط، و فساد، بينما تستعاد أطيافه في الحاضر كقوة ممتدة، و متجاوزة لفساد عصره؛ و كأن الاتصالية المعرفية، و الجمالية لا تعاني من الانقطاعات الزمنية نفسها في حالة الفساد رغم تكراره؛ فقوته تكمن في لحظته الزمكانية، و إن تشابهت مع أزمنة أخرى بينما تتراكم رؤى الفكر مستمدة القوة القديمة نفسها في المشهد، و تضيف إليها أبعادا تفسيرية جديدة؛ و هو ما كشف عنه تحليل د. مكاوي لوهج مشهد أفلاطون، و فاعليته المتجددة لدى المثقفين.
ثانيا: الفاعلية الاجتماعية للرؤى الفكرية، و الجمالية:
مثلما عززت دراسات د. مكاوي من مبدأ العلو عند هيدجر، و من تواتر أفكار أفلاطون، و صور المنقذ في أزمنة مختلفة؛ فقد قدم النظرية النقدية لدى أعلام مدرسة فرانكفورت انطلاقا من نقد العقلانية الشمولية، و الإعلاء من جماليات الفن في السياق الاجتماعي، و هو هنا يتجاوز الكشف عن ثراء الدلالات في الاستراتيجية التأويلية، و يحاول إبراز روح المدرسة، و ما يمكن أن يبقى من نتاجها في الوعي، و تطور المجتمع.
يقرأ د. مكاوي فكرة (الجدل السلبي) عند أدورنو من خلال تجاوز الرؤى الشمولية، و النظرة الأحادية للتقدم؛ فالجدل السلبي يكشف عن تناقضات النسق الذي يدعي الكلية، و يتجاوز التأليف الذي يصالح بين الأضداد، كما يظل مفتوحا، و غير نهائي، ثم يخلص إلى أهم إنجازات أدورنو، و مدرسته؛ مثل إبراز تناقضات هيجل، و تأكيد الأمل في الإبداع، و الفن. (راجع/ د. عبد الغفار مكاوي / النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت / حوليات كلية الآداب / مجلس النشر العلمي – جامعة الكويت / ع13 سنة 1993 ص 73، و 77).
لقد ارتكز د. مكاوي في تحليله للنظرية النقدية على دورها في نقد تطور المجتمعات الغربية، و تجاوزها للسيطرة، و الأداتية، و الإعلاء من دور الفن في السياق الثقافي الإنساني؛ و يبدو هذا واضحا في عرضه لأفكار هربرت ماركيوز الذي يوجه نقدا لأسلوب الحياة الموحد المبني على الوفرة، و الاستهلاك، و الهيمنة من خلال الأجهزة، و المؤسسات، و لا سبيل إلى مقاومته إلا من خلال جماعات منبوذة، و مضطهدة، كما يرى ماركيوز أن الأشكال التجريدية للفن قد تستغل إمكانات المجتمع الصناعي؛ لتحرره من عبوديته.
إن د. مكاوي يعرض للرؤى الفكرية من خلال مشروع التحرر نفسه، و صوره المختلفة المتجاوزة للسيطرة، و النفعية، و يؤكد قيمة الجمال، و فاعلية الفن في عملية التحرر ذاتها؛ و من ثم فهو يؤكد حرص النظرية النقدية على دور الفن غير المباشر في التغيير، و تحرير الوعي من آليات السيطرة، و الأحادية.
ثالثا: المسار المتجدد لتأويل الأعمال الفنية، و الأدبية:
حرص د. مكاوي على رصد التحولات الفنية، و شكولها الطليعية الجمالية الجديدة انطلاقا من تفضيله للجمال كوسيلة للتغيير؛ إذ يربط بين القيمة الفنية، و الارتقاء الروحي، و محاربة القبح، و السعي الإيجابي إلى التقدم.
و قد عزز في مقدمة كتابه (قصيدة، و صورة) من أهمية الجمال، و مقاومته لقبح النفس، و أن تربية الإحساس به يجب أن تكون في مقدمة الهموم القومية. (راجع / د. عبد الغفار مكاوي / قصيدة و صورة / المجلس الوطني للفنون، و الآداب بالكويت سنة 1987 ص 52).
و أتفق معه في هذه الرؤية التي تؤكد منهجية الجمال، و أثره في الذات، و العالم؛ فالتغيير عملية مستمرة في المسار الإنساني، و هو يبدأ من الوعي الإبداعي بالأفضل، و أن تحولات الفن، و مدارسه تؤثر في تشكيل الرؤى الجمالية، و الفكرية، و تسهم في تشكيل فاعلية ثقافية جديدة في المجتمع.
و قد عرض في كتابه (قصيدة و صورة) لقضية تداخل الفنون بصورة تطبيقية مفتوحة تضع المتلقي في موقف التداخل الإبداعي نفسه، و تدفعه لإقامة ارتباطات تفسيرية جديدة انطلاقا من إحساسه الجمالي، و قد أشار إلى إفادته فيه من كتاب (قصائد على صور) لجسبرت كرانس، و قدم للعلاقة الأصيلة بين الفنون منذ المحاكاة حتى فنون الحداثة.
و يمكننا ولوج موقف التلقي الإبداعي الذي يضعنا فيه الكتاب من خلال ترجمته لقصيدة (موناليزا) لإدوارد دودن، و قد بناها على لوحة الموناليزا لدافنشي.
يقول دودن: "ابقي صافية منتصرة و مستعصية / ابتسمي كعادتك و لكن لا تتكلمي ... / ثم تعالي و ارتفعي فوق معرفتنا / أيتها الهولي من إيطاليا / أغوينا و حقري شأننا كما تشائين". (ص172).
إن العلاقة المفتوحة التي تركها د. مكاوي بين اللوحة، و القصيدة تمنحنا فسحة لرؤية استحضار الشاعر للتكوين الإبداعي الفريد للموناليزا، و ما يحمله من دلالات التوحد، و الاحتجاب، و القداسة الصامتة، و ما تجسده صورتها من ارتقاء روحي، أو معرفي محتمل؛ إنها صورة للعلو الإنساني المتجاوز لحدوده داخل اللوحة، و خارجها.
و قد قدم أفكار التمرد، و الاختلاف في الشعر الحديث عند فاليري، و رامبو، و سان جون بيرس في كتابه (ثورة الشعر الحديث)، و قد أشار إلى إفادته في بنائه من كتاب (بناء الشعر الحديث) لهوجو فريدريش، و يعرض فيه لطفرات الاستعارة، و التحولات الفنية الجذرية في قصائد الشعراء المجددين؛ و قدم سمة (اللا واقعية الحسية) في أعمال سان جون بيرس؛ فصوره مثقلة بالصفات الحسية التي لا تنتمي إلى أي واقع مألوف؛ مثل (البحر في تشنجات الميدوزا)، و (وباء الروح في طقطقة الملح). (راجع / د. عبد الغفار مكاوي / ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر/ ج1 / هيئة الكتاب بمصر سنة 1972 ص 307).
و أرى أن صياغات د. مكاوي التأويلية، و عرضه للتحولات الفنية الجديدة قد أسهم في إيجاد مساحة من التداخل بين العالم الداخلي للقارئ، و توازع الاختلاف، و الطفرات الاستعارية التي تمنحه القدرة على التواصل مع الروح الإبداعية لدى بيرس؛ فهو يتصل بالعوالم الحلمية الفسيحة حين تختلط بإنتاجية الوعي، و طفرات الأخيلة التي تسهم في تأكيد التمرد، و ثراء الهوية، و كذلك تنمية الإحساس بالجمال في سياقاته الطليعية الجديدة التي تكشف عن رؤى معرفية، و ثقافية، و اجتماعية كامنة.
د. محمد سمير عبد السلام – مصر















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع