الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نادية العزاويّ ...عن الجوريّ الذي يمكثُ في الأرض أو أبعد من ذلك

حسن مجاد

2013 / 2 / 19
الادب والفن


أكثر من ذاكرة وأوسع من مقال هكذا هو "الجوريّ الذي يمكث في الأرض"، وهكذا هي الأستاذة الدكتورة نادية العزاويّ حين تضرب بشجن الذكريات عند قاع المدينة، وتسافرُ بعيداً؛ لتنقلنا عبر بريد الذاكرة الحيّة الى مدن الذات تلك التي تقع بين فردوس الحلم وضباب النسيان !، في مقالها المنشور مؤخراً في صحيفة تاتو "عبق الجوري الماكث في الأرض" تضعنا أمام خيار السيرة الأدبية، وجها لوجه مع البئر الأولى، حكاية حيّ و وجوه من قطنوا فيه وغابوا عنه، وملامح أناس لم تغير معجمها اللغوي لكنةُ سياسي، أو هرطقات طفيلي عابث، ولم تجبرهم محنة الاقتصاد على مغادرة ذواتهم، ذواتهم التي اكتشفت في الجوري حياة العبق فأسندوا تاريخهم الشخصي تحت ظلال عطر المكان، تسافر بنا العزاويّ الى بيت طفولة وشوارع محلة تحولت بفعل السنين الى أرقام دلالةً على عقم الحياة أولا، وتحويل الإنسان الى رقم يقف في طابور الجداول الرياضية بمعادلات خاسرة ثانياً، وهل تقول مضيفاً ثالثا ؟ - نعم وفي الحياة سعة وما رأينا الا الواسع الضيق!، فالموت والهجرة أو الركون الى الصمت في انتظار الفرح الآتي!، وهل لي أن أزيد ؟، - لك يا صديقي غير ان بنا حاجة الى النسيان قليلاً، تقول مفتتحة مقالة سيرة عطر المكان ومحددة دلالة التسمية وتحولاتها لترشح منها موقف التاريخ وممارسة السياسة: (منذ البداية لم يتعارض الأمران عندنا ،لا في طفولتنا الغضّة ولا في مداركنا الناضجة لاحقاً ،فتسمية الحيّ باسم (14 تموز) عرفان بجميل الزعيم (عبد الكريم قاسم) الذي وزّع الأراضي في حملات إعماره المشهودة، وتسمية الرقعة الواسعة التي احتضنت هذا الحي وغيره بـ(شارع فلسطين) ،إقرار وجدانيّ بعمق الجرح الغائر في أعماقنا، عن الحبيبة السليبة التي هدهدتنا الأمهات على ترنيمتها الموعودة:"هذا العيد في بغداد والعيد القادم في فلسطين". كنّا بعيدين عن رحى الصراع الحزبيّ الدمويّ المشتعل منذ الخمسينات، بين (الوطنيّ ) و(القوميّ)، فحينا الكائن في الجانب الشرقي من بغداد حسم الأمر بطريقة عفوية نبيلة، هكذا ببساطة:(حي 14 تموز في شارع فلسطين )،قبل أن يسري نظام التقسيم الإداري الجديد في بدايات الثمانينات من القرن المنصرم، فتتقطّعُ أوصال الأحياء إلى كتل رقمية جافة ،ليكون نصيب محلتنا الرقم (508) وزقاقنا الرقم (27)،ثم أزيلت اللافتات الخشبية المحفورة عليها أسماء أصحاب الدور ،لتحلّ محلها متواليات عددية فردية وزوجية صمّ: ( 1،3،5....) (2،4،6.....)، إيذاناً بطمس القسمات الفردية الخاصة، ليصير الإنسان في وطني محض رقم بين أرقام جوف متشابهة، كما في السجون وساحات التدريب العسكريّ التي ابتلعت مباهج الحياة رويداً رويداً).
هكذا هي سيرة الحي الشرقيّ حيث نخلة وحدائق وحيث مواسم آتية، منعطفات الجرح تفصل بين البيوت، (في منتصف الشارع تقريباً،على الجانب الأيمن منه يقع بيتنا الركن وادعاً، يحتضن الخالات والأخوال والأعمام والعمات والجد والجدة، وامتدّ به العمر فاستقبل الأبناء والأحفاد، تتعمّد على أرضه أقدامهم ليبارك خطاهم وهم يدرجون على الدروب).
تكتبُ العزاويّ بحساسية عصر وهي تمسك بتلابيب الزمن الجميل بلغة عصيّة عن الانفراط، لغة أقلّ ما يمكن أن نصفها إنها حبات لوز في إناء فاكهة!، هي قادرة على أن تجد لذاتها مساحة للسؤال والمساءلة، ففي كتابها " المغيب والمعلن قراءات معاصرة في نصوص تراثية"نكتشف بعمق تلك الحساسية التي تجد بين التراث والمعاصرة موطئا لمشغلها النقدي وأرقها الفكريّ دون أن تتعكز على أوهام الاستعارات الكاذبة والتلفيقات المجانية التي راح ضحيتها جمع غفير ودون أن تضيع خطواتها في درب مسدود مسدود!، لم تجد في رقصة الغراب او محنة ضياع مشيته الا معادلة لهذه الاستعارة الكاذبة ، أصدرت كتابها التالي مؤخراً عن مؤسسة المدى وقد عنونته " مأزق الغراب " مذكرة بحكاية الغراب والحمامة، ونرجع الى كليلة ودمنة لنجد في باب الناسك والضيف تلك الحكمة المعبرة والدالة : (قال الناسك: زعموا أن غرابا رأى حجلة تدرج وتمشي، فأعجبته مشيتها، وطمع أن يتعلمها. فراض على ذلك نفسه، فلم يقدر على إحكامها، وأيس منها، وأراد أن يعود إلى مشيته التي كان عليها، فإذا هو قد اختلط وتخلع في مشيته، وصار أقبح الطير مشيا) ها هي تحدد روح عصر، بعد ان وقعّت كتابها في عام 2009 ، مسترجعة ما كتبته من فصول لعشرة أعوام خلت كانت قد اعدت نفسها لإعادة المراجعة الفكرية في زمن يقف بين تلاشي الأحلام وضياعها في النهاية، اختارت البعد المخفي في إشكاليات النهضة ومشروع التحديث منطلقاً في القراءة، لتجد في الأنثى مساهمة للوصل لا الانفصال بحسب ما تقول: ( ليست القضية اذن قضية فصل ولكن وصل بين المواقف وتقريب بيم الاراء والمعالجات المتنوعة في اطار رؤية تكاملية تسعى إلى إثراء الحوار الحضاري المطلوب) ها هي تختار " بنت الشاطئ ، والخزرجي ، وشرارة " على اختلاف في الرؤى وتباين في المصادر الفكرية، وتجد في النويهي والطاهر والخياط أمثلة راسخة لانموذج نقدي يعبر عن أصالة الدرس الجامعي والاكاديمي، وتقرأ لها وتحس في بعض جملها نبرة حسرة والم سرعان ما تتوراى وراء لمع الافكار والمعالجات البحثية، وتحس معها بانها تنشد الحلم، وترثي مكاناً ووجوها مضيئة في تاريخنا المعاصر وهي دلالة كادت ان تختفي لولا حديث الذاكرة التي خللت مقالاتها عن شرارة والطاهر والخياط، هو حلم التغيير الذي سرعان ما بددته سطوة الدبابة وذاكرة بندقية؛ لتزج البلاد بعد ذلك في اتون حرب أهلية أحرقت صفاء القلوب وأشاعت خراب البيت والشارع والمحلة والزقاق!، تقرأ "عبق الجوري الماكث في الارض" لتكتشف سيرة أخرى سيرة لم تدوّن بشكل صريح في " المغيب والمعلن " ولم تلتفت اليها لمحا الا في "من تجليات الذاكرة و"مأزق الغراب " وتكتب وتزيد لتجد ان كتبها سيرة لهذا القلق الذي أحاط بها ودفعها لان تكمل دراستها في الادب القديم وقضاياها وتاريخه، ولتطل بعينيها على الحديث لتتم المواشجة الخلاقة والصلة العميقة، نقرأ " عبق الجوري الماكث في الارض " لنكتشف بها وعبرها تحولات المدينة العراقية من دلالتها الثورية التي عبأتها تصاعد توتر القضية الفلسطينية وصولاً الى الحملة الإيمانية بقيادة أعمى فزّ من نعاس طويل؛ ليحدث العباد والبلاد عن حكمة الرب وليوهم نفسه مرة أخرى بان الحريق الذي حدث لم يكن الا وهجاً مقدساً ومصابرة مجاهد في ساحة تخلى فيه الجميع عنه؛ ليرقص رقصته الأخيرة في عراء الممالك، انه زمن قاس وبلاد أقسى يا صديقي.
قلتَ لي انها أستاذة الكتاب القديم في الجامعة المستنصرية بكلية التربية وأضفت بانها تحدث طلبتها في قاعة الدرس والمناقشة عن الجاحظ والأصبهانيّ والقالي وأبي تمام وابن الشجريّ ،هكذا هي تحدثك عن ديستوفيسكي وكافكا وتنتقل معك الى موزارت و تشايكوفسكي ، وتحدثك حديث عارف بذرية بارت وسلالته من أجداده الشكلانيين مروراً بسيميائيين جدد وآخرين غيرهم ، قال صديقي الذي يكبرني بأشهر وبميلاد مختلف عليه!:"بينما كنا في عهد الدراسة الأكاديمية الـأولى فإذا بالعزاوي تحل ضيفة علينا في رحاب الكلية برفقة الدكتور عدنان العوادي وكانت قد ألقت كلمة بحق أستاذها الراحل الكبير الناقد عناد غزوان إسماعيل، ها هي تصعد السلالم بعد أن نودي بها من على منصة للحديث، وها هي تمسك بورقة كانت قد أعدتها تلوذ بها من خشية الفجيعة، ففي صباح كلية التربية بجامعة القادسية كان ذاك اليوم بهياً لا كعادته، أضاف صديقي كانت مشيتها الواثقة تنبئ بخطى حزين وكانت تتلمس طريقها في جانب من قاعة الاحتفال، تحدثت بحديث كله ذاكرة ومحبة وصفاء وبصوت هادئ يشير الى دلالة الفكرة ومحتواها بأسلوب أدبي بليغ. أنهت ورقتها وتسلل وجعٌ الى فؤادك وخيط من ألم الذكرى ، وكبرت في عينك أستاذة كنت قد تابعتها قديما في صفحات المجلات القديمة، وقد قرأت لها مرة في " الموقف الثقافي " وها هو كتابها " مأزق الغراب " ومن ذي قبل كتابها "من تجليات الذاكرة " وها هي مقالاتها تضعها في هذه الصحيفة وتلك المجلة، وساورك احساس سيطر على مداركك ان الجلسة التي تحدثت فيها بصحبة الدكتور عدنان العوادي من أفضل ما سمعت ومن أخصب ما استقبلته في ذاك الصباح القابع في ركن من زوايا الذاكرة.
قلت لي في البدء يا صديقي : انها أكثر من ذاكرة وأوسع من مقال ،نعم وفي المقال ما يسع الذاكرة ويحيي جذوتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. احتجاجات في جامعة ديوك الأميركية ضد الممثل الكوميدي جيري ساي


.. المغرب.. إصدارات باللغة الأمازيغية في معرض الكتاب الدولي بال




.. وفاة المنتج والمخرج العالمي روجر كورمان عن عمر 98 عاما


.. صوته قلب السوشيال ميديا .. عنده 20 حنجرة لفنانين الزمن الجم




.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا