الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هي ميتة الآن

فاطمة الشيدي

2013 / 2 / 21
الادب والفن


فتحت عينيها ببطء، كان كل شئ أبيض، الحائط، والسرير، والملاءات، وورد وضعت قرب رأسها (كأن ثمة من يتذكر أنها أحبت الورود البيضاء طوال حياتها)، حتى الوجوه، والدموع، والأصوات، والهمهمات التي تراها وتسمعها بالقرب منها بدت بيضاء وباردة، وكأنها كانت بفعل العادة عند الموت، وليس بسبب أن غيابها جارح ومفجع، وكأن الكون والبشر لم يشعروا يوما بحضورها ليشعروا الآن بغيابها، تذكرت قصيدة أمل دنقل "أوراق الغرفة الثامنة" ولكنها لم تقوى على البكاء، كان صوت نحيب أمها يأتيها خافتا،وهناك ظلال كثيرة وبعيدة، بكاءات، ممزوجة ببعض الشماتة، وببعض الذكريات الهزيلة، فوضى، وهمسات متداخلة ونميمة بغيضة، البعض يراها قديسة، والبعض يراها قبيحة ومجنونة، بعض النسوة يتهامسن، كانت مغرورة وغبية، البعض قال: إنها كانت طيبة فقط، البعض قال: وهم كثر، بصراحة لا أحد يستطيع الحكم عليها، كانت غامضة جدا، ومغلّفة بالصمت، وكل ما كانت تفعله كان الحضور الموارب، والخارجي والسطحي، في حين تُبقي الحقيقي والعميق منها داخلها فقط، وربما تبوح ببعضه فيما تكتب، البعض قال أنها غريبة بعض الشيء، بل كثيرا، أضاف آخرون، وأفعالها مريبة، وهي متربصة وشكاكة ومنعدمة الثقة بالآخرين.
همهمات بين الضحك والنميمة والبكاء، والكلام كله يدور حول أنها ميتة الآن، هل هذا صحيح؟ هل أنا ميتة فعلا؟ هل الموت إذن بهذه السهولة والبساطة، فقط يحتجب الإنسان، ويذهب نحو الغياب بصمت، محمّلا بكل ماكان لديه من ذكريات وألم؟ هكذا فقط ؟، كانت تتمتم داخلها، وهي لاتستطيع أن تحرك أي طرف، أو عضو، أو خليه، تتمنى أن تصرخ فيهم، أنا هنا بينكم حية أسمعكم وأراكم، ولكنها لا تستطيع.
كانت تسمعهم جميعا، تراهم ، تشم روائحهم، الروائح التي كم عذبتها، فكم كانت الروائح والأصوات وسيلتها الخاصة والعميقة لفهم البشر، ومعرفتهم ومحبتهم، أو كرههم، تتذكر الآن رائحته التي تشبه تماما رائحة الأرض بعد نزول المطر، أو رائحة الكون مغسولا بالطل في الفجر قبل أن تسري تلك الرائحة في أقدام المارة وروائحهم فتتلاشى، تعرف صوته أيضا،صوته الذي يشبه حشرجات ناي عتيق، تسمع الآن حشرجاته، أنفاسه التي تعرفها جيدا، حيث يقف بعيدا في آخر الغرفة حزينا ومتألما، وعيناه تدمعان، ويبدو كأنه يتذكرها بوجع، هي التي ظلت تحبه بوجع أيضا، تلمح ظله القديم يقف إلى جواره كبيرا جميلا وبهيا، بحثت بعينيها، وبكل حواسها التي يظن الجميع أنها أصبحت معطّلة، عن شيء منها يعلق به، حزن قليل، فرح عابر، غضب كثير، كانت تتذكر أنها كانت غاضبة وحزينة دائما معه، عن رائحتها فيه، لكن لم يكن شيئ منها يعلق به، لا رمش ضال، ولا لمسة أو دمعة، لمحت أيضا ظلا آخر إلى جوار قلبه، شعرت بتلك الطعنة التي تعرفها كثيرا، الطعنة التي تشبه الخذلان والخيانة معا، تشبه الفقد القديم والمتجدد، لكنه هاهو يبكيها الآن؛ هذا يدل على أنها خدشت روحه قليلا، بشيئ ما منها، برائحتها أو بحبها، هو الذي لم يعلم كم أحبته، كما لا يعرف أيضا أنها لا تستطيع الأشياء القليلة، والأشياء السهلة، والأشياء المتاحة، لأنها مفرطة غالبا، وأن الحب قد يكلفها حياتها تماما، ولا يعرف أيضا أنها لا تحب بسهولة، ولا تنسى بسهولة، وأنها كالماء سهلة وبسيطة، ولكنها قابلة للجفاف بسهولة، كما هي قابلة للكسر والموت الذي هي تعيشه الآن.
كان يبكي بحرقة، ويكتب شيئا ما في دفتر صغير أحمر، ربما يكتب أنها ماتت الآن، وأن عليه أن يرثيها بنص طويل كي لاينسى الأمر لاحقا، هي التي تعرف أنها يحب الموتى، أكثر مما يحب الأحياء، ويحب الرثاء أكثر من الغزل.
أوجعتها دموعة فأشارت إليه تعال، فتحت ذراعيها له بعشق، وقالت: تعال؛ أنا هنا، أسمعك، وأراك، وأحبك، تعال؛ لا زال قلبي هو قلبي الذي لم تعرفه، ولم تشعر بنبضاته القصوى، ولا يزال يحبك.
لكنه لم يسمعها، كان مستغرقا في الكتابة، أرادت أن تتحرك لتذهب إليه فلم تستطع، كانت ثقيلة به، كان حبها يشبه طفل منغولي ولد في أحشاء امرأة مريضة، وكانت تحبه، ولكنها لاتستطيعه، وكان يحبها عن بعد، فلم يقرر أن يمسك يدها أمام الجميع، في كل وقت، لتوازن خطواتها المرتبكة أبدا، كما حدث ذات مساء على شاطئ بعيد، لكنه عاد واستل أصابعه من أصابعها، ومن يومها وهي بلا أصابع، حيث تساقطت ببطء متتابع، ومن يومها وهي لا تستطيع كل ما يفعله الإنسان بيده، لاتستطيع أن تلمس وجها ما، وأن تمسد يدا ما، أو أن تستقبل المطر في كفيها، أو أن تمسح دمعها الكثير، أو أن تكتب بوفرة كما كانت.
كانت الرائحة النفاذة للأدوية والمعقمات تسيطر على المكان، وتسيطر على رائحته، وهي تحاول جاهدة أن تتلمس الطريق إلى رائحته التي تحب، فقد تعود لها الحياة لو حدث وشمتها بعمق، كما تحاول أن تسمعه صوتها، وتمد يدها نحوه "تعاااال تعاااال أنا هنا"، ربما لو تحدث قليلا، لو سمعت صوته، لو صدق أنها حية؛ لافاقت من موتها ذلك، وعادت للحياة، لعادت إليه، فهو الحياة.
لكنه غير منتبه لها أبدا، ولا ينظر لجسدها المسجى في فكرة الغياب، فقد صدّق تلويحتها له آخر مساء جمعهما، صدّق طعناته الكثيرة، ودمها الذي انسكب بين يديه، وغرغراتها الأخيرة، هي كانت غاضبة وهي تموت، وكانت حزينة ومتوجعة بألم قاتل، كانت تذهب للموت بطواعية وعجز تام، ولكنها كانت تتمنى أن يعود إليها، ويبكي بين يديها، كانت ستسامحه على كل تلك الطعنات، وعلى كل هذا الموت،وعلى كل شيء، لكنه لم يعد، بل استعذب فكرة موتها، وغيابها الحقيقي، واستعد لرثائها بقوة، شحذ بلاغته، واستعاد كل ما قرأ من كتب، وكل ماكتب عن الموت والحب وقرر الكتابة عنها، وليس لها.
تتذكر أنها ميتة الآن، ولا أحد يسمعها، تذكرت أنها حتى عندما كاتت حية أيضا لم يسمعها أحد بما يكفي، ولم يهتم بها أحد بما يكفي، وأنها لم تشتكي بما يكفي، كانت تسمع فقط، وتبكي وحيدة آخر الليل، تذكرت أيضا أنها منذ ولدت وهي حزينة، وأنه لم يحبها أحد كما يجب، أو كما ينبغي، حيث كان دائما هناك من هو أحق منها بالحب، أمها أحبت الجميع أكثر منها، ووالدها الذي أحبها؛ أحب آخرين أكثر منها، أخواتها وأخوانها وصديقاتها وزميلاتها، الجميع لم يحبها كما ينبغي، ربما كان يحتاجها لغاية ما، لوقت ما، الجميع يثق بها ويقدرها، ولكن لم يحبها أحد بصدق واكتمال، لاأحد، فدائما هناك من يستحق الحب أكثر منها، من يأخذ دورها في الحب، وكلما وصلت للبداية في الطابور الطويل، يكون الحب قد انتهى، فيبادرها القدر باعتذار وابتسامة، وتعويض ما، كبير وجميل، ولكنه أقل من الحب الذي تبحث عنه بقوة. ولذا عندما وجدته ظنّت أنها أخيرا وصلت لدورها في الحب، أخيرا ثمة من يحبها بصدق، هي فقط، هي التي ليس سهلا أن يحبها أحد بكل ذلك الشوك الناتئ في رأسها، وبكل تلك القروح في قلبها، بكل تلك المرارات والأوجاع في روحها، وبكل ذلك الاستبصار الكوني والإنساني المريع، وبكل ذلك الرفض الرابض على حواف شغفها بالحياة والتي يمنعها من كل تداعٍ وخفة، وبكل ذلك الثقل المبطن بالرؤية الثاقبة للأشياء، وبكل تلك الإيمانات الجارحة بالمستحيلات في زمن الحفر والقيح، لكنها ظنّت أنه عرفها بصدق، عرف ملامح روحها الخاصة، وآمن بها، وأن قلبه اهتدى لقلبها الغريب والوحيد. فصدقته وآمنت به كما آمنت بالله والكتابة فقط، هي التي كانت منذ الصرخة الأولى تدرك أن الحب الحقيقي إيمان تام.
الآن هي عاجزة عن كل شيء، عن الحب والحياة والفرح والحزن، حتى عن الموت، تجلس مسمّرة نظراتها في سقف الغرفة البيضاء، تعبرها الأفكار ، والوجوه، والأشخاص، والأحلام، والفرح القليل الذي ظنّته هو، والحزن العظيم الذي قال لها يوما أنه هي، الآن تدرك أن ثمة حب يملؤنا، وثمة حب يدمرنا، وأن حبه من النوع الأخير، وأنه لم تعد لها القدرة على الحب بعد، ولا على الحياة، ولا حتى على الموت.
تذكرت مجددا أنها الآن ميتة، ولكنها لم تزل تراه في كل شيء، وتكلّمه في كل وقت من الحياة والموت، وأنها لا تستطيع الموت، إلا إذا شعرت أنه قربها تتدفأ بأنفاسه، وتنظر في عينيه. فنظرت إليه، وكان قد بدا وهنًا، وحائرا، وجاهزا للرحيل عنها، كررت النداء، تعال ياحبيبي، لاتخف، لن أعاتبك، ولن ألومك، لايجدر بنا، ولايليق بحبنا، فعلى ماذا ألومك؟ هل ألومك على أنك لم تحبني كما يجب؟ أم على أنك لم تعرفني كما يجب؟ أم على مكوثك الأسطوري عند حواف شجرتك الخالدة، وتاريخ روحك الجميلة، أم على ظلال قلبك الكثيرة والمتفرعة بين الفينة والأخرى كأشباح تغازلك كل مساء، فتسكن إليها حين تغيب، وحين يخفت نبض قلبك؟ أم على أنك لم ترد أن تمشي معي الرحلة القصيرة التي انتهت الآن؟
لا لوم ولا عتاب؛ وها أنسحب من كل مايمكن أن يتقاطع معك، من قلبك الذي يسكنه غيري، ومن لغتك وتاريخك ورأسك، ها أسقط من حواف الفكرة، ومن بهاء العبارة، ومن الماضي والحاضر والقادم.
خرج من الغرفة البيضاء حزينا، ولم ينتبه لها، ولتوسلاتها الأخيرة، كما لم ينتبه لها طويلا فيما مضى، كان مشغولا جدا بتلميع فكرة الموت داخله، وبتدوين حزنه، والبكاء على صدر حبيبته الجديدة، لتمسح دموعه بأصابعها الفاتنة، وبدت الهمهمات المرافقة للمشهد الأبيض في التلاشي شيئا فشيئا، فكل شخص عاد إلى حياته، وإلى القلوب المحيطة به، وهي سقطت من تلك القلوب بخفة؛ لأنها لم تعلق في شغافها يوما، فقد كانت دائما عابرة خفيفة، سهلة السقوط من ثقوب الآخرين الكثيرة، كما بدأ الهامش الذي اختارته لنفسها في هذه الحياة يضيق قليلا قليلا حتى التحم مع المتن، كأنه لم يكن، أو كأنها لم تكن، كما بدأت الأسطح الضوئية التي كانت تنزلق عليها بهدوء وتخفّي بين الفينة والفينة؛ تذهب في الإظلام كمسرح باهت، وبدأ الستار ينغلق قليلا قليلا وتظهر كلمة "النهاية" ، فقررت أن تصدّق فكرة الموت، وتتقبلها بنفس راضية، فلا طاقة بعد على هذه الحياة، والبشر، والحب، وأن تغمض عينيها أخيرا وللأبد، فهي ميتة الآن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. نهال عنبر : المسرح جزء من الثقافة المصرية ونعمل على إعادة جم


.. إيمان رجائي: النسخة السابعة من مهرجان نقابة المهن التمثيلية




.. لقاء سويدان : خشبة المسرح الدافع الأول للتألق والإبداع الفني


.. نرمين زعزع : رعاية المتحدة للمهرجانات الفنية والثقافية يزيد




.. استعدوا للقائهم في كل مكان! تماثيل -بادينغتون- تزين المملكة