الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة السلاح تنخر شخصية الطفل العراقي

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2005 / 4 / 3
حقوق الاطفال والشبيبة


لمن كلّ هذا الرصاصْ؟
لأطفالِ كوريّة البائسينْ،
وعمالِ مرسيليا الجائعينْ،
وأبناءِ بغدادَ والآخرينْ
إذا ما أرادوا الخلاصْ
حديدٌ
رصاصٌ
رصاصٌ
رصاصْ!
بدر شاكر السياب
(الأسلحة والأطفال)




منذ نصف قرن تقريباً،هزّ السياب بملحمته(الأسلحة والأطفال) الضمير الرومانسي لمجتمع كان يظن أن قيم التحرر والعدل والسلم قد أزهرت في أرضه،وصارت وشيكة القطاف!ولكن يبدو أن هذه الأعوام الخمسين لم تكن كافية ليتعلم أطفالنا لغة أخرى غير لغة الرصاص،بل إنها كُرست كلياً لتأليه آلةٍ،بل ظاهرةٍ اسمها (السلاح)،غزت تدريجياً كل البيوت،ومسّت أغلب القبضات،واستوطنت في المشاعر والعقول والذاكرات،وأخيراً...أصبحت (لعبة) يقتنيها الآباء لأطفالهم ليقضوا بها وقتهم (البريء)،سواء كانت لعبة يدوية تشبه سلاحاً خفيفاً،أو برامجيات إلكترونية يمارس فيها الطفل أعمال القتل والحرق والتفجير وإفناء الآخرين على شاشة مجسمة!
فكيف أصبحت لعب الأسلحة الهدية المفضلة لدى الطفل العراقي؟وما هي العوامل المباشرة وغير المباشرة التي أسهمت في الترويج لهذه الظاهرة المدمرة لقيمة الطفولة؟ وما هي الميكانزمات النفسية التي تقف خلف هذا التجاذب بين الطفل والسلاح؟
الاحتلال وتجذير العنف
((الطفل فيلسوف صغير)):هكذا وصف أحد علماء النفس الطفل في المراحل المبكرة من تطوره العقلي والأخلاقي،إذ أن قدرته على التفاعل الإدراكي والقيمي مع معطيات الواقع لا تقل في نوعها وكمها عن قدرة البالغ.هذه الحقائق النفسية،يدركها جيداً السياسي الأمريكي ذو المشروع الساعي إلى رسملة العالم وأمركته،عبر تفتيت شمولية العقل البشري وتقويض تماسكه،بإغراقه في دوامات العنف والإحباط والاغتراب واللاجدوى واللامعيارية.
ولنبدأ الحكاية من آخرها.فبعد أن بسط الجيش الأمريكي سلطته على أراضي العراق ومؤسساته السياسية والاقتصادية والتعليمية،باشرت وحدات متخصصة فيه بطباعة مجلات مصورة للأطفال باللغتين العربية والإنجليزية،وتوزيعها منذ بداية العام 2004م على المدارس الابتدائية،في مختلف المناطق الواقعة تحت سيطرته.وبعد تحليلنا لمحتوى أعدادٍ من هذه المجلات،اتضح ما يأتي:
* إنها تسعى لإقناع الطفل بفكرة أساسية مفادها:((إن العالم مكان عدائي،يستحق القلق والحيطة والتجنب))،من خلال ترويجها المبرمج لمفردات لغوية ذات مضمون عنفي غير مألوف لدى الطفل:(قتل/مجرم/أشرار/شخص مريب/أسلاك شائكة/حواجز كونكريتية...).
* إنها تحاول تثقيف الطفل بأنواع الأسلحة ومصطلحاتها،لغة وصوراً:(قنبلة يدوية/مسدس/رشاشة/بندقية/قاذفة صواريخ/قاذفة قنابل/خوذة/كيس الذخيرة/سكين/مركبات عسكرية/رجال ونساء بملابس عسكرية...).
* إنها تسعى،وتحت شعار (التسامح والتعددية)،إلى بث مشاعر التعصب والطائفية بأنواعها ضمناً،من خلال توكيدها على مفردات،مثل:(مسلمون/مسيحيون/عرب/أكراد/شيعة/سنة)،بأسلوب مفتعل ومكرر،لا يتلائم مع التطور الادراكي للطفل.فمثل هذه المفردات تخاطب انفعالات الطفل وتزرع شكوكاً وحواجز نفسية بينه وبين أقرانه في المدرسة،ما دام غير قادر على أدراك محتواها الديني أو الطائفي أو العرقي.
* إن جميع المضامين السابقة الذكر،يجري دسّها في هذه المجلات باستعمال تكنيك ((كلمة حق يراد بها باطل))،من خلال (إقران شرطي) دقيق لمفردات العنف والسلاح والطائفية،بنصائح وتعليمات وقصص وصور ملونة تعدّ مؤثرة في سيكولوجية الطفل بسبب جاذبيتها وبساطتها و(عفوية) طروحاتها.ففي أحد هذه الأعداد مثلاً،يتوجه عسكري أمريكي بملامح مبتسمة،بالحديث إلى الأطفال العراقيين،قائلاً:((تظهر في الصورة التالية كافة المعدات التي نرتديها عند وجودنا في أنحاء بغداد،نحن بحاجة لكل هذه العدة لتساعدنا في مهامنا لحمايتكم من الأخطار)).وتظهر في الصفحة التالية فعلاً تفصيلات دقيقة لتلك الأسلحة والتجهيزات يرتديها عسكري أمريكي له وجه طفل،مقرونة (شرطياً) بصورة طفل عراقي يتطلع إليها بإعجاب.وهناك غيرها عشرات من الأمثلة المشابهة.
لقد أسهمت هذه المطبوعات الموجهة بأداء سيكولوجي حاذق،في بث ثلاثة قيم أساسية في شخصية الطفل العراقي:
1-السلاح أمر مألوف لا يستدعي النفور أو الاستغراب،بوصفه جزءاً اعتيادياً من الحياة اليومية للناس.
2-السلام والأمان غايتان مطلوبتان،ولكن لا يحققهما إلا السلاح بيد الأشخاص (الكفوئين) و(الخيّرين).
3- مهما كنا متسامحين،إلا أن هناك على الدوام شخص آخر إلى جوارنا (مختلف) عنا،إما بدينه أو بطائفته أو بعرقه.
إن قيم العنف الآنية التكوين هذه،والتي تنتمي إلى مرحلة الاحتلال بعد نيسان 2003م،مضافاً إليها قيم عنف متراكمة ترجع جذورها إلى أربعة عقود دموية مضت من تأريخ العراق،تشكل جميعاً الإطار السوسيولوجي المفسّر لهيمنة ثقافة السلاح على الطفولة العراقية.
ولكن يبقى السؤال: ما هي القوانين النفسية المفسّرة لهذه الحميمية التي صارت تميز علاقة الطفل العراقي بلعب الأسلحة؟
سيكولوجيا لعب الأسلحة
عندما تمتليء الذاكرة الجمعية بمفاهيم العنف وتدهور قيمة الحياة،وتجري على ألسنة الناس على نحو يومي مألوف مفردات (الخطف) و(الذبح) و(التفخيخ) و(التفجير) و(الأشلاء البشرية)،فيما تجوب مدنهم بإسلوب استعراضي عرباتٌ عسكرية تقودها مخلوقات ميكانيكية الحركة مدججة بأسلحة متنوعة الموديلات تثير الاستغراب والاشمئزاز والرعب لديهم؛وعندما تـُحجَب سماؤهم على مدار الساعة بالمروحيات الهادرة وبأعمدة الدخان وصدى الانفجارات الغامضة؛عندها لا يكون أمام الطفل العراقي،وهو في أدق مراحل نموه الوجداني والأخلاقي،إلا أن يتمسك بواحدة أو أكثر من ثلاث ستراتيجيات نفسية تحفظ له (تكيفه) مع عالم مشبع بثقافة السلاح:
1- فإما أن يتماهى (يتوحد) لا شعورياً بالعنف الشامل المحيط به،فيدجج نفسه بأشباه الأسلحة،وينهمك في ألعاب حربية يبتكرها مع نفسه أو مع الآخرين،أو في أحلام يقظة عدوانية تحقق له (خفضاً) في قلقه من رعب الخارج،بأن يصبح جزءاً منتمياً له وخاضعاً لقوانينه،عسى أن يأمن (لاشعورياً) قسوته،ما دام عاجزاً عن الحد من تأثيراته الكاسحة.وهذا ما يطلق عليه بـ((التوحد بالمعتدي)) Identification with Aggressor .
2- أو..أن يتجه لمحاكاة أنموذج (رامبو) الذي أشاعته وروجت له الأفلام والألعاب الإلكترونية ووسائل الإعلام (بضمنها مجلات الأطفال التي يطبعها الجيش الأمريكي)،بوصفه مثالاً للجرأة والوسامة والحكمة والمعصومية من أي خطأ أو هزيمة،فضلاً عن التأثير المباشر لوجود الجندي الأمريكي في الشارع العراقي بهيأته (الرامبوية) المختالة،إذ توفر عملية المحاكاة هذه للطفل شعوراً مطلوباً بالأهمية والزهو والتحكم بالأشياء والثقة بالنفس،يسد بها المساحات النفسية التي ما تزال شاغرة في شخصيته في هذه المرحلة المبكرة من العمر،لاسيما في ظل التغييب شبه التام لنماذج إنسانوية الطابع في البيئة العراقية.وهذا ما يطلق عليه بـ((النمذجة))Modeling .
3- أو..أن يسعى إلى تفريغ توتراته وقلقه وعدوانيته الناجمة عن (صدمة الحرب) وعن إحباط حاجاته الطبيعية للعيش في بيئة آمنة،الأمر الذي أدى إلى تحويل طاقة هذه الحاجات لديه من مساراتها الطبيعية إلى مسارات عدوانية بديلة مصطنعة غايتها التطهير الانفعالي الفج.وما دام السلاح صار الرمز والأداة الأكثر انتشاراً في سلوك الناس وأقوالهم،فقد وجد الطفل العراقي نفسه يتجه إلى هذا الرمز بوصفه منفذاً مباشراً لانفعالاته المكبوتة.وهذا ما يطلق عليه بفرضية((الإحباط–العدوان)) Frustration-Aggression .ويذكر أن الدراسات النفسية أثبتت أن مجرد وجود السلاح أمام أبصار الناس يجعلهم أكثر عدوانية في سلوكهم نحو بعضهم،فكيف هو الحال مع طفل ولد وعاش في رحم الحروب؟!
....ستنتهي قرقعة السلاح يوماً ما،وستهدأ الروح العراقية المعذبة،وستبرأ شوارعنا من عفونة البارود الممتزج بالجثث،وستستعيد الفراشات والكركرات فضاءاتها في سماء أطفالنا القادمين!ولكن قبل كل ذلك،لا بد من الإقرار أن سموم العنف،ومشاعر الخصومة مع الحياة،والخوف من المجهول،والشك بالآخرين،قد نفذت بنسبة فاعلة في شخصيات أطفالنا الحاليين،وإنهم سيكبرون بها،مدركين أو غير مدركين لها،لترسم لهم مسارات وأطراً سلوكية مقيدة لتفتح إنسانيتهم.لكن تلاقح الأجيال المستمر،واختلاط الورود بالجراح في الذاكرة الجمعية،سيتكفلان – بمرور المآسي– بإزاحة الوعي العراقي،خطوة شاقة،نحو ثقافة السلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بريطانيا.. اشتباكات واعتقالات خلال احتجاج لمنع توقيف مهاجرين


.. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والإسكوا: ارتفاع معدل الفقر في




.. لأول مرة منذ بدء الحرب.. الأونروا توزع الدقيق على سكان شمال


.. شهادة محرر بعد تعرضه للتعذيب خلال 60 يوم في سجون الاحتلال




.. تنامي الغضب من وجود اللاجئين السوريين في لبنان | الأخبار