الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموسيقى في صناعة الحرية

مرح البقاعي

2005 / 4 / 3
الادب والفن


تحرّكت الموسيقى السوداء ضمن الجغرافيا التي ولدت في شرطها فكانت الابنة الشرعية للمكان والزمان الموتورين، كما كانت المنطقة الحرة التي يتنفّس الرجل الأسود أوكسجينها بعيدا عن التلويث العنصري السقيم.
بقلم: مرح البقاعي


لعله من نافل القول إن حركة تحرّر الأفارقة الأميركيين لم تكن لتأخذ منعطفا ثورياً وعقائدياً حاداً لولا تعاضدها بشدة مع حركة موسيقية جارفة واكبتْ، فكراً وإبداعاً، ثورة السود الاجتماعية والسياسية بما عرف في العشرينات من القرن الفائت بنهضة هارلم، نسبة إلى حي هارلم في مدينة نيويورك الذي كان الموئل والمحرق لتلك الحركة.
وقد اجتمع لها لأول مرة في تاريخ الأميركيين الأفارقة مفكروهم وفنانوهم ومبدعوهم، ما أعاد تعريف هويتهم، وزجّ بتراثهم بقوة في تيار الفكر الأميركي المعاصر بحيث أضحت موسيقاهم رافدا فنيا مؤثرا وآسرا في آن.
وفي نظرة إلى الخط الفني الناظم لموسيقى السود من الجاز والبلوز، تراثيا، ثم حديثا موسيقى الراب، فإنه صوت الشارع بآلامه وآماله الجسام التي عاشها السود في بدايات القرن الفائت والتي انعكست نبضا في موسيقاهم، وحزنا في أغانيهم.
وقد اتّسمتْ هذه الموسيقى منذ إرهاصاتها الأولى بالحس الجمعي الموحِّد، وكثيرا ما عكست ضوء الشمس الحارقة في حقول القطن والتبغ حيث كان يعمل الأفارقة الأميركيون في ظروف عمل عنصرية لا إنسانية، وكثيرا ما اتخذت أناشيدهم هيئة الغناء الجماعي للتعبير عن انتمائهم وانشغالهم في همّ واحد يرزخ تحت نيره أصحاب الجلدة السوداء اللون.
تقول إيلويز وودز وهي فنانة هاوية ومحامية من أصول أفريقية: "كانت سنوات المرارة التي عاشها أبناء جلدتي كافية لتودي إلى أعمال موسيقية وغنائية تحرّرية جادّة تنطلق من وعي معمق وراديكالي للواقع الاجتماعي والسياسي المنقوص للمجتمع الأسود في الولايات المتحدة الأميركية".
فبراير الجذور
في العام 1926 قام الدكتور كارتر غودوين وودسون بمؤازرة العديد من الأميركيين الأفارقة وبعض المناصرين لقضية تحرير الزنوج من البيض الأميركيين بالتأسيس لـ"أسبوع تاريخ السود" الذي تحوّل في الستينات إلى شهر قومي أميركي على امتداد شهر شباط/فبراير من كل عام، اعتُمد كموسم قومي سنوي لإحياء تاريخ الأميركيين الأفارقة ومساهماتهم في مسيرة الحضارة الأميركية من خلال العروض المسرحية والاستعراضات الغنائية والراقصة وكذلك الأمسيات الموسيقية والشعرية والمعارض التشكيلية التي تنتصب في المدن الأميركية طوال الشهر من المحيط إلى المحيط.
ولعل الجامع المميّز لهذه النشاطات هو أن معظمها تعكس نبض الشارع والمعاناة التاريخية واليومية التي عاشتها أجيال من أصحاب البشرة السوداء في الولايات المتحدة الأميركية وما تعرّضت له من تمييز وعزل عنصريين.
لقد تأسّست تجربة الجاز الموسيقية مخضّبة بتعب الأفارقة وعرقهم في حقول حوض المسيسيبي حيث دُفعوا للعمل هناك إثر تحريرهم من نظام الرق في العام 1865 على يد الرئيس أبراهام لنكولن، وخضعوا، تاليا، لمفهوم تفوّق العنصر الأبيض واستتباعه لمواطنيه من الملوّنين، إلى أن انفجرت حركة الحقوق المدنية في ستينات القرن الفائت.
تقول وودز: "كانت الموسيقى وحلقات الغناء الجماعي هي الموقع والغطاء لاستحضار حلقات لتداول القضايا الملحّة والمستعجلة التي كانت تواجه أصحاب البشرة السوداء، لقد كانت الموسيقى أشبه بالمناطق الحرة التي يتحرّك فيها الرجل الأسود بعيدا عن سياط التمييز الخرقاء".
لقد تحركت الموسيقى السوداء ضمن الجغرافيا التي ولدت في شرطها فكانت الابنة الشرعية للمكان والزمان العصيبين، ولذا فقد حملت مورّثات الصدقيّة التي أهّلتها لتشكّل تياراً موسيقياً عارما في نهايات القرن الفائت وبدايات الحالي، ليس في الولايات المتحدة فقط بل انتقلت أصداؤها إلى ما وراء المحيط.
صرخة الجاز
مع نهاية الحرب الأهلية الأميركية في العام 1865 وجد الأميركيون الأفارقة أنفسهم أحرارا في مدينة نيوأورلينز بولاية لويزيانا حيث تتكاتف في شارع رامبارت علب الليل وصالات الرقص الأوروبي من الفالس والبالكا، وحيث تَرِكات الفرق الموسيقية العسكرية التي كانت تجوب الشوارع بآلاتها النحاسية مثل الساكسفون والترمبت. وفي ائتلاف هذين النهجين الموسيقيين المتنافرين إلى طبول الـ"تام تام" الأفريقية التي كانت تشكّل العمق الإيقاعي لألحان الأفارقة والتي حملها زنوج أميركا من قارتهم الأم السوداء، والمؤثرات الكنسية البروتستانتية من موسيقى الأورغن إلى صرخات القهر والعبودية التي تَسِمُ سنوات الاستبداد الغابرة، تشكّلت إحداثيات موسيقى سوف تطبع العالم لعقود ببصمتها الدامغة.
ومن هذه التوليفة الاعتباطية التي لا مرجعية موسيقية لها إلا الإحساس العميق بالحزن والقهر وصوت الأغلال وُلِدتْ موسيقى الجاز الأميركية التي اعتمدت في بداياتها على الآلات النحاسية والنفخية البسيطة التي لا تحتاج إلى دراسة موسيقية متأنية أو خبرة طويلة.
لقد كانت الحالة الشعورية المتّقدة التي تفور في نفوس هؤلاء الخارجين من زنزاناتهم الروحية الضيقة إلى زنزانات اجتماعية تكاد تكون أكثر ضيقا هي الخط الناظم الذي وحّد هذه العشوائية المتصلة من الثقافات والخلفيات والمكوّنات النفسية.
وفي العام 1895 تم تشكيل أول فرقة في المدينة برئاسة بادي بولدن، وكانت تعتمد على الارتجال في العزف دون الرجوع إلى نوتة مدوّنة أو إلى نسق موسيقي وصوتي بعينه. وقد شكلت هذه الفرقة نواة لموسيقى الجاز الارتجالية التي أخذت تنتشر في المدن الأميركية الكبرى كشيكاغو وبالتيمور ونيويورك حيث قام فلتشر هندرسن وديوك ألبينغتون في العام 1917 بتدوين موسيقى الجاز لأول مرة وبتقليص فواصل الارتجال في مساقاتها من أجل التأصيل لشيء من القاعدية لها. وفي العام 1923 ظهرت أولى الأسطوانات المسجلة لفرقة الملك أوليفر التي تشكّلت من بعض الموسيقيين الرَّادَة في هذا اللون الموسيقي المستجدّ من أمثال لوي أرمسترنغ وهنري دوتروي وساي أوليفر.
هكذا بدأ مد موسيقى السود يغزو الشارع الأميركي المتعطّش لتلك الإيقاعات الحارة والأصوات التي حدودها الأفق. وانتقلت عدوى الجاز إلى البيض الذين بدأوا ينتظمون في فرق موسيقية، ولو أنهم لم يبلغوا مبلغ السود الذي كان يلامس في أصالته عمق الوجع الذي تنبشه في النفس تلك الألحان.
وفي هذه الفترة أيضاً ظهرت البوادر الأولى لفرق "السيمفو جاز"، وهي عبارة عن تكوين موسّع يشتمل على آلات أوركسترا السيمفوني كاملةً، مضافاً إليها آلات فرق الجاز التقليدية. وكان جنتر شولر هو من راد هذه النقلة في العام 1955.
نوستالجيا البلوز وطلقة الراب
يقول عازف موسيقى البلوز الشاب تيري بينْ: "عزف موسيقى البلوز لا يتعلّق بلون بشرتك سوداء كانت أم بيضاء، إنه يعود إلى اتّخاذك الموسيقى كائناً نابضاً بذاته".
وموسيقى البلوز هي موسيقى الجسر بين الجاز والروك أند رول. ويعتبر جون لي هوكر الأب المؤسّس لموسيقى البلوز في فترة الأربعينات، والتي كانت بمثابة الوقود للحركات التحرّرية في الجنوب الأميركي في حينها، والمرجعية الأخلاقية والثورية لانقلاب المستضعفين على سجّانهم.
وبالرغم من بساطة الجملة اللحنية في البلوز التي تعتمد على حوار الغيتار والهارمونيكا والبيانو إلا أنها تفرّدت ببناءٍ سيكولوجيّ مركب لمكنونات النفس البشرية حيث تتصادم قيم الحرية مع عوامل القهر والاستلاب الإنساني وتتجه بالروح في ضبابات الحلم الذي ينعتق في اتجاه اختلاس الحريات.
ولعل موسيقى الراب التي ولدت في العام 1974 في حي برونكس النيويوركي الأسود على يد كول هيرك، والتي استحدثها بالمصادفة عن طريق دمج مرتجل للموسيقى بالكلمات، قد تحوّلت إلى ظاهرة موسيقية في التسعينات من القرن الفائت وصولا إلى يومنا هذا، واجتاحت شوارع العالم لما تحمله من رسائل التغيير السياسي والاجتماعي بلغة الشارع المبسّطة والرعناء أيضا، وبصوت ثاقب للفقراء والمحرومين والمضطهدين.
وليس من النوافل استدراج قول الفيلسوف والشاعر فريدريك نيتشه: "الموسيقى وحدها هي التي تتقدّم أرتال الجنود في اتجاههم إلى أرض المعركة".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف