الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قف بالمعرة ..

رحمن خضير عباس

2013 / 2 / 27
الادب والفن


قف بالمعرة ...
رحمن خضير عباس
معرة النعمان والزمن توامان . وكأنها قد تدحرجت من فضاء سحيق , لتستقر بين الكهوف والمغارات . ولاغرابة ان يكون اصل تسمية المعرة محرّفا عن اللغة السريانية , ( مغرتا ) بمعنى مغارة . هذه المدينة التي تتسلق الأرض وتنأى بعيدا حتى تلامس السحب , فهي ترتفع عن سطح البحر بمئات الأمتار . وكأنها تريد ان تلملم نفسها وتحمي كيانها من الغزوات . ومع ذالك كان جسدها مثخنا بحراب الغزاة والفاتحين من الآشوريين والفرس الى الرومان .
في هذه المدينة ولد الطفل أحمد في دار علم وادب . كان ابوه ألأكبر قاضيا . لم يمهله القدر ان يتمتع بالحياة كبقية أقرانه , فقد اطفأ مرض الجدري عينيه وهو لم يزل في الرابعة من عمره .لكن القدر الذي سلبه بصره اغدق عليه بصيرة , احاطت بعصره وامتدت الى عصور تقدمته . ألم يقل إنّ المتنبي يقصدني حينما قال :( انا الذي نظلر الأعمى الى أدبي ..) . لم يقل ذالك عن فراغ فقد كان من افضل المعجبين بشاعرية المتنبي وعبقريته . ذالك الأعجاب الذي جعله يتلقى إهانة من الشاعر والأديب الشريف المرتضى الذي كان يكره المتنبي . وفي مجلسه حاول ان يتتبع مثالبه وينتقص من شاعريته . وكان ابو العلاء حاضرا , فلم يتحمل اقوال مضيّفه فانبرى قائلا : لو لم يكن للمتنبي سوى هذا البيت لكفاه فضلا مدى الدهر( لك يا منازل في القلوب منازل .. ) . فاستشاط المرنضى غضبا وامر اتباعه ان يهينوا الشيخ الضرير ويجروه بشكل عنيف خارج المجلس,. وحينما استغرب الحاضرون موقف الشريف المرتضى قال لهم : إنّ هذا الأعمى ذكر مستهل القصيدة , ولكنه يعني البيت الشهير للمتنبي : ( واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل ) . غادر المعري بغداد متوجها الى معرته وهو يمسك جرحا نازفا بالمذلة .لقد اهين في موقف يستحق أنْ يكرّم من أجله , فقد كان بامكانه ان يعيش منعما اذا سكت عن قول الحق . وكان بإمكانه ان يعتاش في كنف الأمراء من خلال مدحهم فيصبح ذا مال وجاه , ولكنه كان يأبى ان يمتهن الكلمة اويتنازل عن الموقف الأخلاقي الذي نذر نفسه له .
ماذا تريدون لامال تيسر لي فيستماح ولا علم فيقتبس
كانت نظرة ابي العلاء الثاقبة الى الحياة جعلت منه كيانا شاملا من المعرفة فهو فيلسوف الشعر .وشاعر الفلسفة . فاقت عبقريته قدرات زمنه وكأنه سبق عصره وتسلق آفاقه .فمع انه تأثر بفلسفات عصره ولكنه أشبعها واغناها واضاف اليها , منطلقا من الأيمان العقلي . فقد كان يؤمن بمرجعية العقل التي جعلت افكاره عرضة للنقد , ومجالا لألقاء التهم ومنها تهمة الزندقة والألحاد ., وذالك لأنه كان ضد التفسيرات والتشريعات الفقهية التي اعتمدت على النظرة الأحادية الى النص :
إنّ الشرائع ألقت بيننا إحنا وأورثتنا أفانين العداوات
كان يروّض القوافي ليحملن جواهر من المعاني السامية . وقد ألزم نفسه بما لالزوم له في سبك الشعر , وديوانه اللزوميات خير مثال على عبقريته الشعرية .
لقد اختار المعري شظف االعيش وزهده والأنقطاع عن الناس منهجا لفترة حياتية امتدت ما يقارب ال49 عاما من عمره :
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن الخير النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسم الخبيث
لقد انقطع عن الدنيا وملذاتها وعن الناس واهوائهم, وكره العالم المادي حتى وان كان جسده . وكان يكتفي من الثياب أخشنها . ينام على حصيرة من البردي . ووضع جدارا بينه وبين الناس , حيث انقطع للتأمل والكتابة والأنتاج الفكري . حتى قيل لن مؤلفاته التي احترقت في الحروب الصليبية اضعاف مابقي منها . لكن الحوادث لم تجعله منسجما مع نمطية ما فرض على نفسه من العزلة والكتابة والتأمل . فقد اقتحم عزلته اهل المعرة , يستنجدون به أنْ يشفع لهم عند الأمير أسد الدولة صالح بن مرداس الذي غزا المعرة وحاصر اهلها . وكان الشيخ ابو العلاء مضطرا لتلبية الواجب الأخلاقي لأهل المعرة , فخرج من عزلته يتوكأ بجسده الهزيل . قيل لصالح :إنّ شيخا ضريرا خرج من باب السور . قال لهم انه ابو العلاء . اوقفوا الحصار . واستقبله احسن إستقبال مما حدا بإبن المعرّة أنْ يقول:
بُعثتُ شفيعا الى صالح وذاك من القوم شيء فسدْ
فيسمع مني سجع الحمام وأسمع منه زئير ألأسدْ
فقال صالح :( نحن الذين تسمع منّا سجع الحمام ,وانت الذي نسمع منه زئير الأسد )
هل كانت المعرة الحديثة وفية لشيخها الكبير ؟ هل استطاع ابناء هذا الجيل المحموم بأمراضه الطائفية أن يستوعب مكانة ابي العلاء , او فلسفته الأخلاقية , او مواقفه ؟ .العالم المتحضر يجعل من كتّابه وشعرائه وعلمائه الثروة الحقيقية للحاضر والمستقبل , لكن هذا الجيل يذهب الى نصب ابي العلاء لذبحه من الوريد الى الوريد . الى اي درك من الأنحلال الأخلاقي بلغ هؤلاء الذين قاموا باسقاط رأسه وتدميره . لاشك ان فداحة هذا الفعل تعلن عن بداية عصور الأنحطاط والبربرية . لم يكن ابو العلاء من مريدي الشهرة والجاه , عاش حياة من الزهد والحرمان , فهو لم يطلب ان تقام له النصب والتماثيل . لقد طلب فقط أنّ يُكتب على شاهد قبره ( هذا جناه ابي عليّ وما جنيت على أحد ).
إنّ اليد التي إمتدت الى هذا الصرح الثقافي يدٌّ متحجرة , تنطلق من بواعث ظلامية ,ارادت أن تدمر الفكر الحر والراي الحر , من خلال ما تلقنته من كراهية . هذا الصرح الذي وقف امامه شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري ليلقي قصيدته الرائعة عند ضريح شيخ المعرة والتي يقول فيها :
قف بالمعرة وامسح خدها التربا واستوح من طوّف الدنيا بما وهبا
واستوح من طبب الدنيا بحكمته ومن على جُرحها من روحه سكبا
تبا لهذه اليد التي إغتالت شيخ القصيدة والحكمة والسلوك الأنساني . ولعلهم في عملهم الأرهابي هذا , لن يستطيعوا إخفاء شمس الحقيقة او كما قال ابو العلاء عن نفسه :
وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم بإخفاء شمس ضوؤها متكامل
اوتاوة / كندا








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا