الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لسان الغولة

خبرالدبن الطاهر جمعة

2013 / 3 / 4
الادب والفن


مازلتُ إلى الآن أنتظر صديقي " علي ولد رحومة " ...
إذْ لا أحد يعرف لسان الغُولة في القرية إلا هو .....
كنا صغارا نلهو بالنجوم و تهزنا حكايات الجدات المترعة بالأحلام و الخافقة بالخيال الصاخب و كانتْ خيالاتنا تنمو في قريتنا بين شاطئ البحر و الجبل و كان الوادي الذي يشق بساتينها الخضراء الصغيرة طويلا أفعوانيا ، يمتد من أسفل الجبل العالي البعيد إلى شاطئ البحر ...طوال فصل الصيف كنا نلتقي عند الظهر لنلعب الكرة على أعشاب البحر اليابسة ثم نصطاد السمك بخيوط صنّارات بسيطة و ذلك عندما يتراجع الوادي فيفصل بينه وبين البحر حاجز ترابيٌّ و يتحوَّل إلى بحيرة صغيرة تطوف بها الطيور الجميلة و يحيط بها القصب الأخضر الراقص يمينا وشمالا مردِّدًا صوتا ساحرا يغزل في صمتٍ حكايات من حريرٍ ستظل محفورة في ذاكرتنا و لكننا نرجع إلى قريتنا بمجرد ما يعود الوادي إلى الامتلاء فيأخذ ماؤه المشتدّ الساكن في العلو و يعود إلى ما كان عليه فيلامس البحر ويصبّ فيه فكانت المنطقة الواقعة وراء الوادي مخيفة عندما يحلّ الظلام فكنا نسرع في العودة إلى البيوت خاصة نهاية فصل الصيف و بداية الخريف غير أن “علي ولد رحومة “ الذي كان قائدنا في ألعابنا هو أقوانا في كل شيء ، هو الذي علمنا كيف نبحث عن طُعم السمك في الوحل الأسود عند حافة الوادي و هو الذي كان أقدرنا وأسرعنا على شق ِّ الوادي سباحةً في فصل الربيع ....و كنا في كل مرة نتم ألعابنا نعود بسرعة إلى القرية فنذهب إلى بستان أبيه عمي رحومة غير البعيد عن حافة الوادي و في كل مرّة نلتقي أباه كان يبتهج بلقائنا و يسألنا عن السمكات الصغيرة التي اصطدناها...
كنا ثلاثة خليل " بوقرنين" سميناه هكذا لأن رأسه كان أقرب إلى مثلث يعلوه قرنان و العابد " بوشكارة "الذي كان قويا ممتلئا مثل كيس من الشعير و أنا ، يقودنا ولد رحومة الذي كان دائما يروي لنا الحكايات العجيبة التي يسمعها من الكبار .....
و في أحد أيام الصيف القائظة أتانا "علي ولد رحومة" ليروي لنا شيئا عجيبا ، قال لنا : إن الوادي ينقلب كل غروب من ماءٍ إلى لسانٍ هو " لسان الغولة " الذي يلفُّ القرية في كل ليلة فيجعل الأهالي يخافون من الخروج في الظلمة قال لنا إن الغولة نائمة في كهف الجبل البعيد ولسانها يمتد على طول الوادي حتى يصل الشاطئ ، لسانها يشبه أصابع الأخطبوط حين نخبطها على الأرض كل فصل خريف ليسهل طبخها و كيف تتمدد و تتمطَّى قبل أن تموت ...يومها قال لنا إن حكاية " لسان" الغولة يجب أن تبقى سرًّا بيننا الأربعة و عندما سألناه عن السبب قال إنه يريد أن يخلِّص القرية من أذاها و ذكر لنا كلمة كبيرة قال يجب أن نصبح أحرارا و أمام دهشتنا ظل ينظر إلينا بعينيه البراقتين ، كان في عينيه خضرة لامعة و دافئة ترى فيهما هدوء البساتين و شموخ شمس الجنوب ، قال لنا وهو يهمس : " إذا قطعتُ لسان الغولة سنصبح أحرارا نلعب متى نشاء و حيثما نشاء ، لن نعود إلى القرية عند المغرب و سنبقى نلعب في الناحية الأخرى ، لن يمتلئ الوادي و لن ننتظر مرور الخريف والشتاء حتى نسبح فيه ، سيصبح هناك فصلان فقط الربيع والصيف نلعب فيهما كما نشاء هل فهمتم الآن ؟ ". تخيلتُ الحياة بدون شتاء أو خريف ...ستكون الضفة الأخرى في متناولنا ، سيصبح من السهل العبور إلى عالمنا السحري هناك ...سيزول الخوف من الماء المتلاطم المخيف ......
و ذات يوم بعد أن أتممْنا ألعابنا و بدأتْ الظلمة تداهمنا ، تركنا عليٌّ و ذهب ناحية شجرة من أشجار الرمّان وجلب معه " حجَّامة " حادة هي أشبه بسكين معقوفة تُستعمل في استخراج عصير النخل ..وقف عليٌّ يفك خرقة القماش عن الحجامة ثم أخرج صرَّة صغيرة من جيبه كان بها كمون أسود ، قال لنا : " سأنثر هذا الكمون داخل الشورت الذي سأسبح به ، الكمون سيبطل سحر الغولة إذ يمكنها أن تمسخني إلى سمكة أو دودة و سأضع الحجَّامة في فمي و أندفع في السباحة حتى أصل إليكم ....أنتم الآن اذهبوا إلى الضفة الأخرى و اتركوني وحدي هنا فما إن يحل الظلام و يعلو مستوى الماء فيتحوَّل إلى لسان أسود عند ذلك سأسبح لأصل ناحيتكم و أقطع بهذه الحجَّامة لسانها .." كان واثقا حادا صارما ولم نشكَّ في قائدنا لحظة واحدة ولذلك تركناه في مكانه و عدنا إلى ضفة الأمان ناحية الطريق المؤدي إلى القرية .
لن أنسى تلك الليلة المظلمة الهادئة إلا من أصوات الهواء الذي يداعب القصب الأخضر الندي ......لم يكن لأحد منا أن يتصور أن قطع لسان الغولة سيكون في تلك الليلة المظلمة ، لقد جلسنا على ربوة صغيرة نداعب الرمل النديّ بأقدامنا الحافية منتظرين ظهور عليّ ، شعرتُ بصوت ارتطام جسمه الصغير بالماء فأيقنتُ أن الغولة قد فردتْ لسانها الطويل مثل إصبع الأخطبوط من أسفل الجبل إلى الشاطئ كعادتها ... طال الزمن فوقفنا على الربوة منتظرين في توتُّرٍ...نزلنا قليلا لكن لا فائدة ..لمحتُ وسط الظلام خيالا ليدٍ صغيرة تمتدُّ عموديا ناحية السماء ..بدتْ وكأن السواد يبتلعها ...ظللنا ننتظر وعليٌّ لم يبدُ منه شيء ...طال انتظارنا و لا شيء ظهر أمامنا ...تزايدتْ الظلمة و بدأ صوت الموج يتعالى و يغطي هفْهفةَ صوت رؤوس القصب البارد و لكن دون بروز أي أملٍ ....سرنا بدون أن نشعر ناحية الشاطئ إذ قد يخرج عليٌّ من مكان ثان بحكم قوة التيار مشينا على طول الضفة حتى اقتربنا من الشاطئ ، وقفنا حائرين بطفولتنا اليتيمة الباردة أمام هدير موج البحر و لسان الغولة الأسود المتعاظم و مع الشعور بالتيه والحيرة حملتنا أقدامنا الخائفة إلى القرية توجهنا إلى بستان عمي رحومة الذي ما إن رآنا حتى سأل عن علي و كله دهشة وحيرة و أمام صمتنا المتآمر مع أقدامنا المبتلَّة والمكسوَّة بالرمال ، أمرَنا بصوت مرتعش أن نعود إلى بيوتنا في حين ركض هو تجاه الوادي ....
كانت ليلة طويلة في بيتنا الخالي من أهله ، تناهتْ إلى سمعي أصوات جلَبَة الأهالي و ضجيجهم ، تعالتْ الأصوات فأصبحتْ بكاءً و نديبًا ، خُيِّلَ إليَّ في البداية أنه صراخ الغولة من الألم و لكن العويل الذي مزَّق هدوء القرية أشعرني بالخوف ، لم أنمْ تلك الليلة ، حلمت أن عليًّا ولد رحومة بلعتْه الغولة و أنَّ الحجاَّمة سقطت من فمه حين ارتطم جسمه بالماء ، لمحتُ يده الصغيرة معلَّقة فوق الماء و كأنها تناديني ، في الصباح رأيتُ الناس عند باب دار رحومة مجتمعين يقهرهم الحزن فتوجَّهتُ إلى الوادي ، لحقني العابد بوشكارة و خليل بوقرنين بعيونهم الحمراء المنتفخة ، وقفنا عند الربوة الصغيرة يتامى بلا قائد ..كان الماء في الوادي ضحلا كعادته كل صباح ٍ...ظللنا ننتظر و....ننتظر و لكن عليًّا لا يريد أن يخرج من الماء ...
مرَّ على تلك الليلة ثلاثون صيفا .... ومازلتُ كل بداية خريف آتي لأقف عند نفس الربوة وقت المغرب ..منتظرا إياه و لكني في كل مرة ...لا أرى سوى يده الصغيرة المغلَّفَة بالظلمة تلك اليد التي لا تريد أن تكبر ...
لا أدري إن كانت تناديني أو تودّعني ....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان