الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ناسك في محراب الغفوات

مزمل الباقر

2013 / 3 / 4
الادب والفن


ناسك في محراب الغفوات



" الفاتو فات
في إيدينو
سبعة لفات
والجبة .. وقعت في البير
وصاحبها .. واحد خنزير
والهول .. ضرب التلفون"

صيحات طفولية مرحة، لشفع حوش الخليلاب وقد شرعوا في مزاولة اللعب الصباحي. تأتيك وأنت مسجاً – كجثة – فوق فراشك. إغفاءة صغيرة غشيتك مجدداً، أفقت منها علي صوت العيال بالجوار:

" والعسكر واقف طابور
يا جماعة شوفو القنبور
والحيطة وقعت في الزول
والحيطة وقعت في الزول
والحيطة
والحيطة
والـ... "

ما أجمل الطفولة لا هم لا غم، همست بها كأنك تخشى الجهر. معتمداً علي ساعديك رفعت رأسك عن الوسادة التي بللها عرقك. لا تدري لما فعلت ذلك، ربما مللت الرقاد الطويل، وظهرك الذي أضحي كجذع شجرة يابسة، كم تمنيت لو تذرعته أصابعك الطويلة جيئةً وذهاباً.
أفلتت منك تنهيدة يائسة وأنت تحدق في فراغ الغرفة الواسعة جداً، لا شئ سوي مضجعك والتلفاز وتينك النافذتين إحداهما علي يسراك تفصلك عن الشارع، والأخرى تبصر بيت العنكبوت الذي يحتل إحدى الأركان القصية لسقف غرفتك المتسخ، أنت مثله تقضي سحابة نهارك في نوبة إغفاءات متكررة. عبثاً تحاول دفع تلك الإغفاءات الملحاحة عن جسدك الشاحب. وقد ذوي كشمعة أمضت طرفاً من الليل ساهرة .

" اللبن .. اللبن ... طق طق طق ... اللبن .. اللبن
طق طق طق ... اللبن .. اللبن "

عثمان اللباني يفصل بين المنادة المتكررة على بضاعته، بالقرع على ماسورة الكارو القديم. كان يقرع في حدهٍ وحماره التعس يحوم كل أزقة الحي العتيق. ثم تناهى إلى سمعك - عبر نافذتك الجالسة على حائط الشارع – صوت فوزية امرأتك تحادث عثمان اللباني.

تغشاك نوبة إغفاءة أخرى يضع لها حداً ذلك الصوت المبحوح من كثرة المنادة! ها قد حان أوان منادة طه الخضرجي على بضاعته. إنها العاشرة صباحاً ولاشك. تعرف الزمن تحديداً بقدوم عثمان اللباني في السابعة. وتحين العاشرة بسماعك لصوت طه المبحوح.

دقائق معدودات ويتعالى الطرق على بابك، تفتحه فوزية موارباً وتشرع في مجادلة الخضرجي، قبل أن تبتاع منه ربطة الملوخية، وكيلو البطاطس. وربما شيئاً من السلطة الخضراء، وبضع أكياس من الدكوة. وتسمع زوجتك تقول: (والله .. محمد .. كويس الحمدلله ، إلا اليوم كلو نايم!). لابد ان طه الخضرجي قد سألها عنك وعن صحتك.

تغشاك نوبة إغفاءة رابعة قبل أن تفرغ فوزية من مجادلتها لطه الخضرجي، حول أسعار ما ترغب وما لا ترغب في شرائه!. قد تطول غفوتك وقد تقصر لا يهم طالما أنها تنتهي دائماً بخطوات فوزية قادمة نحوك وبيمناها صينية إفطارك الصغيرة. ستناولك بعد أن تجهز على طعام إفطارك كوب الماء وكبسولة الدواء التي تزدردها بعد كل وجبة.

يد فوزية بعرض ظهرك تعاونك على البقاء جالساً، تعديك مجدداً لمزاولة طقوس الإغفاءات. يدها تلك تشعرك بالخدر اللذيذ، ليس الخدر الذي تعودت عليه قرابة ثلاثين عاماً هي تاريخ زواجك قبل ان تمرض. إنه خدر آخر كظلك هو، قبل أربعين عاماً كنت تمارس هوايتك اليومية: مداعبة عنق فوزية الشمعداني، وبين الفينة والأخرى تمشط فرعها الفاحم السواد بأناملك الطويلة. وها أنت بعد عشرة أعوامٍ من معاشرة مرض حار الطب فيه، واستعصى علي الاطباء شفاءك منه، مرضك الذي فقدت خلال سنواته العشر تركيزك إلا قليلاً، وشيئاً من ذاكرتك.

عشرة أعوام هي تاريخ مرض، عشرة أعوام ليس إلا ! أصبحت فيها بلا جدوى، وفحولة رمزية. كلما رغبت في فوزية، نظرت إليك بحزن وغادرت غرفتك باكية فتنزلق نظراتك المتحسرة إلى جسدك الممدد بطول السرير، برهةً وتغيب هذه المرة في غياهب الذاكرة الأسيانة.

يحملك من دنياك الماضية إلى لحظتك الراهنة، حنجرة ندية لجبارة الله مؤذن مسجد خير السيد الزاهد. تمشط نظراتك المتعبة سقف حجرتك التي حلت عليها قبيلة نمل أبيض منذ وقت ليس بالقريب. إنك تحفظ أماكن بيوت النمل الأبيض كلها عن ظهر قلب، حتى التفاصيل الدقيقة لتلك البيوت اللعينة تدركها إدراك الراصد.

تغادرك زفرة حارة تزكي إحساسك بالضيق، تتمنى لو أن الله لم يخلق الأرضة، وتحار أحياناً في الحكمة من خلقها. ثم يدركك الله برحمته، فتتذكر الاستغفار، فتستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم. هنيهة وتغيب في إغفاءة جديدة ربما تعقبها نوبة سعال حاد، تجيئك فوزية مسرعةً على إثرها، حاملةً زجاجة الدواء، وبيمناها ملعقة الدواء التي تدفعها بآلية إلى تجويف فمك الذي هجرته أسنان وأضراس! وتدعو لك بعاجل الشفاء من هذا السعال اللعين، فترد أنت بغمغمة لا تدرك فوزية كنهها.

تجاوبك في كل مرة بذات النظرة الحزينة التي جاوبت بها ذات غمغمتك، منذ أن غزت جهازك المناعي تلك الفيروسات، التي أحدثت السعال في شعبك التنفسية. لكنك هذه المرة أمعنت طويلاً في ملامح وجهها قبل أن تمسك بكفها وتقبله تماماً كما كنت تفعل في سالف الزمان!.

أحنت عليك فوزية قامة مديدة وطبعت قبلتها على جبينك المتغضن ومضت عنك إلى المطبخ مسرعة فناديتها، لا تدري لما رفعت عقيرتك بالنداء!. لبت طلبك بذات السرعة، فكرت قليلاً، سألتها بعد تفكير قليل، أن تخبئ صدرك المعذب جيداً. فتفرد فوزية الملاءة بطول جسدك المسجى وتبسم لك قبل أن تعود مجدداً إلى المطبخ.

وحينما تحكم الغطاء من حولك و تمضي. تنفر من مقلتيك دمعتان صغيرتان حارتان، تلخصان سيرة وجع سرمدي وقد بلغ منك اليأس كل مبلغ. برهة وتعود من جديد ناسكاً في محراب الغفوات.


مزمل الباقر
امدرمان - 2002م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل


.. فيلم ولاد رزق 3 بطولة أحمد عز يقفز لـ 193 مليون جنيه منذ طرح




.. عيد ميلاد خيرى بشارة.. بصمات سينمائية مميزة وقدم عمرو دياب و