الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
الاغتصاب.. أو الموت مرّتين
نصير عواد
2013 / 3 / 5ملف مفتوح: مناهضة ومنع قتل النساء بذريعة جرائم الشرف
سقط ديكتاتور العراق فأصيب ضحاياه بالخبل والهياج في تقاسم التركة، على الجانب الآخر تكرر مشهد طوابير السجناء والمهجّرين وأهالي الشهداء والمفقودين ومن مسهم الضرر للمطالبة بالتعويض ومحاسبة الجناة، وهم أصحاب حق في ذلك. ليس موضوعنا هذا ولكنه مدخل للوقوف عند "فزعة" الحقوق هذه ونسأل أنفسنا لماذا لم نسمع صوتا واحدا بين هذه الطوابير لامرأة اغتُصبت في المعتقل تطالب بالتعويض ومحاكمة الجناة، فهل يا ترى مجتمعنا العراقي ناصع البياض وأن دهاليز مؤسساتنا القمعية لا تعرف الاعتداء؟. دعونا نُصيغ السؤال بشكل آخر: هل تستطيع المرأة المغتصبة أن تَعُد ما حدث لها في السجن جزء من تاريخها النضالي وتتباهى به بين صديقاتها وجاراتها، كما يتباهى المناضلون بتواريخهم، أم أن ذلك يثلم حدود المنطق الذكوري الذي حفرته القيم والتقاليد في الذاكرة الاجتماعية؟. لا شك أن حوادث الاعتداء في السجون غالبا ما يكون الجاني فيها مجهولا أو أن الجاني هو شخصية معنوية كأن يكون مسؤولا كبيرا أو جهازا أمنيا أو أدارة للسجن، وبالتالي لا يمكن معرفة واثبات أدلة الجريمة. ولكن العائق الأساس في عدم ظهور وتوثيق مثل هذه الحوادث المؤلمة ومحاسبة الجناة هو تخادم القوانين مع قيم المجتمع المنغلقة والحساسة لمفردة "الشرف" والتي تلقي باللوم دوما على المرأة، حتى لو كانت المغتصبة مظلومة وسجينة، إذ ليس من تقاليد المجتمع الذكوري في مثل هذه الحوادث القاء اللوم على الآخر القوي، الفرد أو المجموعة أو النظام السائد. ولذلك لا نجده مفاجئا افتقار هذه المجتمعات إلى مبادرات عملية في لجم الرجال واصلاح السجون ومعالجة الشاذين منهم وسن القوانين الرادعة لمثل هذه الأفعال. شعوبنا متناغمة مع تاريخها الطويل ومستندة إلى مرجعية مُجربة "وأد البنات" في مواجهة مشاكل الشرف، ولا تجد غضاضة في لجوئها إلى آخر العلاج "الكي بالنار" المتمثل بالقتل وحجز النساء في البيوت وإبعادهن عن مسالك الفتنة وإضعاف حاجات التجميل والتزيين عندهن.
صحيح أن المرأة المغتصبة يُنظر إليها، في العموم، كمظلومة ولا يُنظر إليها كعاهرة أو آثمة، وأن لا ضير من التعاطف معها ومساعدتها، ولكن هذا ليس سوى الوجه الشفوق من حكاية النفاق الاجتماعي ولا يخفي النظرة الدونية السائدة لمن فقدت شرفها، ولا يمحي السجلات الرسمية التي حددتها من " أصحاب السوابق" بل لا يشفع للضحية تاريخها الاجتماعي وموقفها الوطني وموقعها الوظيفي. فهذه المجتمعات المبنية على الخطأ لا تقبل بخطأ امرأة، حتى وإن كانت مظلومة، طفلة أو سجينة، ولا تتردد في تكفيرها اجتماعيا. بمعنى أن الضحية هنا لا تكتفي بالظلم والاعتداء الذي وقع ضدها بل عليها أن تتهيأ وتتقبل مصيرها في مواجهة قيم المجتمع وتقاليده لكي يُكمل على الضحية بالقتل أو العزل أو النبذ والاحتقار. في الظروف الاعتيادية يلجأ المجتمع، تدعمه القوانين التي سَنّها المجتمع الذكوري، لتزويج المغُتَصَبة من مغتَصِبها، وهي تخريجة فيها الكثير من النفاق وتبرير الاعتداء ولكنها صارت بمرور الأعوام مقبولة اجتماعيا أو أنها حل مؤقت للمشكلة، ولكن ماذا تفعل الضحية حين يكون الجاني مجهولا أو أن الجاني هو مؤسسات الدولة القمعية؟.
كثيرٌ منا سمع حكايات أو شاهد أفلام عن الاغتصاب ولكن كم منا عرف ذلك عن قرب، أو جالس امرأة جرى اغتصابها في سجون الاعتقال بسبب موقفها السياسي أو انتقاما من أبيها وأخوتها؟ الجواب هو أنهم "قلة" غائبة. لم نرَ أو نلمس حضورا لضحايا الاغتصاب في الحياة العامة، فهؤلاء يحملون عيبا لا يحتمل وتشوهات لا توصف صاروا معها يعيشون في جلدهم بعيدا عن متع الحياة، بلا اصدقاء أو مشاريع عائلية مستقبلية، ولذلك هم أكثر الضحايا حاجة إلى هواء نقي يتنفسون وإلى صديق يخفف من عذابهم الشخصي الأصمّ وإلى مؤسسات إنسانية واجتماعية تقف إلى جانبهم، ولكننا في الواقع لم نرَ للمرأة المغتصبة من نصير غير المرأة نفسها (الأخت، الجارة، الصديقة) تكتم سرها وتدافع عنها وتساعدها في مواجهة العيون والألسن. المشكلة إن من عَرَف عن قرب واحس بجسامة الحدث من الذكور تأثر هو الآخر بصمت الضحية ومعاناتها، ولجأ في أكثر من مكان إلى الصمت والتبرير واعتبار أن مشكلة الاغتصاب ذات طابع اجتماعي وليست محصورة في فرد أو مجموعة. ثقافة السكوت المشحونة بالمرارة والعفن أدت بكثيرين، الضحية وأهلها واصدقاءها، أن يحملوا تفاصيل الاعتداء معهم سرا مقيتا إلى القبر، بعد أن ألتهوا به أعوام طويلة من دون الوصول لحل أو علاج أو استقرار. ولو حسبنا عدد العلاقات المبنية على التضامن والتعاطف، والتي تحولت إلى زيجات طبيعية، فلن تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وامتلأت بكثير من المحاذير والصمت. ما زلنا نتحدث عن دور الأفراد ولم نتطرق للمؤسسات الخيرية ذات الطابع الاجتماعي والديني، فالأولى كسولة والثانية تلعب دورا كارثيا لا يعطي الحق للمرأة بكل الأحوال، وإن أفضل الحلول الجاهزة هو غسل العار وعزل النساء وإلقاء اللوم عليهن وتكفيرهن دينيا واجتماعيا. ولا نبالغ بالقول أن قسوة المجتمع وتقاليده وقيمه لا تقل ضررا عن فعل الاغتصاب، أدى ببعضهن إلى الجنون أو الانتحار بسبب عدم قدرتهن على المواجهة وعلى فهم ما حصل لهن، ومنهن من بقيت حتى النهاية دون زواج أو حياة عائلية طبيعية. من جهة أخرى نجد إن الظروف الموضوعية التي تحيط بالمجتمع غالبا ما تزيد المشاكل الاخلاقية تعقيدا واستعصاء، فبسبب الحروب والصراعات وتراجع اعداد الرجال بشكل ملحوظ صارت حتى النساء العاديات، المحتشمات والصغيرات بالسن والراغبات بالزواج، يواجهن صعوبات في إيجاد الزوج المناسب والاستقرار العائلي، فكيف بمن قرر المجتمع رفضهن ونبذهن؟.
إن تَمهُلنا عند حالة من الاعتداء ليس تبريرا أو نسيانا لحالة أخرى. ففعل الاغتصاب مدان بكل أشكاله، إنْ كان ضد المرأة أو غيرها، في السجن أو في البيت. ولكننا نرى في ربط فعل الاغتصاب بالمرأة، الضعيفة جسديا، ليس مقنعا على الدوام، وإن حصر الاغتصاب فقط بفقدان العذرية عند البنت لا يقل سذاجة. فالاغتصاب فعل دنيء يُمارس بأساليب نفسية وجسدية متنوعة، وهو يحدث مع المرأة الثيب وضد الأطفال من الإناث والذكور، بل أن هناك الكثير من الرجال الأشداء جرى اغتصابهم في السجون والمعتقلات السرية لغرض اذلالهم والحط من قيمتهم واضعاف مقاومتهم؛ بمعنى إن الاغتصاب جريمة مجتمع بكل قواه وقيمه وقوانينه يتم رميها على جثة إنسان في ظروف غير طبيعية. هذا يجرنا إلى حقيقة أن هناك الكثير من المشاكل وردود الأفعال تناسلت من فعل الاغتصاب لم يعلن عنها أصحابها وفضلوا النسيان والصمت لاستمرار حياتهم. فعلى سبيل المثال ظهرت أمراض نفسية وجسدية وحوادث انتحار بسبب الاغتصاب، وهناك نسوة خرجن لم يعدن إلى البيت وأخريات أنجبن وليدا في السجن، حاروا في نسبه ثم أعُطي الوليد لقب الأم، أنتج ذلك مشاكل قانونية واسئلة اجتماعية بقيت دون اجابات.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. ضحايا زواج القاصرات في العراق
.. العنف ضد المرأة في الفضاء السيبراني
.. نايلة الزغلامي
.. رجاء الدهماني
.. هالة بن سالم