الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آخر الشارع

سها السباعي

2013 / 3 / 6
الادب والفن





أَمُرُّ على دكانه كل يوم وأنا عائدةٌ من عملي، لا يزال متشبثًا بمكانه على الرغم من الهدوء الذي خيم على الشارع، فأصبح من النادر عبور المارة فيه، بعد بناء السور المرتفع الذي أحاط بخط السكة الحديد بعد أن ازدوج، ليسير عليه مترو "الأنفاق" فوق الأرض، مبتلعًا نصف مساحة الشارع، ومغلقًا المزلقان الذي كان يعبره سكان الشوارع المجاورة للخروج إلى الميدان. الكثير من المحلات هنا أغلقت أبوابها، لكنه لا يزال يفتح دكانه كل صباح، ولا يعتمد إلاّ على زبائنه المخلصين، الذين حافظوا على ولائهم له ربما بسبب أسعاره المهاودة والتي تقل قليلاً عن أسعار محلات الـ "دراي كلين".

كثيرًا ما أقابله وهو يسير بخطوة غير منتظمة بسبب ساقه التي أصيبت في حادث منذ سنوات، وتم علاجها بحسب الحال؛ يحمل الملابس التي تحتاج إلى الكي، وقد أحضرها من منزل أحد الزبائن، حيث يصعد الى البيوت ويدق أبواب الشقق بصيحته المعتادة؛ "مكوا". كانت الملابس دائمًا معبأةً في كيس وسادة، أو في قطعة قماش معقودة على شكل "بؤجة"، أو في جلباب رجاليّ جعلت منه ربة المنزل "زكيبة" بعد أن استخدمت الكُمَّيْن كعقدةٍ لخنق الجلباب من رقبته المفتوحة، فلا تتسرب منه الملابس. هذا الشكل الأخير كان يوحي لي برغبات مكبوتة ربما جالت في العقل الباطن لربة المنزل تلك، مما يجعلني ابتسامتي تتسع رغمًا عني كلما رأيته، بينما يظن عم سلامة أنها تتسع له.

في كل الأحوال كنت أبتسم لابتسامة عم سلامة التي يبادرني بها، ثم يستوقفني محيِّيًّا وسائلاً ومستفهماً عن أحوال البلد، ويسألني عن رأيي!. ولأنني كنتُ ولا أزال غير قادرة على تكوين رأيٍ واضح بيني وبين نفسي، فقد كنت أشعر بحرجٍ شديد، فأرد بكلمات مثل "ربنا يعين"، و "إن شاء الله خير" و "بكرة تتعدِّل"، وكنت أحول مجرى الحديث إلى أي اتجاه مختلف، وكان هو بفطنته يفهم فلا يثقل عليّّ، فيتجاوب معي ثم يحييني ويكمل طريقه إلى دكانه.

دكان عمّ سلامة لم تدخله الكهرباء، ليس لأنها غير متوفرة، ولكن من أجل التوفير. لا يزال عم سلامة حتى الآن يستخدم المكواة الحديدية التي يقوم بتسخينها على وابور الجاز، ويكوي الملابس من فوق "الفودرة". والفودرة لمن لا يعلم، هي قطعة قماش قطنية نظيفة، يتم ترطيبها بالماء، ثم توضع بين المكواة والملابس، لتحفظ الملابس من أي سواد قد يصيب المكواة جراء "هباب" الوابور (ليس المقصود هنا الشتيمة، ولكنها مصطلحات مصرية قديمة، أُسيء استخدامها لاحقًا!)، كما أن الفودرة تحفظ الملابس من اللمعة غير المحببة التي قد تصيب بعض أنواع الأقمشة الرخيصة بسبب حرارة المكواة. تفاصيل صغيرة تفادتها التكنولوجيا الحديثة بالطبع في مكواة البخار، لكن عم سلامة لم يكن يقدر على ثمنها ولا على فاتورة الكهرباء، فاستمر يؤدي الصنعة كما كان يؤديها من سَبَقَهُ من "المكوجية".

أما منضدة الكي، فهي ليست سوى منضدة خشبية عتيقة، لكنها متماسكة، راسخة في الأرض تحت ثقل ضربات عم سلامة بمكواته الحديدية، وحركته الدائبة بها ذهابًا وإيابًا لأعوامٍ طويلة. ولا عجب، فقد تم صنعها في وقت كان فيه إتقان الصنعة هو العرفُ السائد، وكان الغش أقل ما يكون. سطح المنضدة مغطى بطبقات من بطاطين صوفية بنية اللون خشنة الوبر، مثل التي يستعملونها في السجون ومعسكرات الجنود، تعلوها ملاءةٌ قطنية نظيفة.

تسلية عم سلامة الوحيدة داخل جدران دكانه العارية من الطلاء، هي الراديو الصغير الذي يعمل بالبطاريات، ويبدو أنه يضحي راضيًا بأجرة كي قميصين لاستبدال البطاريات كلما نفدت. كثيرًا ما أراه واقفًا أمام الرف الذي وضع عليه الراديو بعيدًا عن حركة يده بالمكواة وعن حرارة لهب الوابور الذي لا ينطفئ طيلة اليوم؛ يتنقل بين المحطات كلما طالت الفترات الإعلانية بين البرامج – شيء لم يعتد عليه – ، أو يبحث عن أغنية يعرفها لمطرب يعرف اسمه بين كل هذا الكم من الأغنيات المتشابهة لمطربين لا يعرف أسماءهم.

لم يصرح لي عم سلامة بهذا أبدًا، لكن هذا هو ما أراه خلف ابتسامته الطيبة ومن خلال رموشه الرمادية؛ يحيا عم سلامة في زمن غريب عليه، لا يستطيع أن يتكيف معه، ولا يستطيع أن يلحق بمتغيراته السريعة. لذلك فهو يحتفظ بثوابتِ حياةٍ ماضيةٍ تتماشى مع إدراكه، يجد فيها سلامَهُ النفسي وهدوء باله. لا يشاهد عم سلامة برامج التوك شو لأنه ينام مبكرًا بعد تعب الوقوف على قدميه طيلة اليوم، ولا يقرأ الجرائد ليس لأنه أُمِّيّ، ولكن لأنه لا يريد أن يوجع دماغه. يقضي صباحه على المقهى يشرب الشاي ويدخن الشيشة، ثم يتوجه ليفتح دكانه، لتعانق أصابعُهُ رفيقةَ حياته، التي ألانت العشرة برودتها المعدنية في يده. وعلى السور المنخفض الذي بناه بالطوب الأحمر لكي يستند عليه عند هبوطه الدرجات الحجرية التي تنزل به إلى باب الدكان، بعدما انخفض مدخله كثيرًا إثر الرصف المتكرر للشارع ، يجلس عم سلامة يدخن سيجارته المحلية، وينظر إلى الأفق المتاح له؛ آخر الشارع!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - العزيزة سها
جمشيد ابراهيم ( 2013 / 3 / 6 - 19:22 )
لو كنت رساما لرسمت عم سلامة و دكانه الذي اشتاق لرؤيته و لكنك طبعت الصورة في ذهني آخر الشارع لربما يعني انتهاء زمن عم سلامة شكرا على كلمات جميلة مثل الفودرة احيانا اتمنى ان يقف الوقت
لك مني اجمل التمنيات على هذه الصورة الجميلة


2 - الفودرة
سها السباعي ( 2013 / 3 / 6 - 20:17 )
الأستاذ جمشيد إبراهيم المحترم

عم سلامة ومن يشبهونه هم الفودرة لهذا الزمن، هم الذين يحولون بين نفوسنا وبين عالم متوحش لكي لا تصيبها عدواه. البساطة والفطرة والحنين إلى أيام أقل قبحًا. شكرًا لقراءتك.


3 - صورة إنسانية جميلة أستاذة سها السباعي المحترمة
ليندا كبرييل ( 2013 / 3 / 7 - 22:08 )
ما أقلّ هذه اللقطات التي ضاعت في زحمة التطور، ونحن إذا صادفناها تولانا العجب أنها ما زالت موجودة . والأديب كالرسام ، فنان يلتقط ما يؤثر في نفسه فيقلبه خطوطاً أو ألواناً أو موسيقى أو نحت .. استطعت عزيزتي الكاتبة أن تضعينا في المشهد بكل قوة، وأستطيع أن أتخيل هذه الشخصية الجميلة بكل حيويتها ،
وحده الفنان يلتقط النثرات الإنسانية مما حوله، هذه عبارة أرددها للمرة الثانية أمس واليوم،
ما أمتع الحياة عندما تتخللها هذه النماذج البسيطة فتبث حرارة في نفوسنا .
أحيي أستاذنا الدكتور جمشيد ابراهيم المحترم، وأسعدني أن وقع اختياره الراقي على مقالك لقراءته
أحييك صديقتي العزيزة ولك الاحترام والتقدير


4 - نماذج تثري الحياة
سها السباعي ( 2013 / 3 / 8 - 09:46 )
عزيزتي الأستاذة ليندا كبرييل المحترمة
بساطةعم سلامة هي ما تحفظ للحياة نقاءها، وهدوؤه هو ما يحمينا من صخبها، واستكانته الحكيمة هي ما توقظ في أنفسنا الثورة على كل قبيح ، وإنسانيته هي ما تبعث فينا جوانب اندثرت فتحييها من جديد.

تحياتي واحتراماتي وامتناني لجميل قراءتك


5 - عم سلامة
جمشيد ابراهيم ( 2013 / 3 / 8 - 10:12 )
بداية اقدم شكري الجزيل لعزيزتي ليندا و اريد ان اقول كم انا سعيد بمعرفة انسانة بهذه القيم العالية
ثانيا عزيزتي سها عفوا لازعاجك مرة اخرى و لكن نصك هذا يستحق اهتمام اكثر فهو نص اكثر من جميل كنت اتمنى ان تبقى بعض الصور للعم سلامة و لدكانه لربما بعض الصور له و لمكان عمله بالاسود و الابيض تحفظ هذا التراث الكبير طبعا اذا لم يعارض عم سلامة و اذا سنحت لك الفرصة.
ثالثا ملاحظتك عن اللمعة غير المحببة بدون الفودرة ذكية لا ادري فيما هناك اليوم جهاز حديث احسن من مكواة عم سلامة ام ان الصناعة انتبهت الى هذه المشكلة . تصوري اللمعة هنا غير محببة اما الجلباب الذي يعقد كبؤجة من العنق (بقجة استعارة من الفارسية تسمى بالكردية بغجه) لربما يعكس باطنيا و نفسيا العلاقة بين المرأة الرجل.
اجمل التحيات و دمتما


6 - صور عم سلامة
سها السباعي ( 2013 / 3 / 9 - 19:49 )
الأستاذ جمشيد إبراهيم المحترم
، أعطيتني فكرة رائعة سأحاول أن أنفذها بالطبع، ولا أعتقد أن عم سلامة الطيب سيرفض لي طلبًا. وربما أرسلها لكم إن رغبتم في ذلك.
هذه اللمعة غير المحببة أخبرها جيدا لقيامي بالكي بنفسي، فلست زبونة عند عم سلامة مع طول عشرتي ودوام مروري على دكانه. أما موضوع الجلباب فقد لفت نظري له أستاذ لغويات جليل ووجهني للقراءة في موضوع التفسير النفسي للأدب، وكانت نصيحة جيدة جدا.

شكرًا جزيلا لك وخالص تحياتي واحتراماتي.

اخر الافلام

.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث


.. لعبة مليانة ضحك وبهجة وغنا مع ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محم




.. الفنانة فاطمة محمد علي ممثلة موهوبة بدرجة امتياز.. تعالوا نع