الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السوبر إنسانوية

حسن عجمي

2013 / 3 / 10
حقوق الانسان


في عصر صراع المفاهيم تولد السوبر إنسانوية كبديل عن الإنسانوية التقليدية. نرصد في هذا المقال الاختلاف و الخلاف بين الإنسانوية و السوبر إنسانوية لنشهد انتصار السوبر إنسانوية كمذهب إنساني أرقى.

الإنسانوية مذهب فكري و سلوكي مفاده أن الإنسان معيار كل شيء ؛ فمثلا ً الإنسان مقياس الحقيقة و القيمة. لذا تعتبر الإنسانوية في إحدى تجلياتها أن أي شيء يشكّل حقيقة أو قيمة فقط في حال أنه مفيد للإنسان. فالإنسان محور كل الوجود و الكون من منظور الإنسانوية. و بذلك تقبل الإنسانوية أي مذهب فكري أو عقائدي يرتكز على محورية الإنسان في الوجود. من هذا المنطلق, تدافع الإنسانوية عن حرية الإنسان و حقوقه التي بفضلها تتحقق إنسانية الإنسان , و تصر على أن العقل البشري وحده و من جراء تفكيره المنطقي و العلمي هو المصدر الحق للمعرفة و الركيزة الأساسية لبناء المجتمع الإنساني و الحضارة البشرية. و الإنسانوية رغم قبولها للعلمانية أي لفصل الدين عن الدولة و الشؤون العامة فهي لا تلغي الدين بالضرورة بل تقبله في العديد من تجسداتها على ضوء قراءته إنسانوياً أي على ضوء اعتبار أن الدين الحق خادم الإنسان و يسعى إلى الإرتقاء بإنسانية الإنسان. و الإنسانوية تهدف إلى أنسنة الآخرين لتتحقق إنسانية كل فرد إلى أقصى درجة ممكنة , و لذا تعتبر أن ماهية الإنسان ليست قائمة في عرقه أو لونه أو دينه أو مذهبه بل قائمة في أنه كائن عاقل قادر على الحصول على المعارف و العيش على ضوء القيم التي أنتجها. من هنا , ترفض الإنسانوية التمييز بين البشر على أساس اختلاف الأعراق و الألوان و الأديان فتحقق بذلك وحدة الإنسانية التي توحِّد بين البشر جميعاً.

لكن السوبر إنسانوية تختلف عن الإنسانوية التقليدية. فبينما الإنسانوية التقليدية تصر على أن الإنسان معيار كل الأشياء , تؤكد السوبر إنسانوية على أن كل شيء معيار كل شيء آخر. و بذلك لا تلغي السوبر إنسانوية محورية الإنسان كما لا تلغي أن الإنسان معيار الحقائق و المعارف و القِيَم ؛ فالإنسان كائن من كائنات الوجود و بذلك هو معيار أيضاً كسائر الكائنات الأخرى , و هذا ما يتضمنه مبدأ أن كل شيء معيار كل شيء آخر. لكنها تضيف إلى مركزية الإنسان و معياريته مركزية كل شيء آخر في الوجود و معياريته ؛ فكل موجود في الماضي و الحاضر و المستقبل يشكّل معياراً للحقائق و المعارف و القِيَم و هو مركز و محور كل الأشياء و الظواهر. فكما أن كل الأشياء من الممكن أنسنتها كي تخدم إنسانية الإنسان , كذلك الإنسان من الممكن أنسنته أكثر ليخدم كل كائن آخر في الوجود. لم يعد الإنسان هو المحور الأساسي الوحيد في الوجود بالنسبة إلى السوبر إنسانوية , بل كل شيء في الوجود محور بحد ذاته لكل الأشياء الأخرى و قيمة و معيار بحد ذاته و لا يختلف عن الإنسان و قيمته و مركزية معياريته. من هنا , تحرر السوبر إنسانوية الإنسان من معتقده الكاذب القائل بأنه وحده معيار كل الأشياء. في نموذج السوبر إنسانوية , كل شيء خادم كل شيء آخر و بذلك تغدو كل الأشياء أسياداً. على هذا الأساس , تهدف السوبر إنسانوية إلى أنسنة كل الأشياء و الظواهر على نقيض من الإنسانوية التي تهدف فقط إلى أنسنة الإنسان. هكذا يتضح الاختلاف الأساسي بين السوبر إنسانوية و الإنسانوية التقليدية.

تسعى السوبر إنسانوية إلى أنسنة الكون بظواهره و حقائقه و كائناته كافة , و بذلك تحوّل الإنسان من كائن منعزل عن محيطه إلى كائن متحد مع محيطه ؛ فكل الأشياء تصبح إنساناً واحداً بفضل عمليات أنسنة العالم بكافة ظواهره. فمثلا ً , بالنسبة إلى السوبر إنسانوية , الحرية و الحقوق الحقة لا تتحقق إذا امتلكها الإنسان وحده بل تتحقق فعلياً متى امتلكتها الكائنات كافة. فحرية الإنسان و حقوقه ليست كامنة في حرية الآخرين و حقوقهم فقط بل هي كامنة أيضاً في حرية كل الكائنات و حقوقها في أن تبقى و تزدهر. فمثلا ً , حق الإنسان في الحياة و البقاء لا يختلف عن حق الأرض و غاباتها و مناخها في الحياة و البقاء. من هنا , تؤنسن السوبر إنسانوية الكون بكل ظواهره و كائناته فتحقق إنسانية أكبر للإنسان لأن بفضلها يصبح الكون بأسره إنساناً مالكاً للحقوق الإنسانية. بالنسبة إلى السوبر إنسانوية , إنسانية الإنسان كامنة في أنسنة الكون و الوجود. فلو أن الكون خال ٍ من إنسانيته أي من حقوقه في الحياة و البقاء و الازدهار سوف يفقد الإنسان حينئذ ٍ إنسانيته أي حقوقه في الحياة و الاستمرار و التطور. فمثلا ً , إنسان بلا أرض حية و غنية و مزدهرة إنسان بلا قدرة و بذلك بلا حرية. فقيمة الإنسان قائمة في قيمة محيطه البشري و الطبيعي معاً تماماً كما أن كينونته كامنة في كينونة الكون البشري و الكون الطبيعي في آن. بالنسبة إلى السوبر إنسانوية , الموجود معيار الوجود بينما بالنسبة إلى الإنسانوية التقليدية فقط الإنسان معيار الوجود ما يؤدي إلى عزل الإنسان عن محيطه الطبيعي.

بالإضافة إلى ذلك , بينما الإنسانوية التقليدية تصر على مصداقية فكرة وحدة الإنسانية بحيث لا يوجد تمييز حق بين البشر على أساس اللون أو العرق أو الدين , تؤكد السوبر إنسانوية على أن فكرة وحدة الإنسانية التي تقول إن كل البشر يشكّلون إنساناً واحداً لا تكفي لتحقيق إنسانية الإنسان بل لا بد من أن تصاحب هذه الفكرة أفكار وحدة الوجود و الكون و وحدة الأديان و وحدة الحضارات و وحدة اللغات و وحدة العلوم و المعارف إلخ. فمثلا ً , حين نعتقد بوحدة الوجود أي بأن كل الأشياء و الظواهر شيء واحد لا يختلف و لا يتجزأ لن نتعصب حينئذ ٍ ضد الموجودات و الكائنات الأخرى في الوجود و بذلك تزداد إنسانيتنا. و عندما نؤمن بأن كل الأديان دين واحد حينها لن نرفض أي إنسان على أساس اختلاف ديانته. و حين نعتقد بأن كل الحضارات و اللغات و المعارف حضارة واحدة و لغة و معارف واحدة لن نرفض أي إنسان من جراء مظاهر اختلافه عنا في حضارته أو لغته أو معارفه. هكذا السوبر إنسانوية تؤنسن كل الظواهر الطبيعية و الاجتماعية فتحقق القدر الأكبر من إنسانية أي إنسان. فلا تميّز السوبر إنسانوية بين الحضارات و الأديان و اللغات و المعارف المتنوعة و بفضل ذلك لا تميّز بين البشر و ترتقي بإنسانية كل إنسان. من هنا , السوبر إنسانوية عملية أنسنة كل الظواهر و الكائنات في الكون بهدف تحقيق القدر الأعلى من إنسانية الإنسان. السوبر إنسانوية مشروع و ليست معتقداً فقط . لذا تسعى السوبر إنسانوية إلى تحقيق وحدة الحضارات و الأديان و اللغات و المعارف من خلال دراستها و الكشف عن المبادىء العالمية و المشتركة بينها جميعاً. و هذا ما قامت به العديد من المدارس الفكرية كالصوفية التي تقول بوحدة الوجود و وحدة الأديان , و هذا ما يقوم به العديد من العلماء و الفلاسفة اليوم كعالِم اللغة تشومسكي الذي أسس العلوم اللغوية المعاصرة التي تهدف إلى الكشف عن القواعد اللغوية المشتركة بين اللغات كافة و عالِمة الأديان كارين أرمسترونغ التي حددت المبادىء العالمية و المشتركة بين الأديان كمبدأ معاملة الآخر كأنه الأنا. السوبر إنسانوية إتجاه فلسفي و فكري عام تشعب عبر التاريخ و ما زال فاعلا ً و فعّالا ً اليوم , لكنه كان دوماً متفرق الأجزاء و المشاريع. أما اليوم فمن الممكن رصده بعناية و دقة و جمع أفكاره و مبادئه في نموذج فلسفي موحَّد.

من جهة أخرى , تقدِّم العلوم المعاصرة أسساً صلبة للسوبر إنسانوية. فمثلا ً , بالنسبة إلى نموذج علمي معاصر , الكون يتكوّن من معلومات و تدفقها تماماً كما أن الجسد الإنساني و العقل يتكوّنان من المعلومات و تبادلها. من هنا , الكون و الإنسان كائن إنساني واحد. و بذلك كل من قيمة الإنسان و معياريته كامنة في قيمة الكون و معياريته و العكس صحيح. على هذا الأساس , السوبر إنسانوية تتحقق أي تتحقق أنسنة الكون ؛ فالكون أصبح إنساناً غير متجزأ الأجزاء من خلال تكوّنه من المعلومات و العلاقات فيما بينها. من المنطلق ذاته , أكد الفيزيائي جون ويلر على أن الوعي عامل أساسي في تشكيل الكون و تحديده. فبالنسبة إلى ميكانيكا الكم , من غير المحدَّد ما إذا كان الجسيم كالإلكترون جسيماً أم موجة تماماً كما أنه من غير المحدَّد ما إذا كانت قطة شرودنغر حية أم ميتة. لكن هذا يعارض ما نراه ؛ فنحن نرى أي قطة إما على أنها حية و إما على أنها ميتة. أما تفسير ويلر لهذه الظاهرة فهو التالي : فقط حين يدرك العقل قطة شرودنغر تصبح تلك القطة إما حية و إما ميتة ؛ فمن دون إدراك تلك القطة تبقى غير محدَّدة ما إذا كانت حية أم ميتة. هكذا الوعي يشكّل الكون و يحدده و من دون إدراك الوعي للكون يبقى الكون غير محدَّد. من هنا , الكون و الوعي الإنساني يشكّلان كائناً واحداً ما يدعم موقف السوبر إنسانوية. كما أن العلم المعاصر يوضح أن كل البشر يشتركون في امتلاك الجينات ( أي المعلومات المتوارثة ) نفسها و أن البشر و الحيوانات و الأشجار تملك العديد من الجينات المشتركة. هكذا الكون كله مجرد كائن معلوماتي واحد ما يشير إلى صدق السوبر إنسانوية التي تعتبر أن إنسانية الإنسان كامنة في إنسانية كل الأشياء و الظواهر و الموجودات.

بالنسبة إلى السوبر إنسانوية , يولد الإنسان في المستقبل. فماهية الإنسان مُحدَّدة في المستقبل فقط و بذلك تبقى ماهيته غير محدَّدة في الحاضر و الماضي و يبقى البحث مستمراً عن ماهية الإنسان و صفاته و حقوقه غير المكتشفة بعد. هكذا السوبر إنسانوية تضمن عدم سجن الإنسان في ماهية محدَّدة سلفاً فتضمن بذلك حريته كما تضمن استمرارية البحث عن ماهية الإنسان فتطويره على أساس ما قد يتم اكتشافه في المستقبل من صفات و أدوار و حقوق إنسانية لم نعرفها سابقاً. من هنا تكتسب السوبر إنسانوية فضائلها فمقبوليتها. و للسوبر إنسانوية فضيلة أساسية أخرى ألا و هي التالية : بما أن بالنسبة إلى السوبر إنسانوية , الإنسان غير محدَّد الماهية إذن نضمن بذلك القضاء على التعصب ضد إنسانية أي إنسان. هذا لأنه فقط حين نحدِّد ماهية الإنسان على أنه مثلا ً المؤمن بالعلم فقط أو المؤمن بالدين فقط إلخ نرفض حينها الناس الذين لا يملكون تلك الماهية فنتعصب لإنسانية معينة ضد إنسانيات أخرى مختلفة. لكن السوبر إنسانوية تعتبر أن ماهية الإنسان غير محدَّدة , و بذلك تقضي على أي تعصب ممكن لماهية إنسانية معينة ضد ماهيات إنسانية أخرى. هكذا السوبر إنسانوية تجنبنا التعصب الفكري و العقائدي و السلوكي و بذلك تكتسب مقبولية كبرى. الإنسان هو الذي لا يملك ماهية مُحدَّدة , و لذا ماهيته قائمة في ماهيات الظواهر و الحقائق و الكائنات كافة. من هنا , لا إنسانية للإنسان من دون أنسنة و إنسانية الظواهر و الكائنات و الموجودات الأخرى. و بفضل لا محددية ماهية الإنسان يتحد الإنسان مع الموجودات كافة فيؤنسنها ليكتسب إنسانيته الحقة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أزمة المياه تهدد حياة اللاجئين السوريين في لبنان


.. حملة لمساعدة اللاجئين السودانيين في بنغازي




.. جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في ليبيا: هل -تخاذلت- الجن


.. كل يوم - أحمد الطاهري : موقف جوتيريش منذ بداية الأزمة يصنف ك




.. فشل حماية الأطفال على الإنترنت.. ميتا تخضع لتحقيقات أوروبية