الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وهيبة... تسالي المصاطب

محمود عبد الغفار غيضان

2013 / 3 / 12
الادب والفن


وهيبة... تسالي المصاطب

تغزل من صبر السنين فتيلاً للمبة الجاز الصغيرة التي تتحرك بصحبتها كلما همت بفتح باب دارها العجوز... تنتظرُ مرور فراشي المدرسة الابتدائية بنتائج الناجحين لتحصل على بعض كتبهم ودفاترهم دون مقابل كي تصنع منها قراطيس لب عباد شمسها الذي تؤنس ليل المصاطب... تنثر اللب على الحصير بساحة الدار لأنها لا تقوى على طلوع السطح... ليس لكبر سنها وإنما لأن ساتر البوص المعلق بين السماء وحوائط الدار ما كان له أن يحمل أكثر من بعض حمام الجيران أو عصافير بهجة الصباح... بعد تمام جفاف اللب... تضعُ أعواد الحطب بجوف الفرن... تمسح بخرقة بالية مبللة بلاطته السوداء المستديرة... ترش الملح بمقدار معلوم وتتأكد من ملامسته لغلاف كل حبة منه حتى تكتسب مذاق أصابعها الطيبة... تفرشه بدقة على البلاطة بعد أن تخمد النار... ثم تتلو كل تعويذات الصحة والعافية على أبدان آكليه في أنشودة خاصة تنتهي كل مرة مع آخر ما تنضجه البلاطة... تتأني في وضعه على حصير الصالة بحيث تكون لكل حبة مساحة مناسبة بين أخواتها كي لا يتسبب صهد الحرارة الخارج منها في إفسادها...

تبادلها حبات اللب الحديث عن كل شيء... عن الذي يملأ جيبه بها قبيل جلوسه فجرًا بانتظار دورة الري... عن ذلك السائر وحده مع أشعة الغروب إلى القرية المجاورة ليزور بيت خطيبته مخاطبًا كل حبة... مستودعًا إياها أغلى أسراره دون حاجة إلى أية لغة على الإطلاق... فحركة أصابعه مع حبات اللب بين سيالة الجلباب وفمه كانت تتكفل بمهارة شديدة بهذا الأمر... عن الجالسين فوق المصاطب يتسامرون... يشاغبون أكواب الشاي التي لا تفرغ أبدًا... يسخرون من أنفسهم حد الموت من الضحك ليحصلوا على تأشيرةٍ لسخريةٍ من الآخرين ستسافر قبيل النوم إلى كل بيوت القرية قبل أن تختزنها ذاكرة "كباش" من كتل طين عفيٍّ كانت تحرس البيوت على مشارف النواصي... تضحك وهيبة... تضحك حبات اللب حتى تكاد تقفز دون صهد البلاطة متخيلة ذلك الطفل الصغير الذي يحاول عبثًا نزع القشرة عن الثمرة الناضجة فيقرر أن يبتلع الحبة كلها... لم يكن قد عرف بعد نكهة أصابع وهيبة الخاصة... لكنه بلا شك كان قد أدرك أن ذلك الليل المراوغ الذي يسوِّد كل بياض النهار في طرفة عين يخرج من بين قراطيسها الساحرة حتى يستولى بهدوء على كل الأرجاء... تستريح وهيبة عندما ينام الليل وتستريح معها كل المصاطب... وعندما يبلغ الليل منتهى النوم العميق... يستأذنه البياض ليكمل دورته الأزلية دون صراع يذكر... فيبدأ كل شيء بالحركة من جديد... العائد من دورة الري... المستيقظ بعد لقاء الخطيبة متكاسلا عن غسل يديه بالماء بعد أن لمستها يد الحبيبة وهي تقدم له كوب الشاي في حضرة أمها... المتسامرون على المصاطب متجهين إلى الغيطان يلقون التحية على الجميع غير عابئين بامتزاجها بصدى التثاؤب الذي يفرض على أشعة الشمس كسلاً مدهشًا فتظل باردة لساعات عدة قبل أن تشتد حرارتها... الطفل الصغير بانتظار "قرصة" أمه المحشوة بالعجوة قبيل الإفطار... وحدها قراطيس اللب الباقية تسكن على حصيرة الصالة المجاورة لجسد وهيبة الصغير المتكوم كجذور بعمر مئات السنين تلمس كل قشرة لب ملتصقة الآن بأرض القرية... تستيقظ وهيبة وتمارس طقوسها الاعتيادية بانتظار المساء... تجلس قرابة الباب... تفتحه كلما دقه طارق... تعطيه ما يريد من القراطيس... تضع النقود المعدنية في كوب الصفيح وقد علمها صوت قرعها قاع الكوب فن تحديد هويتها... ثم تعاود الاتكاء بركنٍ دافئ ملاصق لعتبة الدار بانتظار القادم التالي... وهكذا تستمر حركة كل شيء بإيقاع مسائي متميز حتى ينام الليل من جديد.

محمود عبد الغفار غيضان
مجموعة "زمن المصاطب"
12 مارس 2013م








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل