الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يوميات: ( مدحت )

ممدوح رزق

2013 / 3 / 13
الادب والفن


لم أعرف أحدا قال لشخص ما ذات مرة ( انت ابن موت ) .. ربما حدث هذا مع غيري، لكنني لم أسمعها أو أقرأها إلا محترقة بدموع واحد يحكي للآخرين عن إنسان أصبح ميتا .. واحد لزم عليه تعديل الصيغة لتتفق مع الغياب فيتحول المحكي عنه إلى ( كان ابن موت ) .. أيضا لم أعرف أحدا وضع نقطة ختامية وصمت بعدها .. كأنه لا ينفع أن تترك الناس يتوصلون بطرقهم الخاصة إلى الإجابة على السؤال الضمني والبديهي في تلك الكلمات المراد التعامل معها كحقيقة: لماذا كان ابن موت ؟ .. كل من قالها بدا مدركا لمسؤلية أن يعطي تبريرات ملائمة وقوية منتزعة من ملامح الميت وطباعه وتفاصيل حياته كي ينقل تصوره الشخصي لما يسمى بالموت المبكر والمفاجيء من عماء الممكن إلى وضوح الواقع .. تسمع صوته المرتعش وهو يقول: ( يوجد منطق يحرّك تلك المأساة الغريبة ويسعدني أن أشرحه لكم أملا في ترويض كل هذا الرعب ) .. لا شك أنني أحترم مشاعركم جدا، ولا شك أيضا أن تأثيرها الضار على أعصابي قد يدفعني لأن أنادي طفلتي ـ التي لم تتكلم بعد بشكل صحيح ـ كي تخبركم بأن هناك بشر يشبهون ببساطة من تتحدثون عنهم، بل وتتجلى فيهم مبرراتكم بدرجة أكثر عنفا ومع ذلك يعيشون طويلا ولا يموتون فجأة.
منذ فترة قصيرة وبعد أن أنهينا زيارة مسائية لشقيقتي أخذني أخي الأكبر بسيارته إلى بيتي .. كان الراديو على إذاعة الأغاني، وكانت الموسيقى الافتتاحية لـ ( أي دمعة حزن لا ) تساهم مع السكون الليلي في خلق متعة إعادة حياة السبعينيات لشوارع وبيوت ( المنصورة ) التي نمر بينها .. كنا صامتين تماما، وحينما حلّق ( عبد الحليم حافظ ) عاليا بأجنحة ( بليغ حمدي ) الحريرية عند ( وقلت ياريت يا دنيا تديني عمر تاني ) غناها أخي معه .. غناها همهمة خافتة منكسرة جعلتني ابتسم بمرارة في داخلي بينما لم يقل بعدها سوى ( سلام ) وهو يتركني عند بوابة المنزل .. كنت أفكر متعجبا وأنا أصعد السلالم: كيف يخلو كومبيوتري حتى الآن من هذه الأغنية ! .. مثل أشياء كثيرة يظل في بالي رغبة تنفيذها أحيانا مدة طويلة دون أفعل؛ ظل تحميل الأغنية خلال أسابيع مجرد نية حتى جلست ذات مساء وبدأت في تنزيلها .. في اللحظة التي وصل فيها التحميل إلى 100% رن جرس التليفون لأعرف بعد الرد أن أخي قد مات .. آخر ما أفكر فيه الآن هو الإيحاء بإرادة غيبية حاكمة حرصت على ترتيب الأمر ليخرج بهذه الصورة الخرافية .. بالعكس لا أجد في ذلك النظام أكثر من مجموعة من الصدف لو استبدلت بأخرى كانت ستعطي نفس الشعور بالصدمة والقهر .. بالأحرى كنت سأعثر بداخلها على ذلك الشعور مهما كانت.
لا يوجد أبناء موت وأبناء حياة .. هو أخي فقط وليس ابنا لأحد سوى لقدره الخاص .. لن أذكر أي سبب يفسر لماذا أخي الأكبر إنسان يصعب جدا أن تتخيله ميتا، وأن هذا ما كان سيجعلك في نفس الوقت ـ لو كنت عرفته ـ واثقا من سهولة موته .. كل الغرباء الذين جلست معهم واستمعت لهم كانت حكاياتهم عنه تؤكد ذلك .. أخي شخص لا يسمح لك حتى مع مرور الزمن بالاعتراف بموته، ولذلك كان يجب أن يموت بعد دقائق قليلة من إحساسه بقدر من التعب !! .. موت أخي قادر على إفساد حياة شخص لم يقابله في عمره سوى مرة واحدة ولدقائق معدودة .. الموت الذي يحوّل أي متعة بعده إلى ذنب: كيف ألعب مع ابنتي ( السرير الطائر ) وأخي في القبر؟!!! .. لكن هذا غير صحيح طبعا .. الساعة الآن الواحدة ظهرا، وهذا يعني أنه لا يزال في عمله بمستشفى الأطفال، وأنه سيعود إلى بيته بعد ساعة تقريبا لينام بعض الوقت قبل أن يذهب إلى معمله الخاص ويشاهد البرامج السياسية أثناء الراحة، ويسب ويلعن في الإخوان والسلفيين منتظرا زائرا حميميا ليقلد له ابتسامة ( حسن البرنس ) الصفراء كي يضحك معه .. أنا فقط لن أراه ثانية.
في اليوميات التي نشرتها قبل وفاته بأيام قليلة في 12 / 2 / 2013 تحت عنوان ( الشكل العادي للجنون ) كتبت في نهايتها:
( سيتفرغ فقط للاستمرار في تصويب كراهيته لكل ما له وجود في العالم وبقدرة غريبة على الانتهاك والأذى والتخلي .. سيخرج لتعويض الانفجار الذي حُرم منه، ولن يستثني حتى أقرب البشر إليه .. أتمنى ـ بصدق ـ ألا تعيشون حتى ذلك اليوم ).
أعدت كثيرا قراءة هذه السطور قبل وبعد نشرها .. الوحيد الذي فكرت فيه أثناء ذلك كان أخي باعتباره أكثر شخص لا يمكنني تصديق أن تأتيني قدرة على إيذاءه بأي شكل .. ربما يمكن للواحد أن يكتب كلمات كهذه بسهولة حينما يكون مطمئنا لوجود بشر يخصونه على قيد الحياة .. حينما يتعامل مع موتهم كمجرد احتمال أكثر من كونه غدرا متوقعا في أي لحظة .. لماذا شعرت بندم عابر بسبب هذه السطور بعد وفاة أخي الذي أعرف تماما أنه لم يقرأ حرفا كتبته في حياتي ؟! .. إنها الثواني القليلة التي يكاد يكون حتميا ـ تحت تأثير الكارثة ـ الخضوع فيها لهاجس أن العالم قاريء أحمق؛ قرر تفسير أمنيتك حرفيا والاستجابة لها ليعاقبك .. لكن مرة أخرى هي مجرد صدف؛ أن أكتب هذه السطور ثم يموت أخي الأكبر بعدها بأيام قليلة .. الصدفة موضوع خارج الكتابة والألم والحياة والموت والزمن .. قرار الغفلة الأزلي المستمتع بخلوده داخل الجيوب السرية لليقين بكوننا نعيش أدوارا حقيقية.

( وقلت ياريت يا دنيا تديني عمر تاني ).

* * *
6 / 3 / 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى