الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اعترافات مرتزق مرح

أحمد فرحات

2013 / 3 / 13
الادب والفن


هذا ما أدلى به أحد هؤلاء الذين كنت أقابلهم أثناء الحرب ، مرتزق مرح جيد كان يبادلني لفافات السجائر بما تبقى من الحس السلمي لديه ، عند ناصية مصطفى النحاس كان في نوبة حراسته بكشك جرائد مقلوب يتخذه موقعا للتمترس بجوار مطعم قديم للأسماك :

" اللحظة التي يتغير فيها كل شيء بدأت عندما اقتحموا منزلنا ، كنا نعرف أن الوضع في البلاد أصبح خطيرا ، لم يكن معنا وقتها ما يكفي لنهاجر أو نترك البلاد ، وأن هذا كان سيحدث يوما ما ورغما عن أنف الجميع ، نساء وأطفال ورجال وشيوخ يجرون على السلالم ، ويهربون من البيوت ، صراخ يدوي بين الجدران ويرن ككابوس ، بلا وداع أقفز من نافذة بيتنا وأكسر ضلعا محققا أول إصابة بدون ألم لحظي أو أي اندهاش ، لا أكذبك ، لقد تركت خلفي زوجة وطفلين وأخا صغيرا وأما عجوزا ، وأطبق علي ظلام يشقه طريق من نار أخذ يدور بي نحو قاع سحيق الانحدار ، انقسمت إلى اثنين ، جبان وبطل ، الجبان كان يمد البطل بأسباب الاستمرار عبر الهروب الطويل والفزع الدائم ، والبطل كان وقتها يبحث عن مكان وجدارة يستحقها ليخفف من حدة الألم ، لم تتح لي الفرصة لأتفقد بيتنا مرة أخرى ، أو أبحث عمن خلفتهم ورائي فقد أخذتني الحرب في دروب بعيدة وطويلة ، تزداد عمقا وبعدا كل يوم عن الآخر ، ويبدو لي من هذه الزاوية التي نتكأ فيها معا الآن أنني استمرأت اللعبة ، قبلها كانت الحياة متوقفة والأعباء مع العجز عن الأداء تقتل إحساس الرجل برجوليته ، ولعلمك كنت أمتلك مكتبة ضخمة ونشرت كتابين لم يلتفت لهم أحد واضطررت إلى العمل مدرسا خصوصيا لأبناء الجيران لأعيش أولا ولأستمر كالأبله في شراء المزيد من الكتب وسرا كنت أعتبر نفسي حداثيا من طراز فريد ، وجاءت الأحداث لتحررني أخيرا من كل أوهامي ، فقد اعتبرتها انتقاما من الجميع ، من المجتمع والماضي بتراثه وتقاليده ومن نفسي ومن الطريق الذي سلكته منذ تخرجت من الجامعة ، من التفكيكية ومن المثقفين ومن التكنولوجيا ومن كل شيء ، حقا لم يكن هناك أي أمل في تغيير الواقع بدون حرب تأتي علينا كموجة عارمة كطوفان مصوب بدقة على هذه المنطقة اللعينة المرتكسة من العالم تجب هذا الخراء الذي كنا فيه ، وبمزيد من الانتقام الشخصي لأسرتي المفقودة أصبحت أمام نفسي – لفترة – بطلا في هذا الزي العسكري الذي طالما احتقرته كمدني أنيق ، ومع إزهاق الأرواح المستمر لأناس لا تعرفهم ولا تربطك بهم أي صلة ، وربما كانوا سيصبحون يوما ما أصدقاءا لك في ظرف آخر رأيت شبحا من نور يخرج من خرابة يتهادى في الظلام الكثيف ويتجول هنا وهناك متفقدا الفوضى والهدم والقتلى ومخازن السلاح المخبأة واحدة تلو الأخرى كأنه قائد هذه الكتيبة ، تسللت خلفه لعلي أرى ملامحه لكن لا شيء بدا منه تحت وهج النور العنيف ثم تلاشى ، وللحظة قلت في نفسي : ربما هو الله أو الخضر أو المهدي المنتظر لكنه لم يعاود الظهور وألهمني وجوده المفاجيء بحقيقة مذهلة توقفت بعدها عن الإيمان مطلقا بالبطولة أو بدور البطل المنتقم الذي كنت أحث نفسي على الاستمرار عبر تجسيده ، وهي أن كل شيء هو معطى من المعطيات ، هناك آخر ، نعم ، كل شيء ، أفقت كمن تلقى ضربة بقعر الآلي على أم رأسه وفتح عينيه ليستقبل حياة جديدة تماما ، هذا الكلام الذي نكونه من حروف ، هو من معطيات الآخر ، هذه الأفكار من معطيات الآخر ، هذه التكنولوجيا التي تقود الحرب من بعيد ، هذه الحضارة البشرية الأخيرة ، هذه المفاهيم التي كوناها عن بعضنا البعض ، نحن أنا وأنت ، كاثنين من مواليد الثمانينات ليس لنا ضلوع بأي شيء من هذا ، إننا مجرد ورثة أشقياء ، وهم أيضا كذلك ، هذا الآخر الذي ينتج كل يوم المزيد والمزيد لا يتآمر علينا هو فقط يفعل ما عليه فعله والبقية تأتي تباعا كنتيجة طبيعية للاختيار ، هذا النوراني الذي ظهر كان وليد خيالي ، كان الحقيقة الوحيدة التي استنسختها من الخراب في لحظة صفو وانسجام تحت تأثير المورفين ، وبعد سنتين من الانغماس في الحرب كبطل منتقم أصبحت لدي موهبة في القنص ونصب الكمائن وفي تأمين خطوط الإمداد ، لا يهمني في أي جانب سأقاتل مادامت الحرب مستمرة ومستعرة ، لست بطلا كما ظننت أنا مجرد دمية وأنت كذلك ، ولسنا دمى لأي كائن افتراضي خارج السماوات والأرض ، بل دمى لبعضنا البعض ، وما دمت أدركت هذا فقد قررت التحول إلى مرتزق لا يمارس القتل مجانا من أجل الانتقام بل لثمن محدد في صالح من يدفع المزيد ، ومن يدفع المزيد سيبقيها مشتعلة طازجة ، اليوم الذي تقرر فيه أن تبيع موهبتك ، اعلم أنك مرتزق مثلي تماما ، اليوم الذي تدرك فيه أنه لا يوجد فوق هذه الأرض العفنة ما يسمى بالمبدأ أمام قوة البقاء اعلم أنك تعلمت أول درس عن فن الارتزاق ، وهذا ليس شيئا بشعا كما كانوا يروجون في الأفلام والروايات ، هذه هي الحقيقة المجردة بلا جمال أو قبح ، وهكذا تقريبا يصبح ثلث سكان الأرض من المرتزقة أمثالي و البقية ضحايا وقلائل يملكون المال يسوقون هذا الجحيم عبر الفعل ورد الفعل ، وهكذا أيضا تدرك حقيقة أبشع أن أربع أو خمس سنوات من عمرك في الحرب بين القتل والذبح وتحت القصف والدماء هي مجرد مشهد في فيلم أكشن أمريكي رخيص حيث يتحول المنتقم إلى مرتزق يهوى حصد الأرواح من أجل حفنة نقود ، ولكن بعمق أبعد هذه المرة ، هو استمرار الحرب ، ولا شيء غير الحرب يا صديقي العزيز "

ثم سقطت بالقرب منا قذيفة أدت إلى تفريقنا ، ورأيت من الدخان نورا يتصاعد ويقبل نحوي ، وأصابتني لعنة المعطيات والآخر ، وأخذت أكتبها على الجدران تحت شعارات النضال ، وآيات المجاهدين ، المعطيات والآخر ، وفي طريقي إلى العاهرة ، وجدت معطيات جديدة استمرت في إبقائي حيا طيلة الحرب الأهلية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل