الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفن التشكيلي المعاصر وسؤال الذات والهوية

نجم الدين الدرعي

2013 / 3 / 14
الادب والفن


في خمسينيات القرن الماضي، طرح الفنان العربي سؤال الحداثة مشروطا بسؤال الهوية، وكأنه بذلك يغير علي ماضيه المزدهر، رغم جهله بتفاصيله، ويقي نفسه من تبعية ما فتئت ان تفشت في مجتمعه واستفحلت. فهذا السؤال الملتبس والمتعدد التأويل، جاء في صورة اخطبوط، واسفر عن ضعف في رؤية الفنان للأشياء والواقع، وكشف عن مكر السياسي والحزبي والاداري. لقد كبل الفنان نفسه بسؤال الهوية في سياقه التوافقي، ذلك ان التوافق لا يمكن ان يحصل في مجتمع يحتاج الي وصفة تحررية، تديره قوي تتخذ من الهوية في صورتها التراثية الضيقة خيوطا خفية لتحريك الجماهير والتحكم فيها. من هنا طلعت علينا حداثة عربية في صورتها الملتوية.
ان الحقول التي ثمرت فيها الحداثة لم تكن تربتها خالية من الحجارة، وهواؤها من السموم، لذا فقد تطلبت تقليبا مستمرا للارض، وقلعا متلاحقا للحجارة وتصفية دائما للاجواء، فلا راحة ولا طمأنينة ولا استقرار علي حال.
التراث نعم، لكن متي كان التراث مجالا للتقديس والخنوع والسيطرة والتكفير؟ لماذا لا يكون التراث قاعدة للانطلاق صوب فضاءات المعرفة والابداع الرحبة، رحابة الحرية والوجود؟
الشرقاوي والغرباوي وجواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد هيأوا لنا تركيبة جاهزة للدخول في مشروع متذبذب بين حداثة فضفاضة وجسد مريض، ورثناه بدون وصفة طبية ولا تحليل مخبري. جسد بدا كجثة معفنة، رائحتها تجلب الضباع والنسور من اعالي جبال المكر والضغينة والتفقير.
في هذه الاجواء خرجت اعمال ورثة هؤلاء الفنانين في حلة مزركشة، تتباهي بجمال متحفي ينشد الطمأنينة البلهاء وينتصر لاستقرار متكاسل، لا يفاجيء ولا يهدم ولا يصدم ولا يقلق.. بل العكس يحافظ علي ما هو اصلي ومتداول، ويحث علي التمسك بالصور القائمة والممارسات المتداولة ضمن رؤية اخري لمجتمع سينهض علي تبعية سطحية لتجربة انسانية جديدة لا تستقر علي حال، تجربة ستظل منفلتة علي ادراكنا وممارساتها حتي الان.. تجربة وان لم نكن ملزمين بخوض غمارها، فنحن مطالبون بمصاحبتها نقدا وابداعا وبمعني آخر، فنحن ملزمون بايتاء ما يضاهيها او يوازيها ويقوم مقامها.
في الغربة اتت الحداثة نتيجة موجز تاريخي مس كل مكونات الواقع الغريب، ضمن رؤية خاصة تتقدم في الماضي والمستقبل، فهي بهذا المعني، اي الحداثة، تكون حالة تفكير وعيش قائمة علي أسس ومباديء ثقافة الحداثة نفسها، فالحداثة هي نتيجة تحرك تاريخي ينتج مقوماته باستمرار، وذلك حتي في زمن نهاية التاريخ .
اما في مجتمع مختلف، كمجتمعنا، فلا يمكن ان نبني الحداثة علي اسس انقاذ التراث، او علي حفريات الماضي، او جوار اضرحة الاولياء والصالحين، نحيي ذكراهم ونحتفل بمكارمهم، ونتغني بأمجادهم، تبركا بهم عسي ان يكون تطورنا قضاء وقدرا في زمن مرتقب.
نقول بفخر والامر كذلك، اننا اصحاب حضارة واصحاب رؤية، لنا بصمتنا الواضحة علي مجريات تاريخ الانسانية، بصمة لا تحتاج الي اعترافات منافقة فالادلة موجودة وقائمة.. لكن الم نهزم ماضينا النير حين تخلينا، بوعي او بدون وعي، عن رؤيتنا الخاصة للحياة، لاجل رؤية اخري اخذت وما زالت تأخذ من جذورنا ما يناسب شموخها في فضاء الوجود والتحضر؟ الم يكن فنانونا خائنين، بوعي او بدون وعي، لهذه الرؤية ولهذا التراث الحضاري حين افرغوا الخط العربي والرمز الامازيغي والشكل الافريقي من كل مدلول فكري ومعني ثقافي اجتماعي، لأجل التباهي بحركية الجسد والتغني بموسيقي الخطوط واللطخات علي مساحة السند، انتصارا لتجريدية لا مكانة لها في اتجاه رؤيتنا الخاصة للكون والخليقة؟
أليس من باب المغالطة والنفاق الثقافي ان ننتصر لفكرة التحريم في التصوير الاسلامي، ونحن ورثة تصوير يتجاوز النقل والمحاكاة، تطلعا لتصوير انساني قائم علي الابتكار والخيال، خيار تخترق فيه الحدود وترتبط فيه العوالم، فلا فصل بين المجرد والمشخص، ولا بين المادي والروحي ولا بين العلوي والسفلي، الكل اجزاء متساوية، كل جزء يخدم الآخر ويقوم مقامه، بل لا يوجد الا به وله.
في الآونة الاخيرة، طلعت علينا اصوات تنادي بضرورة الالتحاق بركب العصرنة في الفن وما اتت به من جديد، يخص تجهيز الفضاء وتأثيث المكان وتصوير وفيديو ومقومات العرض والاستعراض وبيرفومنس.. وذلك انطلاقا من عناصر تراثنا، اصحاب هذا النداء يظنون انهم بدعوتهم هذه سيؤمنون انفسهم من انقراض واشك. وهم في حقيقة الامر يعيدون نفس التجربة ونفس الطرح لانتاج فن كاذب مزيف ومتخلف، لا يعكس هموم الناس ولا يحدد موقفا اتجاه مجريات الحياة.. ولا يكون ذوقا جماليا خاصا ولا يعيد النظر في المتداول والممارس.. وهو بالتالي لا يستطيع ان ينتج حركة ثقافية جديدة واصيلة قائمة علي خطاب متجدد وسؤال مشروع. وعليه، سيهدر الفنان العربي مرة اخري طاقته الابداعية لانجاز تكوينات تزينية ـ ديكورات ماسخة متبرجة، لا تقوي علي التميز حتي امام اثاث الصالون المعلقة علي جدرانه، فكيف لها ان تعكس احلامنا وآمالنا وآلامنا.
اليوم، وفي عصر رفعت فيه حدود الخبر والثقافة والعلوم والاقتصاد.. وتعززت (اي الحدود) امام الانسان وارتفعت لتتجاوز قامته وكيانه وحريته في السعي في ارض الله الواسعة، تحت طائلة مواجهة الهجرة السرية وتجارة الاسلحة وانتشار الارهاب.. ثمة، وجد انسان العالم الثالث نفسه مدعوا الي الانخراط في توجه العالم الجديد نحو قريته الصغيرة المتعددة الثقافات من جهة، ومن جهة اخري مأمورا بالالتزام بحدوده الاسمنتية المسلحة، هذا الوضع من البديهي ان يؤثر علي النتاج الفني، نتاج قد نقسمه الي قسمين، قسم يغلب علي الاخر، ورغم غالبيته فهو سجين ذاكرته وازمانه واحقاده وتبعيته. اما القسم الآخر، والذي يمثل القلة، فهو محاصر في الداخل اكثر من الخارج، محاصر بالجهل والضغينة واليأس وضعف حال المؤسسات الثقافية والفنية. اذن فهو يواجه صراعا داخليا وتعنتا خارجيا، لان تحقيق الوجود الفني بالنسبة للفنان العربي في حقل ما نسميه بالعالمية هو درب في عالم المستحيلات ورغم ذلك فقد استطاعت ثلة من الفنانين الانفلات من هذا الانغلاق لينتجوا اعمالا تساهم بخطابها الملتزم في تجريد الرؤية، وطرح قضايا الذات والحياة، من خلال اسئلة واضحة وصريحة، لا تختفي وراء تقنيات التجميل المسطحة، او تغيب لاجل تبعية لأساليب العرض والاستعراض المعاصرة.
اليوم، امام الفنان العربي خياران لا ثالث لهما، الانشغال بالصنعة وراء قافلة الغرب او الاشتغال علي قضايا عصره ليكون قافلته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عادل إمام: أحب التمثيل جدا وعمرى ما اشتغلت بدراستى فى الهندس


.. حلقة TheStage عن -مختار المخاتير- الممثل ايلي صنيفر الجمعة 8




.. الزعيم عادل إمام: لا يجب أن ينفصل الممثل عن مشاكل المجتمع و


.. الوحيد اللى مثل مع أم كلثوم وليلى مراد وأسمهان.. مفاجآت في ح




.. لقاء مع الناقد السينمائي الكويتي عبد الستار ناجي حول الدورة