الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ذاكرة اعتقال .. واعتقال الذاكرة

مصدق الحبيب

2013 / 3 / 15
الادب والفن



حين انبش الماضي
اجد الذكريات الجميلة التي مرت سراعا ولم تدم
كما اجد الذكريات الاليمة التي ترابط في الراس ولاتجلب الا الاسى والاسف
فلا مهرب اذاً الا النسيان
"من اغنية امريكية"

اغلبنا يتذكر السيدة اعتقال الطائي، نجمة التلفزيون العراقي التي سطعت في سبعينيات القرن الماضي من خلال اطلالتها المسائية الاسبوعية على البيوت العراقية حيث كانت تقدم برنامج "السينما والناس". هذا البرنامج الذي كان واحدا من اهم البرامج التلفزيونية الثقافية واكثرها نجاحا وشعبية والتصاقا بذاكرة وضمير المشاهدين . ولعل شخصية اعتقال واسلوبها الشيق المتزن في التقديم وقابليتها على المحاورة الذكية الهادئة ومشاركتها في الاعداد واختيار المواد والضيوف اضافة الى قابلية وموهبة الاستاذ علي زين العابدين، معد البرنامج، شكلت العوامل الحاسمة في صعود البرنامج الى المستوى الاعلى من ثقة واحترام وولع الجمهور.
حين استفحل البعث في منهجه الفاشي لتسييس كل مرافق الحياة وتكبيل الفكر والابداع والتضييق على الحريات، تعرضت اعتقال الى مضايقات سياسية كثيرة طوال العقد السبعيني لم تنته الا بمغادرتها الى العاصمة الهنگارية بودابست عام 1979 لاكمال دراستها العليا في السينما والانهماك بحياتها العائلية مع زوجها وابنتها والتفرغ لانجاز الاعمال الابداعية في الكتابة والترجمة والاعداد الاذاعي والتلفزيوني. من اواخر اعمالها كتاب "ذاكرة الاشياء" الذي صدر مؤخرا عن دار شمس للنشر والتوزيع في القاهرة . وهو كتاب من الحجم المتوسط ويقع في 295 صفحة.
قرأت هذا الكتاب بشغف ومتعة ولم اضعه حتى انتهيت من قرائته كاملا. ورغم انني لااريد ان ازعم هنا بانني اكتب نقدا ادبيا، لكوني غير متخصص في هذا المجال، الا انني احببت ان اسجل ملاحظاتي الشخصية كانطباعات عن كتاب لصديقة عرفتها جيدا، واحداث عشتها ، وواقع عاصرته.
- احتوى الكتاب على 22 ذاكرة لاحداث واقعية من حياة الكاتبة التي اسمتها "فصولا من سيرتها الذاتية" كما مثبت على الغلاف كعنوان ثانوي . ولاادري ان كانت الكاتبة تحرص على عدم اعتبارها قصصا قصيرة لاسباب فنية خاصة بفهم اعتقال لفن القصة القصيرة، ولكنني شخصيا رأيتها وتعاملت معها كمجموعة قصصية.
- غطت الاحداث اماكن مختلفة وازمنة متداخلة، فمن الحلة وبغداد والنجف ونقرة السلمان الى دمشق ولينينغراد وموسكو واوكرانيا وبودابست. ومن زمن الطفولة في البيت الحلاوي التقليدي والعائلة الكبيرة الى ايام الشباب والدراسة في اكاديمية الفنون الجميلة واشكاليات العمل في تلفزيون بغداد الى ايام الدراسة العليا والحياة العائلية في بودابست. من الجدير بالذكر هنا هو ان الكاتبة لم تتردد في ذكر الاسماء الحقيقية لشخوص الاحداث سواء كانوا من الاهل والاصدقاء والمعارف او من العاملين والمسؤولين، وقد رأيت في ذلك عنصرا من العناصر التي اضافت الى اصالة المواضيع وواقعيتها وارتباطها الوثيق . فلم تتردد اعتقال في سرد ماجرى لها كموظفة مع زملاء العمل ومديريها محمد سعيد الصحاف ولطيف نصيف جاسم ومقابلتها لصدام حسين في زمن تصاعد المضايقات التي كانت تتلقاها في مجال عملها الوظيفي .
- كُـتبت تلك الذكريات بلغة سلسة بسيطة بعيدة عن التكلف الادبي ، وقد تخللتها حوارات باللغة العامية العراقية رسّخت مناخ الاحداث المحلي واكدت اصالتها. ومن اهم ماميز هذه الذكريات عن غيرها هو اسلوبها الشيق الممتع المتميز بالعفوية والذي ليس فقط يضع القارئ في وسط الحدث انما يشركه عاطفيا وينتزع تجاوبه الايجابي. ولربما ادى وضع سردية السيرة الذاتية في قالب القصة القصيرة الى خلق مزيج ادبي موفق انقذ النص من ان يكون منعزلا عن القارئ كما تعودنا ان نراه في معظم كتب السيرة الذاتية التي تجعل من القارئ محض مراقب او شاهد خارجي لما يرويه الكاتب عن نفسه.
- بدا لي وكأن الكاتبة تقصدت الابتعاد عن تكنيكات كتابة القصة الحديثة ولغتها ومستلزمات حبكتها السائدة حاليا بين مجتمع القصاصين والمميزة لثقافة كتابة القصة العربية. ولربما ارادت الكاتبة ان تتجنب في ذلك حشر ماقد يصبح دخيلا فظا قد يعكر من سلاسة سردها للموضوع ويربك تعاملها مع شخوص الاحداث، وهو العامل الذي جسد تلقائية الاسلوب وزاد من رصانته.
- اتاحت الكاتبة مجالا عريضا لروح الدعابة والنكتة ان تكون حاضرة في كل ذاكرة وكل حدث ترويه حتى في تلك المواقف المؤلمة والحزينة ، حيث اجادت في الحفاظ على جدية المشاعر بحس فكاهي لطيف وخفيف لم يتطور الى تسفيه المواقف او افراغها من محتواها. وهذه في الحقيقة موهبة تستحق الذكر والمديح.
- كان من اهم مااثار انتباهي واعجابي هو قابلية الكاتبة على ربط ومتابعة الاحداث وحياكة امتداداتها بطريقة سينمائية برعت الكاتبة في تقديمها وكأنها انتقالات عبر تكنيك المونتاج السينمائي بنوعيه "الفلاش باك" و"الفلاش فورورد". ولربما اتذكر ماقالته اعتقال يوما بان ما حملها بالاصل على كتابة هذه الذاكرات هو لذة او مرارة التداعي من حدث قد يكون بسيطا وعابرا الى احداث اكبر واعمق في ذاكرة وضمير الكاتبة كأن يأخذها حدث عابر وتافه كدخول حشرة طائرة عبر الشباك المفتوح الى غرفتها في بودابست الى استذكار قصة لقاءها وصداقتها الاخوية النقية مع الفنان والاديب المقعد يحيى جواد في بغداد. وقد تكرر استخدام هذا التكنيك عدة مرات حتى كاد يصبح الصفة المميزة لهذه الذاكرات مما منحها خصوصية عالية لم ارها انا من قبل خلال متابعاتي المتواضعة. وهذا مايسجل للكاتبة في رأيي تميزا محمودا.
- لابد من الاشادة بجرأة وشجاعة الكاتبة في البوح بصراعها المرير مع مرض السرطان لعدة سنوات والذي لم يفلت هو الاخر من دعابتها فقد اسمته "ابو الجنّيب" الاسم الشعبي لحيوان السرطان النهري.. هذا المرض الذي دخل عنوة الى حياتها واصر على منازلتها فقبلت النزال حتى النصر الاخير. لقد خاضت الكاتبة في تفاصيل قصتها مع المرض واجراءات العلاج بروح عالية وقلب مفتوح وضمير طافح بالامل والتفاول واصرار واقعي على الصراع مع المرض وعدم الاستسلام لجبروته، الامر الذي كان بالتأكيد العامل الاول في تغلبها على المرض والتمتع بالحياة من جديد بعيدا عن مخالبه الوحشية.
- واخيرا، وليس آخرا فقد سيطر على ذاكرات اعتقال قطبان متنافران، قطب الذكريات الجميلة مع الاهل والاصدقاء والوطن الام وناسه الاطياب ونهرالفرات وشموع الخضر وبساتين الحلة وتاريخ بابل وتألق بغداد وجميعها في عداد الماضي الذي تأسف على انطواءه وغيابه بلا عودة. والقطب الثاني هو الزمن المر، زمن الرعب والارهاب، والتهديد والاستلاب والاغتراب، زمن الضياع وامتهان الانسانية واسترخاص الارواح . زمن الشقاوات وقطاع الطرق، الرعاع الاقزام الذين حولوا جوهرة العراق المتلألئة الى حصاة كالحة متصدعة تنخر فيها الديدان، وهو جزء الذكريات الجدير بالاعتقال والمحاكمة والتجريم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل