الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حراسة الأثر

حيدر الكعبي

2013 / 3 / 16
الادب والفن


حراسة الأثر*



خمسة عشر شراعاً لزورقٍ واحد أعِدَّ على عجل للإبحار في الرمل، هذه اللانهاية من الغُبرة "حيث الجهات تحاصر الجهات." خمسَ عشرةَ مِزقة، هي كل ما تبقّى من قمصاننا العراقية "المنفية" في خِضَمٍّ من الكثبان العملاقة الهائجة والرياح الشعثاء المتوعدة. حيث – بعد كل انهيارٍ أو انجرافٍ، تحطمٍ أو تشظٍّ، انقلابٍ أو انطمارٍ، إعصارٍ أو قيامةٍ أو زلزال – نلتقط أنفاسنا، ونتلفتُ وجِلين، ثم نُحصي نكبتنا.
ولا نلبثُ حتى نعاود سيرتَنا الأولى، محاولتَنا المستميتة لـبَثْق "جرح في الخواء"، و"لإسناد قاماتِ أسئلتنا"، صوارينا المترنحة يتيمةِ الخُضْرةِ هذه، عبْرَ "محيطاتِ الجَدْب."
نخترق لجج الرمل، متقلِّبين بين جحيم نهاراته وصقيع لياليه، متفلِّتين من أحابيله، وهو لا يني يترصدنا بعيونٍ مُغْمَضة، ويُهَدْهِدُنا بشخيره، يمسح أقدامنا بِخَطْمِه، ويتلمَّظُ ويُهَمْهِم، مادّاً في حبل فريسته، يسبقنا ويتعقبُّنا— وحشٌ مداهن، ذو نَهَمٍ لا يؤتَمَن، وشهوةٍ للافتراس لا تَبْرأ، راسخة، كاسرة، محمومة، يُضْمِرها أبداً، ويتلوّى تحت ضغْطها، يروِّضها ويُمَنِّيها ويُربِّت عليها، يلطِّفُها أو يَكْبَحُها. ولكنه يضيقُ بها فجأةً، فيتفجًّر، يثور على أناتِه وحِلْمِهِ وشهامتِه، ويَكْفرُ بالحكمة التي كبَّلتْ شراهتَه وحَدَّتْ من جنونه، ويُجَدِّف على آلهتِه، وُيطيحُ بها، ويَلْعنُ ما سلفَ من حرمانه.
ومرة أخرى نتفقدُ بعضنا، ولكن أيُّنا هو الآخر؟! لقد غامتِ الملامح، وحالتِ الألوان.
أهدابنا ترشح رملاً،
أفواهنا تَمُجُّ رملاً،
رئاتُنا تنضحُ رملاً،
حتى السماء تَنْحَلُّ رملاً وتعجِّلُ في وَأْدِنا.
ولعلَّ أقدامَنا تعثَّرتْ بسرّ وقوف أسلافنا على الأطلال. هل يحدث هذا في بقعةٍ مأهولةٍ أخرى من بقاع الأرض: أن تستنفرَ الصحراءُ عساكرَها كلَّها لتنقضَّ على مُخَلَّفاتِ الإنسان الحميمةِ الضعيفةِ، أزاهيرِ عذابهِ المترمِّلاتِ، فتَمْحَقُهُنَّ في طرفة عين؟! كأنهنَّ ثُغراتٌ في هيمنتها، أو أرحامٌ في عُقْمها، أو شهودٌ على هزيمتها، فتسارعُ الى مَحْوِهِنَّ خشيةَ إيقاظِ أطماعٍ جديدة.
ثم، ما إِنْ تَتِمَّ لها الغَلَبَة، حتى تُسرّحَ جيوشَها، وتتمددَ بطولها الأسطوريِّ كي ترتاح، وكأنْ لا هَمَّ لها سوى إقامةِ الحدِّ على مقترفي الحياة.
نحن متقشفون في أحلامنا، إذن. وهل يُبْنى صَرْحٌ على الرمل؟! ولكننا نحرس آثارَ مسيرتِنا من الطَّمْسِ، ما وَسِعَنا ذلك.
يكفي ما سبق. على قبورنا أن تتشبَّثَ بشواهدها. فَلَئِنْ "لمْ يكتملْ موتُنا" بعدُ، فها نحن "نَتَهَجَّاهُ جُرْحاً جُرْحاً."



آذار 1993


• مقدمة (إبحار في الرمل)، أنثولوجيا الشعراء العراقيين في مخيمي الأرطاوية ورفحاء للاجئين في السعودية. من إصدارات دار الينابيع بدمشق، 1995.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل