الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بيروت محمد عيتاني...لا تموت

جمال القرى

2013 / 3 / 17
الادب والفن


البلد ليس بخير. وهذا يعني ان الثقافة الوطنية، بما هي المرجعيّة الكفؤ لمعاينة المجتمع فهماً، ودرساً، وتشريحاً، ونقداً، بهدف احداث تغيير جذري في بنيته تنقله نحو الأفضل، ليست بخير. ومردّ ذلك، يعود الى امعان خبيث ومقصود في اهمالها، لإهمال دورها، لصالح "ثقافة السلطان" التي لاقت ، ولا تزال تشجيعاً وانتشاراً، نظراً لدورها في تثبيت قوى الأمر الواقع مع كل مكتسباتها، لا بل، والاستزادة منها. شجّع ذلك، على انتشار الفساد، وانهيار القِيم، وازدياد التزمّت والتعصّب الديني والمذهبي، واستفحال الخطاب العنصري، وتفيت الدولة، واستُحضرت صراعات بواطن التاريخ وأُسقِطت على الحاضر. مما بات يستدعي ضرورة رداً مواجهاً مقابلاً، ليس اليأس والانكفاء موضوعه، او السلاح، او التقاتل، بل إحياء انجازات مفكرينا وادبائنا، ونشرها، واستكمال مسارهم التقدّمي الذي قطعه عن سابق تصميم وترصّد، كل من توالى على الحياة السياسية، وشتّته وأماته عبر أدواته، بهدف فرض نمطٍ آحادي لثقافته ورؤياه.
في هذا الاطار، أُحيت في الأمس ذكرى رئيف خوري، واليوم تُحيا ذكرى رحيل محمد عيتاني، وهما الصديقان اللذان نهلا من منابع فكرية متنوعة، وأسهما في إثراء الحياة الفكرية والادبية في منتصف القرن الماضي، وشكّلت مفاهيمهما مع اصدقاء لهما، مداميك لوعي وطني متقدّم، في مساحة جغرافية لا يزال الالتباس يعتري وحدتها، بل وجودها، ولوعي قضايا شعب عانى كل انواع المظالم، وله آماله وطموحاته في غدٍ افضل.
ينتمي محمد عيتاني الاديب والمفكر والانسان، الى فئة هؤلاء المثقفين العضويين، الملتصقين بقضايا شعبهم لحدّ الاندماج. فبالإضافة الى نبوغه الأدبي، وشغفه بالكتابة، وامتلاكه للغة جميلة طيّعة لاذعة، فقد حمل بأمانة وصدق لواء المظلومين والمهمّشين من شعبه ومن ابناء مدينته التي عشق، وتكلّم بلغتهم، وعاش أحاسيسهم، وعانى معاناتهم، وكيف لا، وهو ابن المعاناة، وُلد من رحمها، ونما في كنفها. وهو لأمانته، لم يستزده الفقر والتهميش والاهمال والمظالم، الا نبوغاً أدبياً، ووميضاً فكرياً كان يتلاشى احياناً تحت وطأة الصدمات، ليعود من جديد، ويُبدع على غرار الفنانين والادباء التي ترقى ابداعاتهم حين تُمعن فيهم المعاناة استحكاماً.
متكأً على ثقافة واسعة ملمّة بالفكر السياسي، والماركسي، والاشتراكي، والاقتصادي، وبالأدب والشعر، دراسة وترجمة، رسم وطنه ومدينته في حكايات نفخ فيها من خياله الذي لا ينضب، وأصدرها في روايات كانت "أشياء لا تموت" احداها. ففيها أفرغ ما يعتمل في عقله وقلبه، من حب للحياة والجمال، ومن صدق ووفاء، من أرق وضياع، من وصل وبعاد، من غضب وحنان، من نقمة وأسى، من يأس وأمل، وأتاحها باباً ممكناً لقراءة الوطن، وللاستدلال على أبعاده التأريخية، والانسانية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية بلغة قلّ نظير جماليتها واندماج كلماتها وتعابيرها بفكرتها. ولم تعد الحكاية رواية، بل باتت صوَراً حيّة، ناطقة، ونابضة بالحركة والحياة في الزمان والمكان، لأشياء حميمية، محببّة، ومميزّة صبغت كل صنوف البشر، ومستويات الحياة، وجعلها حاضرة لا تموت بحكم تقادم الزمن عليها، او بحكم الابادة الممنهجة، والمتواترة كلما مرّ عليها المّارون.
لقد كتب مدينته المعشوقة، كتوأم لروحه وقلبه، ورأى وطنه كإشراقة لأفكاره، ولانسانيته وأحلامه، وأبدع في عرض أدبه المديني، والبحري مدوّناً بذلك، البراهين على ماهيّة وجودهما كشعب وكجغرافيا، داحضاً بذلك كل المحاولات الثقافية والسياسية المتنوعة المشارب لإنكار هذه الماهيّة وهذا الوجود، او لتصويره كأنه سراب لم يكن، ولن يكون، او كأنه أرض بلا شعب او تاريخ، او شعب ملتبس الثقافة والهوية محدودهما، او ملتبس الوطنية فاقدها. فهذا الصدوق، كتب عن شعب مترابط بتاريخه وجذوره، متشبّثٌ بأرضه وببحره، يجمعه الألم والحلم، يقاتل الاحتلالات والانتداب، ينظم الشعر الوطني، يساهم في الاستقلال، يثور على الطغيان، ولا يتوانى عن نجدة الثوار في المحيط، كما وصّف بيوته الفقيرة بجدرانها المشقّقة، وسقوفها التنك، واستنطق سعادته مع كل اشراقة شمس وصياح ديك، مع كل ريح خريف وطرقة شتاء، ومع كل نسمة تحمل رائحة زهر البوصفير والياسمين ربيعاً، لقد خاواه مع كل شجرة صبير، وتين وجميّز، حتى اصبح مع ارضه وسمائه وبحره واحداً. وقابل ذلك، بما كان للاغنياء والاقطاع من سطوة، وسلطة، وقمع، ومال، وقوة. ورصد بدايات اجتياح التحولات الجذرية للمكان والاجتماع والاقتصاد، من انتشار للفساد، وتجارة للمخدرات، وتراجع للقيم، وبدء الشركات الكبيرة بالاستيلاء على الاراضي عبر شرائها بالحيلة او القوة، تحضّراً لتبديل معالم الحياة في كل جوانبها. وليصبح ما كان هو، ليس هو.
لاحقاً، اتت الحرب الاهلية لتمزّق مدينته، وتصيب من روحه مقتلاً، ليعود وينتعش من جديد، صارخاً مع اول رصاصات أطلقتها جبهة المقاومة الوطنية في شوارع المدينة وازقّتها: " لا للموت، لا للعدو".
لقد كان محمد عيتاني هو نفسه رمز الحكاية، وهي ليست حكاية الذين ماتوا، بل حكاية الأحياء الآن، حكايتنا نحن، جميعاً. حكاية وطن يأبى ان يموت، حكاية مدينة تأبى الهزيمة والاستسلام، هي لم تمت يوماً، ولن تموت، لم تُطوّع، ولن تُطوّع، لأنها تحضن ولا تفرّق، تتلون ولا تبهت، تزهى مع العشق وتلفظ الخيانة والاستفراد، هي مشغولة بدقّة موج البحر، وبجمال زرقة السماء، وبحنين الارض والريح. هي حيّة في جدران الذاكرة، ومحفورة في الوجدان.
هذا هو محمد عيتاني، شمعة من مجموعة شموع نيّرة. فلا قضاء على ظلم اجتماعي وظلام فكري، الا باستلام شعلتهم واستكمال الطريق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة الأمير والشاعر بدر بن عبد المحسن عن عمر ناهز الـ 75 عام


.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد




.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش


.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??




.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??