الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ماركس وباكونين: الدولة والكومونة -1/3

أنور نجم الدين

2013 / 3 / 18
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية


فى ذكرى ثورة الكومونة

تمهيد

نعيش في عصر تتدفق فيه موجات نضالية عالية فوق الغرب والشرق؛ تدفع الشغيلة نحو مقدمة المسرح العالمي. وهو أمر يتطلب انبثاق حركات أكثر تماسكًا تسحق تحت أقدامها كل عصبة تعارض الهدف المشترك للحركة من خلال تمسكها بكيانها الخاص.
إن رفع النضال الطبقي إلى مستوى الصراعات الحاسمة في المجتمع، يتطلب مسبقًا تنظيمًا ينبثق من النضالات الاقتصادية والمصادمات اليومية لا من الإيديولوجيات المختلفة أو الأهداف السياسية المحددة لليسار تمثل حرفة سياسية لعلاج الأمراض المزمنة للمجتمع البرجوازي. فبحجة الظروف المختلفة للبلدان المختلفة، تعيش أحزاب يسارية، حديدية التكوين، 100 سنة أو أكثر؛ رافعين في يدهم شعارات الثورة البرجوازية الفرنسية مثل الحق الليبرالي للإنسان في ظل الحريات الديمقراطية، وهو في الأساس التكييف مع الحياة الاصلاحية للمجتمع البرجوازي ذاته.
ومقابل ذلك؛ فهناك حركة أناركية، لا يمكنها التكييف مع هذا المجتمع رغم أنها متمسكة أيضًا ببعض شعارات اليسار. فالعدالة مثلاً هي الشعار الأساسي لرفاقنا الأناركيين. ولكن ما القصد من العدالة؟ إن مبدأ الزكاة يعبر بالضبط عن مبدأ العدالة. فهل تعد العدالة دخلًا عادلًا لعمل عادل؟ هل هو أجرة عادلة متساوية بين الجميع؟ وهل ممكن تحقيق هذه العدالة أو إنها مجرد رفع شعارات ميتة لا معنى لها في الحياة الواقعية؟ فضمن القوانين الرأسمالية للإنتاج توجد قيم مختلفة تتطلب إنتاجها كميات مختلفة من العمل تكون لها أسعار سوقية مختلفة، الأمر الذي سيجعل من المستحيل التفكير بما تسمى العدالة أو بأجر متساوٍ وأسعار مستقرة لقوة العمل والسلع على أساس نظام العمل المأجور.
ولكن نظرًا لأن الأناركية حركات عابرة، غير منظمة، فستختفي بسرعة وراء أية انتكاسة وقتية. وكأنها حركة مجموعة من الأفراد لا حركة اجتماعية.
إن هجوم الطبقة الحاكمة بوصفها أكثر قوة منظمة في المجتمع، يفترض شن هجوم معاكس منظم يتخطى مبدأ الفردية الذي يسود في صفوف الأفراد والشيع الأناركية المختلفة. فرغم كل بطولات الأناركيين ضد الدولة وقواتها البوليسية، فان ضعفًا خطيرًا تسود الحركة الأناركية، وهذا الضعف يتمثل في كونها تحارب البرجوازية بالشعارات الميتة التي كانت البرجوازية ذاتها تحارب بها المجتمع القديم، وهي في نفس الوقت حركة يسودها التشوش لا التوحيد والتناسق في التنظيم بين أفرادها وأطرافها وكأن النضال ليس سوى متعة ذاتية للأفراد لا ينسجمون مع بعض قيود وقيم المجتمع البرجوازي.
إن التنظيم ضرورة ملحة لتطوير الحركات الدائرة في العصر الراهن، الحركات التي يتطلب تنظيمها في مواجهة أكثر القوى منظمة في المجتمع، وهي الدولة. وما دام للحركة إستراتيجية محددة، فيفترض تحقيقها تنظيم القوى الثورية للسيطرة على التشتت والتمسك بخطوط تكتيكية مشتركة. ودون تنظيم الأعمال التكتيكية، سيشارك المناضلون بأنفسهم في تحويل الحركة إلى فوضى لا تقاوم أي هجوم معاكس من قبل القوى المنظمة العسكرية المدربة للدولة. فها هي الحركة تتطور أمام أعيننا وتتطلب التخلي عن المفاهيم النظرية الجافة للأنبياء السياسيين من كل الأطراف والشيِّع الاشتراكية؛ تتطلب التناسق في الأعمال لا في شكل التحالفات السياسية أو التطابق في النظريات، بل في الأعمال التكتيكية التي تخدم إستراتيجية الشغيلة. ففي النظرية لا يتوصل المناضلين –الماركسيين والأناركيين مثلاً- إلى أي اتحاد يمثل الهدف الاجتماعي المشترك لطبقة الشغيلة العالمية. وإذا رجعنا مثلا إلى ماركس وباكونين، فنتلمس الكثير من الخلافات بينهم لا نصل من خلالها إلا إلى إعادة الحياة إلى خلافات تقودنا نحو مأزق كبير. وحيث إن حركة الشغيلة هي المدرسة العليا للمناضلين، ثم نضج هذه الحركة هي التي تسيطر على كل الأوهام، وبالأحرى تقودنا نحو فهم الهدف، وضرورة توحيد قوانا، فيجب العودة إلى التجارب والدروس التاريخية للثورات لا الكتب المقدسة. ويجب أن تكون خبرة الكومونة والسوفييتات، حجر الأساس لتوحيد القوى بدل الصيغ النظرية الجافة لا نجد جوابها إلا بعد انتصار البروليتاريا في ثورتها، أو لا نبحث من خلالها إلا إعادة الحياة إلى الصراعات الفكرية التي تحمل في ذاتها الكثير من الأوهام التي كانت تصاحب بالضرورة النضال الطبقي في السابق مثل الأوهام التي نعيش معها في عصر تتقدم فيه من جديد حركة أصبح التضامن الأممي أساسها دون أي شعارات أو خطابات أو قرارات سياسية مسبقة. وأن بحثنا هنا هو محاولة لابراز أهم هذه الخلافات الفكرية بين ماركس و باكونين، لا يعطينا التاريخ جواب صحتها إلا مع العبور إلى مجتمع جديد، وآنذاك لسنا بالطبع بحاجة إلى أية نظرية. فالتاريخ ذاته يحل لنا ما لا يمكن أن نسبقه من خلال قدرة التفكير، ولا يمكن أن يكون ذلك المجتمع، صورة فكرية لتصاميم ماركس وباكونين، مثلما لم تعكس ثورتي الكومونة والسوفييتات تصاميم بلانكي أو برودون أو ماركس، فنحن لا نبحث مجتمعًا يمثله فكر ماركس أو باكونين، بل حركة مادية توجد بصورة مستقلة عن أفكارنا وأحلامنا؛ ممكن فهمها، ولكن من غير الممكن توجيهها حسب خطة سياسية حزبية مسبقة. فبمستطاع المناضلين المساهمة فيها من خلال توحيد الأعمال التكتيكية بما تخدم المطامح الاستراتيجية للحركة البروليتارية، ونعني بها الحركة الاجتماعية الكومونية التي يشارك في تنظيمها كل فرد من أفراد المجتمع يخضع في النهاية للتسيير الذاتي -الإدارة الذاتية- للمنتجين أنفسهم. وهو ملخص المنهج المادي الذي يتمسك به كل من ماركس وباكونين أيضًا رغم كل خلافاتهم وأخطائهم. فكيف نقوم بتقييم هذه الخلافات والأخطاء؟

ماركس وباكونين: الدولة والكومونة

يقول فرانز مهرنغ:

لقد اعتبر باكونين ".. ان غزو ألمانيا لفرنسا سيعطي اشارة إلى البدء للثورة الاشتراكية في فرنسا .. كان باكونين محقًا .. وقد استعان بالتاريخ الفرنسي بشكل خاص ليثبت وجهة نظره. ولكن اقتراحاته لحمل البونابرتيين والفلاحين الرجعيين على عمل ثوري مشترك مع عمال المدن كان خياليًا إلى أبعد حد" (فرانز مهرنغ: كارل ماركس، تاريخ حياته ونضاله، ص 355).

أما بصدد ماركس فيقول مهرنغ:

"يخبرنا ليبكنشت في ذكرياته ان ماركس تنبأ خطأ بقدوم الثورة مرة أو مرتين" (ص 204).

ولكن في واقع الأمر، ففي قراءته للمجتمع الرأسمالي، قد استعان ماركس أيضًا بالتاريخ العالمي ليثبت أطروحاته المادية عن التاريخ، ففي عام 1858، أي قبل 12 عامًا من حدوث ثورة الكومونة، يقول ماركس في رسالة إلى انجلس:

"هناك مسألة صعبة تواجهنا مفادها ان الثورة قريبة في القارة، وانها ستتخذ في الحال طابعًا اشتراكيًا. ولكن ألن تُسحَق حتمًا في هذه الزاوية الصغيرة مادام المجتمع البرجوازي يواصل حركته الصاعدة في رحاب أكبر بما لا يقاس فيه؟" (ملركس-انجلس، بصدد الثورة الاشتراكية، ص 126).

وفي رسالة أخرى إلى انجلس في حزيران عام 1866، أي قبل 5 عامًا من انطلاق ثورة الكومونة الفرنسية في 18 آذار 1871، كتب ماركس يقول:

"سوف ينتظر العالم بأسره نضوج الفرنسيين للقيام بثورة اجتماعية" (مراسلات ماركس – انجلس، ص 109).

وهكذا، فيحاول كل من باكونين وماركس ليثبت استنتاجاته بالاستناد إلى التاريخ، ولقد انتهت بالفعل أولى المحاولات –الكومونة- بسحق الثورة نظرًا لانطلاقها في زاوية صغيرة. فان مهمة البرجوازية، كما يؤكد عليها ماركس مرات عديدة، هي إيجاد سوق عالمية. وإن هذه العملية قد انتهت في خطوطها الكبرى بعد استعمار الهند وأمريكا وأستراليا وفتح أبواب الصين واليابان قد قرب بما لا يقاس هذه القارات من مركز الأزمات، بل أصبحت هذه المناطق ذاتها أجزاء من السوق العالمية ثم ميدان الأزمات الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي، الأمر الذي قد سبب إضعاف القدرة الانفجارية لهذه الأزمات في أوروبا، حسب ماركس.
أما عكس ماركس، لم يفضِ النضال الطبقي بالضرورة إلى الدكتاتورية السياسية للبرليتاريا، أي الدولة البروليتاية، فلم تمثل الكومونة دولة دكتاتورية بروليتارية. ورغم تأكيد ماركس على دكتاتوريته البروليتارية، ولكن مع ذلك، فقبل كومونة باريس وبعدها أيضًا، تعني الاشتراكية لدى ماركس، هدم الدولة وإقامة الإدارة الذاتية للإنتاج، هذا هو طريق الاشتراكية، وهذا ما ينطلق منه باكونين أيضًا. أما الدكتاتورية البروليتارية التي يتخيلها ماركس، تتلخص في التصورات الآتية:

"في مقالة هجائية منشورة في جريدتك بتاريخ 22 حزيران من السنة الجارية، وجهت إلي لومًا مفاده اني اذود عن سيادة ودكتاتورية البروليتاريا، بينما انت، خلافًا لي، تعلق أهمية على إزالة الفوارق الطبقية عمومًا. أنا لا أفهم هذا التعديل ..
وانت تعرف اني دافعت في "بؤس الفلسفة"، حتى قبل شباط 1848، عن وجهة نظر ذاتها ضد برودون" (ملركس، نفس المرجع السابق، ص 94، بيان إلى رئيس تحرير (NEUE DEUTSCHE ZEITUNG)، عام 1850).

وما يدافع عنه ماركس في "بؤس الفلسفة" فهو الآتي:

"ان الطبقة العاملة تقيم في سياق التطور، عوضا عن المجتمع البرجوازي القديم، رابطة تنفي الطبقات وتضادها؛ ولن تبقى ثم أية سلطة سياسية حقا، لأن السلطة السياسية على وجه الدقة هي التعبير الرسمي عن التضاد بين الطبقات في داخل المجتمع البرجوازي" (ماركس، بؤس الفلسفة).

وفي العائلة المقدسة، يقول ماركس:

"عندما تنتصر البروليتاريا لا تصبح في حال من الأحوال الجانب المسيطر في المجتمع لأنها انتصرت فقط بالقضاء على نفسها وعلى نقيضها. وعندئذ تختفي البروليتاريا كما يختفي نقيضها الذي يحددها وهو الملكية الخاصة" (ص 41) (*).

وهكذا، فالبحث عن الدولة بوصفها آلة للسيطرة الطبقية على المجتمع كله، يجب أن يكون خارج النظريات، أي داخل التاريخ ذاته. فأساس هذا البحث هو الدروس والتجارب التي مرت على الثورات البروليتارية في تاريخها. وفي التاريخ، نجد بالضبط أن انتصار الثورة البروليتارية، تعني القضاء على طرفي الملكية الخاصة: العمل المأجور والرأسمال - البرجوازية والبروليتاريا - معًا وفي آن واحد، فلا تصبح البروليتاريا في حال من الأحوال الجانب المسيطر في المجتمع، لأن انتصارها تعني القضاء على ذاتها بوصفها طبقة.
فالمسألة إذن، لا تتعلق بفهم نظريات ماركس أو باكونين، لينين أو تروتسكي ، ستالين أو خروتشوف عن الدولة، بل بالعناصر التاريخية التي تنشأ منها الدولة. وهذا ما يعالجه كل من ماركس وباكونين بصورة رائعة. ويقول ماركس:

"ولكن المسألة هي: مم تتكون البروليتاريا ؟ وما الذي، نتيجة هذا التكوين، تضطر أن تفعله. ان هدفها وعملها التاريخي يظهران بشكل حتمي وواضح في وضع حياتها الخاصة كما يظهران في كل تنظيم المجتمع البرجوازي المعاصر" (ماركس، نفس المرجع السابق، ص 42).

يتبع
_____________________________________________________________
(*) إذا انطلقنا من صيغ ماركس أعلاه، فلا يمكن الاتفاق بأي شكل كان مع موضوع: "ماركس التحرري ؟ " لـ (دانييل غورين) حيث يقول: تحت تأثير نقد باكونين شعر ماركس بالحاجة إلى تصحيح الأفكار الدولتية (أي المتمركزة أو المتعلقة بالدولة – المترجم ) أكثر من اللازم التي حملاها في عام 1848 (انظر: النسخة الألكترونية في الانترنت، ترجمة: مازن كم الماز).
وفي الجزء اللاحق سنعود إلى تعليق الرفيق مازن نفسه بإيجاز.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - يا شغيلة اليد والفكر وكومونيوا العالم اتحدوا
فؤاد محمد محمود ( 2013 / 3 / 19 - 12:05 )
الرفيق العزيز انور
افتقدك مكانك خالي
جهد ثوري رائع تنير الدرب والوعي الثوري المبدع
لقدمسحتم بالنور اعينناانت والرفيق مازن وبقية الرفاق بدل ان نموت ونحن مغفلين
جزيل الشكر اعانقكم


2 - شكرا لك
انور نجم الدين نوري ( 2013 / 3 / 19 - 12:53 )
شكرا لك ايها الرفيق العزيز.
تقبل تحياتي الرفاقية

اخر الافلام

.. إيطاليا: اشتباكات بين شرطة مكافحة الشغب ومتظاهرين مناهضين لل


.. عاجل | الشرطة الهولندية تعتقل متظاهرين مؤيدين لفلسطين خلال ت




.. اشتباكات بين متظاهرين ورجال الشرطة بسبب فيضانات إسبانيا: مته


.. كلمة الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية في افتتاح الجامعة




.. التقرير التركيبي وخلاصات الجامعة السنوية لحزب التقدم والاشتر