الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة الجزائرية في مرآة النفس والآخر

سميح مسعود

2013 / 3 / 20
الادب والفن


هل ينحصرالاحتفال بخمسينية استقلال الجزائر، في الحديث عن المكاسب المتحققة في الراهن المعيش، أم يتخطاها لتقصي تفاصيل انطباعات شخصية خفية مشحونة بمشاعر عن الثورة الجزائرية، تكشف عن مكنونات مشاهد من دوامة أيام مضت مرشوقة في خبايا الذاكرة؟

سؤال طرحته على نفسي منذ دُعيت للمشاركة في اللقاء الأدبي والإعلامي في ولايتي باتنة وخنشلة بمناسبة مرور نصف قرن على تحرير الجزائر واستقلالها، وأجد في الإجابة عن هذا السؤال أنه يمكن لشخص مثلي أن يتحدث عن شقه الثاني، يمكنه أن يبين كيف تعرفَ على الثورة الجزائرية في لحظاتها الأولى وبدء مسيرتها، وأن يعيد اكتشاف ردة فعل أهل ذلك الزمان عليها في مرآة النفس والآخر.

هذا ما يبرر لي استحضار لمحات تختزنها الذاكرة حول الثورة الجزائرية، تتماوج في مونتاج من الصور الصامتة من أيام سنوات مضت... أقلبُ أول صورة منها ، أجدها تجسد أستاذي مناور عويس، وهو يقف فرحا أمام طلاب صفي الأول الثانوي في مدرسة الربة الزراعية جنوب الاردن، ينطق بكلمات منتقاة جميلة جذابة ، ملفعة بمظاهر الرضا والسعادة، يزفُ بها لطلابه باعتزاز خبر اندلاع الثورة الجزائرية، ويخصص لها حصة اللغة العربية بكاملها في ذلك اليوم، الأول من شهر تشرين الثاني / نوفمبر 1954.

كانت كلماته تنهمر من بين شفتيه معبرة عن منسوب مؤثرات وطنية عالية ، تتصل بأعمق فواعل التكوين القومي، يأسر بها طلابه ويشدهم إليه.

في تلك الأيام الأولى من مسيرة الثورة الجزائرية، كان أستاذي يكثر من الحديث عن ثورة الأوراس – كما كان يحلو له أن يسميها – يرسمُ للوطن العربي على إيقاعاتها وأحداثها صورة انتقائية بطبيعتها تجنح إلى المثالية والرومانسية الحالمة، تعبر عن بناء كيان عربي موحد في نطاق دولة وطنية عربية واحدة، بعيداً عن العشائرية والقطرية الضيقة والعصبيات السياسية التقليدية.

لن أنسى ما قاله أستاذي ذات يوم بحسٍ صادق مرهف، وهو لا يستطيع الإفلات من قبضة الأحلام وتداعيات أجواء مشحونة بالإثارة : " ثورة الأوراس هي معبر تاريخي للوحدة العربية ستقود خطواتنا إلى حيفا ويافا وعكا وكل فلسطين ". كرر هذه المقولة بحبور زائد مئات المرات على مدى سنوات متلاحقة، وأراد بها أن يشد جيلي الناشئ من مقاعد الدراسة الثانوية إلى قمة الأوراس والكرمل، و إلى فضاءات مدن جزائرية وفلسطينية كثيرة، مثقلة بحمولات الاستعمار والاحتلال.

أعود إلى مونتاج الصور من جديد، وأرى صوراً كثيرة تطاردني وتحرك مشاعري ؛ تجسد لحظات بارزة متشابكة ومختلطة تختزنها الذاكرة منظمة في إيقاعاتها وأحداثها، من أبرز علامات تلك اللحظات للطالب الذي كنتُه في سنواتي الباكرة ، أجدها في بيان أول نوفمبر ... أول تصريح رسمي لجبهة التحرير الوطني ، نداء حددت فيه الثورة مبادئها وثوابتها ووسائلها وأهدافها المتمثلة في الحرية والاستقلال وتغيير مجرى التاريخ .

نداء انبعثت كلماته من عصارة تجربة شعب دامت أغلال الاحتلال في أرضه طيلة 132 سنه، طُمست فيها الهوية الوطنية الجزائرية، وصُفيت الأسس المادية والمعنوية المجتمعية... قرأه استاذي أكثر من مرة في غمرة عاطفة جارفة... نسجت كلماته بؤرة لاقطة لأبعاد فواعل ثورية وسياسية ووطنية وكفاحية عديدة ما تزال تستوطن ثنايا الذاكرة حتى الان.

للنشيد الوطني الجزائري مكانة خاصة في الذاكرة أيضا ً، بانثيالاته الإيقاعية الجميلة، وكلماته المتوهجة في نسيج لوحة شعرية معبرة عن ثورة عارمة يتحرك لهيبها في كل اتجاه، تبدأ أول كلماته بكلمة " قسماً " كلازمة نغمية ودلالية تتردد في مشاهد لغة شاعرية توحي بالقوة والعزيمة والحشد والنصر والعنفوان ، وتستشرف افاق المستقبل الاتي، بعيدا ً عن أجواء الاحتلال والضعف والضياع... لازمة جميلة مغموسة بأحاسيس تفاؤلية، تسيطر على السامع، وتحفزه على ترديدها بفرح، وتكرارها بفيض نبرات صوت تصاعدية.

ها هي ملامح ذكريات طالب في مقتبل العمر عن بدايات الثورة الجزائرية، تحتفظ بها ذاكرتي من أيام الدراسة في المرحلة الثانوية، وتلاحقني أطياف ذكريات أخرى تشع بصور ملونة من أيام دراستي الجامعية مليئة بشخوص ومشاهد ولحظات كثيرة متصلة بمسيرة الثورة الجزائرية.

تشاءُ المصادفات أن أواصل دراستي الجامعية في جامعة سراييفو، في يوغوسلافيا، البلد الذي تعاطف كثيراً مع القضايا العربية إبان حكم قائده التاريخي الراحل تيتو، وكان الأكثر تعاطفاً وتعاطياً مع الثورة الجزائرية في أوروبا.

وبالمصادفة وحدها أيضاً، التقيت بالشاعر البوسني عزت سرايليج الذي أتاح لي الفرصة للتعرف على النادي الأدبي في سراييفو، والمساهمة في أعمال ندوة أدبية عقدت خصيصاً في الأول من نوفمبر 1961بمناسبة ذكرى انطلاقة الثورة الجزائرية، طُلب مني في تلك الندوة أن أنشد النشيد الوطني الجزائري باللغة العربية عند افتتاح أعمال الندوة، وهذا ما فعلته، رددته بصوت عالٍ أمام الحضور بعاطفة حماسية جياشة، وبعد انتهائي صفق الحاضرون تصفيقا ًبلغ من القوة حداً أثار ذهولي، بعدها أُلقيت عدة كلمات ثرية في جديتها وتنوعها بحثت في مختلف جوانب الثورة الجزائرية واّثارها ومستقبلها، نتج عنها محاورات خصبة بالنتائج وتبادل الأفكار الجادة.

تلك الندوة ما تزال ذكراها عذبة في خاطري، كانت القاعة التي أقيمت فيها واسعة مكتظة بالحضور من الأدباء والشعراء، مزينة بصور من المعارك التي كانت تتناقلها وكالات الأنباء العالمية، علٌّقت بعناية على الجدران، كما عُلقت بجانبها عدة صور كبيرة لقادة الثورة المعتقلين وصورة لفرانتز فانون وسط لافتات عريضة كتبت عليها شعارات بحروف نافرة تدين الاستعمار الفرنسي وتؤكد حرية الجزائر.

أول ما يلفت الانتباه في شأن نتائج تلك الندوة، هو إجماع الحضور على توجيه برقية باسمهم تعبر عن تأييدهم لموقف جان بول سارتر ومجموعته من المثقفين الفرنسيين الذين كانوا حينذاك ملء السمع والبصر بعد توقيعهم بيان 121، وتأكيدهم فيه على مساندتهم للثورة... تم صياغة نص البرقية وقراءتها على مسمع من الحاضرين، وبعد أن نالت الموافقة والاستحسان، تُرجمت إلى اللغة الفرنسية ، ووقع عليها الجميع بما فيهم كاتب هذه السطور، وسرعان ما تم إرسالها الى مكتب البريد، تمهيدا لإبراقها الى مجلة الأزمنة الحديثة في باريس التي كان يصدرها سارتر بالتعاون مع سيمون دي بوفوار.

أما الأمر الثاني من نتائج تلك الندوة، فقد كان الإجماع على ضرورة إقامة ندوات ثقافية في مدن بوسنية أخرى، في محاولة للتعريف بمسار الثورة الجزائرية ومتابعة تطوراتها النضالية، وتم في هذا الشأن عقد ثلاث ندوات في مدن : موستار وتوزلا وبانيا لوكا، ساهمتُ فيها بترديد النشيد الوطني الجزائري في جلسات افتتاح أعمالها... تعود الى ذاكرتي الان لحظات تلك الندوات، بأدق تفاصيلها.

بعد أخر ندوة بفترة قصيرة، انتهت الحرب بإعلان استقلال الجزائر في 5 تموز/ يوليو ( جويلية ) 1962 بعد مرور سبع سنوات على اندلاع الثورة، واستشهاد أكثر من مليون ونصف شهيد جزائري، وبهذه المناسبة أقام النادي الأدبي في سراييفو احتفالاً خاصاً، قدم فيه خمسة من شعراء البوسنة ومضات إبداعية، تألق بينهم صديقي الشاعر عزت سرايليج، في نسج قصيدة وجدانية يعلو فيها صوت الحرية.

الكتابة عن تلك الأيام تجلب إلى نفسي كثيراً من السعادة، تُذكرني بذلك الماضي، ما شاهدته فيه، واستمعت إليه وعايشته، وتُعيدني إلى أجواء مشحونة بالعواطف الجامحة التي كانت تتجاوب مع الهموم العربية، وتتماهى مع تطلعات التحرر والاستقلال، على خلاف ماهو عليه الان في زمن الهزائم والانكسارات.


• ألقيت في كلية اداب جامعة باتنة الجزائرية بتاريخ 19-3-2013، بمدينة باتنة عاصمة الأوراس مسقط رأس أول شهيد سقط بعد بدء الثورة الجزائرية ، وذلك بمناسبة إحتفاء الجزائر بخمسينية الاستقلال الوطني.

















التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-


.. فعاليات المهرجان الدولي للموسيقى السيمفونية في الجزاي?ر




.. سامر أبو طالب: خايف من تجربة الغناء حاليا.. ولحنت لعمرو دياب


.. فيديو يوثق اعتداء مغني الراب الأميركي ديدي على صديقته في فند




.. فيديو يُظهر اعتداء مغني الراب شون كومز جسديًا على صديقته في