الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وحى الشعراء ووحى الأنبياء

داود روفائيل خشبة

2013 / 3 / 21
الادب والفن


وحى الأنبياء ووحى الشعراء
داود روفائيل خشبة

فى مقال سابق وعدت بأن أخصّص مقالا لموضوع ينبوع الوحى أو وحى الشعراء ووحى الأنبياء، لكنى ما كدت أبدأ التفكير فى الموضوع حتى تبيّنت أنه موضوع شاسع عميق لا يمكن معالجته بصورة مرضية فى حيّز مقال قصير، بل هو يحتاج بحثا فى مثل رحابة كتاب وليم چيمس William James الفذّ عن تنويعات التجربة الدينية Varieties of Religious Experience، وكم كنت أحب أن أقوم بعمل كهذا لولا أنى لا أظن أن ما بقى لى من الأيام يتـّسع لذلك. على كل حال، ما دمت قد وعدت فها أنا أحاول أن أقدّم تخطيطا هيكليّا لعل القارئ يجد فيه بعض النفع.
يمكننا القول بأن الوحى ظاهرة اقترنت بالجنس البشرى منذ اكتسب البشر الوعى العقلى. وفى اعتقادى أن كل من مرّ بالتجربة الإبداعية، فى الفكر أو الشعر أو الفن أو الكشف العلمى، لا بدّ أن يكون قد عرف تجربة الوحى، حين تواتيه الفكرة، تفاجئه، كأنما جاءت من ... من أين؟ إن قلت من خارج ذاته لما كان ذلك قولا دقيقا ولو أنه أوّل ما يخطر على البال، لكن من عرف التجربة يحس أن الفكرة انبثقت من داخله ومع ذلك فإنه يقول صادقا إنه لا يعرف من أين جاءت أو كيف جاءت. فيما يلى سأقدّم التفسير الذى اقتنعت به، لكن قبل ذلك دعونا نستكشف الظاهرة ببعض التفصيل وبعض العمق.
تحدّث الشعراء فى كل ثقافة وكل حضارة عن وحى يجيئهم من مكان يصوّرونه فى صور شتـّى. شعراء العرب تحدّثوا عن وادى عبقر وسكـّانه من الجن الذين يلهمونهم إبداعاتهم. شعراء اليونان حدّثونا عن ربّات الإلهام وكانوا يبدأون ملاحمهم وقصائدهم بالابتهال لتلكم الربات طلبًا للإلهام. وكم من شاعر محدث حكى لنا كيف جاءته رائعته فى حلم أو ما يشبه الحلم. ولعل أشهر مثال لذلك فى الشعر الإنجليزى الحديث ما رواه كوليردچ Coleridge عن قصيدته البديعة Kubla Khan التى نظمها وهو نائم، ولما استيقظ أخذ يدوّنها كما جاءته فى الحلم إلى أن قطع عليه زائر حبل أفكاره فبقيت القصيدة ناقصة، تماما كما بقيت سورة أبى لهب ناقصة حين انكسرت القافية فتبدّد الإلهام.
تعالوا ننظر فى وحى الأنبياء. فلنستبعد الحالات التى يكون فيها ادّعاء النبوّة دجلا واحتيالا ولنقتصر على الحالات التى يعتقد فيها النبى مخلصا أن الوحى يجيئه من مصدر أعلى. نجد أوّلا أن الكثير جدّا من هذا الوحى يأتى بالفعل فى حلم أو فى حالة غيبوبة أشبه بالحلم، أو فى رؤيا لا يمكن تكييفها إلا على أنها حلم يقظة. فى التوراة أمثلة عديدة للنبوءة التى تأتى فى ثنايا حلم. سفر إشعياء يبدأ هكذا: "رؤيا إشعياء بن آموص التى رآها على يهوذا وأورشليم فى أيام عزيا ويوثام وآحاز وحزقيا ملوك يهوذا." والأصحاح السادس من نفس السفر يبدأ هكذا: "فى سنة وفاة عزيا رأيت السيّد جالسا على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السرافيم واقفون فوقه لكل واحد ستة أجنحة. باثنين يغطى وجهه وباثنين يغطى رجليه وباثنين يطير. وهذا نادى ذاك وقال قدّوس قدّوس قدّوس ربّ الجنود مجده ملء كل الأرض. فاهتزت أساسات العَتـَب من صوت الصارخ وامتلأ البيت دخانا." وأكتفى بهذين المثالين من التوراة، وكان من الممكن أن أضاعفهما أضعافا. أما حكاية نبى الإسلام حين جاءه الوحى وهو معتكف فى الغار فهى مشهورة معروفة، إذ أتاه الوحى فى رؤيا لها – وأنا لا أقصد الإساءة – فى وصفها الدقيق كما ترويه المصادر الإسلامية، لها كل مواصفات الكابوس.
أريد أن أخلص مما سبق إلى أن الوحى الذى يعرفه الشاعر (أو المفكر أو الفنان أو العالم) فى تجربته الإبداعية، والوحى الذى يستشعره النبى أو الصوفى فى تجربته الروحانية، هما جنسان من تجربة نوعيّة واحدة، تجربة هى فى داخلها تجربة ذاتية. يحسّ الشاعر المبدع أن إبداعه له مصدر يتجاوز وعيه المباشر، سرّ يحيّره، وكى يجد الراحة من حيرته يخترع واديا يسكنه جن يلهمونه، أو يخترع ربّات للإلهام يَجُدن عليه بإبداعاته. ويكون من المعقول والمفهوم أن ينسب النبى الذى ينشأ فى بيئة ثقافة تؤمن بآلهة أو بكائن علوى وحيَه إلى ذلك الكائن العلوى. وأكرّر أنى أتحدّث هنا عن شخص مخلص يحسّ أن عنده رسالة يحتاجها أهله أو قومه أو بنو جنسه.
ولعل الأمر يكون أكثر وضوحا إذا نظرنا للتجربة الصوفية. التجربة الصوفية تجربة ذاتية يحسّ فيها الصوفى أنّه يتواصل مع حقيقته الذاتية أو مع الحقيقة المطلقة أو النهائية. والتجربة الصوفية الذاتية هى فى أصلها وجوهرها تتأبّى على البوح بها، لكن الصوفى يريد أن يعلن عنها، أن يعبّر عنها، فيلجأ للرمز وللمثال. لكنْ أى رمز وأى مثال؟ إنه بالضرورة يستمدّ الرمز والمثال من تراثه الثقافى والدينى. لهذا نجد أن التجربة الصوفية، التى هى فى جوهرها واحدة، يعبّر عنها الصوفى المسيحى فى صور ورموز مسيحية، والصوفى المسلم يعبّر عنها فى صور ورموز إسلامية، والصوفى الهندوكى يعبّر عنها فى صور ورموز هندوكية، وهى هى نفس التجربة فى صميمها وجوهرها.
ولكن إذا أردنا أن نجد لتجربة الوحى هذه فى صورها المختلفة تفسيرا عقلانيا، فماذا نحن قائلون؟ أين نجد الينبوع الفيّاض لتلك التجربة؟ فى رأيى أن ذلك الينبوع هو حقيقتنا الذاتية، حقيقتنا الداخلية، التى هى جوهرنا ككائنات عاقلة واعية. لماذا إذن تفاجئنا التجربة الإبداعية بمجيئها من حيث لا نعلم؟ أجيب بأن ذلك لأنها بالفعل لا تأتى من كيان له وجود سابق، ذلك أن حقيقتنا فى جوهرها حقيقة خلاقة، وكل الحقيقة فى رأيى خلاقة، وهذا هو التفسير الذى يقبله عقلى لما فى الكون من إبداع وتطوّر وتجديد. إننى أعلم أن ما أقوله فى هذه السطور القلائل يحتاج إيضاحا كثيرا وشرحا طويلا. وقد حاولت فى كتبى وكتاباتى أن أقدّم هذا الشرح والإيضاح، وليس من اليسير أن ألخصه فى سطور.
ما أقدّمه هنا مجرّد إطار لبحث لا يمكن أن نفيه حقه إلا فى كتاب مستفيض.
داود روفائيل خشبة
القاهرة، 21 مارس 2013








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الوحي في الأديان الكتابية
رمضان عيسى ( 2013 / 3 / 21 - 20:07 )
هناك معلومات أكثر عن الوحي في مقالي بعنوان - الوحي في الأديان الكتابية - المنشور في الأوان .
أوضحت فيه الوحي أو بالأخص الرؤيا في التوراة والانجيل ، ثم الوحي على لسان النبي محمد وأشكال الوحي في عدة مناسبات والتصور العقلاني لفكرة الوحي وعلاقتها بالوعي الانساني .


2 - تعليق
عبد الله خلف ( 2013 / 3 / 21 - 20:29 )
مقاله خاليّه من الدلائل العلميّه , و الربط بين الشاعر و النبي غير عقلي و غير علمي .

اخر الافلام

.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل


.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين




.. فيلم السرب لأحمد السقا يحصد 22.4 مليون جنيه خلال 10 أيام عرض


.. ريم بسيوني: الرواية التاريخية تحررني والصوفية ساهمت بانتشار




.. قبل انطلاق نهائيات اليوروفيجن.. الآلاف يتظاهرون ضد المشاركة