الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معادلة الاغتراب في شعر المنجى سرحان

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2013 / 3 / 22
الادب والفن


تحاول دائما كمتلق للعمل الإبداعي من جهة، وكناقد له من جهة أخرى؛ الوقوف على حجر الأساس في كل تجربة شعرية مغايرة.. هل تعتمد على اللغة أم على الإحساس! هل تعتمد على التجربة أم على النظري المجرد! هل تتكأ على التصوير أم تأخذها قضية ما بشدة! هل تتسق مع معاصريها ومجايليها أم تتمايز عنهم! وإن تمايزت ما سر التمايز! وهل حلقت هذه التجربة ووصلت لنقطة ذروتها أم لا!
دارت في ذهني كل هذه التساؤلات وأنا أطالع ديوان الشاعر/ المنجى سرحان الصادر عن هيئة الكتاب تحت عنوان: "من كتاب المراثي"..

المجايلة وكسر النسق:

ينتمي المنجى سرحان – تاريخيا- لحقبة وجيل السبعينيات، وهى التي اشتهرت بحركاتها الشعرية وتعدد مصادرها المعرفية، وعبرت عن حالات شتى من انكسار وتشتت الذات العربية بعد انكسار الحلم القومي في الستينيات وبعد مفاوضات الصلح مع العدو الصهيوني؛ حيث ظهرت تمثلات هذا الانكسار في تيارين رئيسيين –على نحو ما- ، الأول: هو تيار الحداثة بتطابقه شكلا ومضمونا –لحد ما- مع السياق الغربي وتجربته والتفاصيل التي أنتجته، وهو التيار الذي ساد، والثاني الأقل صوتا: هو تيار الحداثة الشعرية التي اتكأت على التجربة الحضارية العربية الإسلامية سواء في البكاء عليها أو استحضارها..
والواضح كل الوضوح في الديوان هو انتماء المنجى سرحان للتيار الثاني الأقل ذيوعا وانتشارا، التيار الذي يتحسر على أطلال الواقع العربي وحضارته الإسلامية، ويتماس في ذلك مع الظرف الشخصي وحالة الشاعر/ الفارس، الذي يتعرض للتهميش والإقصاء لتمسكه بكلمته.

خصوصية التجربة:

ولكن دون أن تأخذنا التفاصيل، ندخل مباشرة في مركز الحالة الشعرية عند المنجى سرحان ، يمتلك الشاعر جملة شعرية تستطيع أن تلمح أثرها عن بعد، تعتمد على قدرته السلسلة في عمل بعض التقديم والتأخير في ترتيب الجملة، وكذلك تعتمد على اختياره لأبنية للمفردات المستخدمة غير شائعة وجذلة (أقصد أبنية صرفية للمفردة).. وكذلك يملك قدرة على الاختزال والتعبير المكثف، ويملك في ذات الوقت حسا رومانسيا عاطفيا شديد التدفق والتأثر، وشاعر بهذه الصفات كان يجب أن يأخذ مكانة أكثر بروزا في المشهد الشعري المصري والعربي، ولكن يطرح السؤال كيف تفاعلت هذه المكونات في الحالة الشعرية عند المنجى سرحان!
أعتقد أن الألم والإحساس المرهف يقف في منطقة روحية ما، إذا ما أطلقت له العنان سوف يستولى على التجربة الشعرية والإنسانية ويظل يطالب بإلحاح في الظهور والتعبير عن ذاته؛ ليطغى على العالم الشعري للمبدع. وأعتقد أن هذه كانت الحالة الشعرية في تجربة المنجى سرحان، إحساسه المرهف وشدة تأثره بالواقع وانكساراته سيطرا على مشهده الشعري بشدة.. نلمح عنده جملة شديدة الرهافة ولكن المشهد دائما يؤرقه الحزن والألم والتعبير المباشر عنهما، المتمثل في الكليات والأفكار المجردة مثل: اللغة العربية، الشعر، الوطن، الحبيبة.. فربما كان للاغتراب والرفض معادلة يجب إبقاءه تحت سيطرتها، وكأن المبدع يجب أن ينفصل عن ذاته أحيانا؛ وينظر لكيفية معالجته وتناوله لحالة الاغتراب والرفض، فضلا عن إصراره عليها، وإلحاحها – بدورها – عليه..
ولكن ذلك التعبير الجياش عن حالة الألم والرفض للواقع وانكساراته وانعكاساته، لم يمنع الحضور الواضح لقدرة الشاعر على التصوير، وكتابة الشعر بأفقه الواسع رغم حضور الهزيمة، فيقول في قصيدة "الوطن":
هكذا مر..
تاركا خلفه الوجع السرمدي
لم يكن منذ أن مرت القافلات
سوى وجل دائم وانكفاء..

ثنائية القرية والمدينة:

ومن العتبات المهمة في عالم الديوان كان حالة البراءة والصفاء التي تمثلها القرية؛ في مواجهة حالة المدينة بتعقيداتها وأمورها المتداخلة، فحضرت المدينة وأبرز تمثلاتها كان مفردة :الشارع التي تدل على الاغتراب والضياع والتجوال والحيرة في عالم المدينة، أما عالم القرية فكان أبرز تمثلاته وأشد رموزه حضورا وقربا للشاعر، ممثلا فى مفردة النخلة التي كانت تعبر عنده عن حالة الانتصار والشموخ والتحقق، وهى الحالة الضائعة والغائبة والمفتقدة والتي انضمت لحالة الألم والتحسر على الحال البادية في الديوان..
فيقول في قصيدة "زفرة" واضعا حالتي المدينة والقرية في المواجهة حيث كان النخيل رمز القرية والانتصار حاضرا:
حين ألقت به الرياح نحو الشمال..
حمل قريته وطنا ونخيلا..
وأحلام سذجها البسطاء
نحو المدينة
تلك التي تتلون.
كما حضر عالم المدينة برمزه الأبرز: الشارع، في قصيدة "صديقي يعبر عامه الخامس والثلاثين"، حيث حالة الضياع والشتات والتجوال، فيقول في القصيدة:
لا تزال الشوارع تحضنه
.. كنا صديقين..
ويقول في موضع آخر: قال: بلادي
ضحكت
وضمت خطانا الشوارع
والناس
والمفترق!
واحتواه الزحام..
ضباب الوجوه.
وتعدد حضور هذه الثنائية عبر قصائد الديوان المختلفة وبحالات وتعبيرات شتى للصراع بين الطيب البريء الحالم ابن القرية والصعيد، وبين عالم المدينة الجامد والجاف والسريع الفارغ من المشاعر والقيم.

ثنائية الوطن و الحبيبة:

تداخل العام والخاص في العالم الشعري للديوان، تداخلت الاختيارات الشخصية مع الواقع والعالم وكان التأثير المتبادل بينهما أحد عوامل وأبنية القصيدة في الديوان، نلمح أثر الاختيار العام للشاعر الفارس والمستقيم في مساره العام وعمله، على المستوى المادي وعلاقة ذلك بالحبيبة الغائبة في قصيدة "شموخ"، التي تداخل فيها العام والخاص بأوضح ما يكون، حين قال:
هل أكتب عن انكسارة الموظف الحكومي..،
وهو يقسم راتبه بالقسطاس على دائنيه..،
أم عن شموخ العاشق..،
الذي يتلصص..،
أم شموخ النخيل المريض بالسوس والإيدز.
كما تداخل العام والخاص (الحبيبة/ الوطن) بشكل آخر أشد رومانسية في قصيدة "شهداء"، والتي نستطيع تأويلها لنقول أنه قدم لنا مشابهة بين شهيد الوطن وشهيد الحب، حين قال:
شهداء ميادين أو
شهداء خطا
لا عليك .. شهيدا
تمر السنون.. وتأتى..،
وهو يطل
وفى كل مجئ..،
إلى شرفة مغلقة بميدان الشهيد
يلتمس بسمتها
والتماعة عينين أوغلتا في الغياب!

وتكررت حالة الغربة عن الحبية وعن الوطن في معظم قصائد الديوان وكانت من مضامينه الرئيسية التى غلبت عليه، وسيطرت على حالة العالم الشعري للمنجى سرحان.

مركزية عالم الشعر:

قد يكون هناك تصوران لكتابة الشعر؛ التصور الذي يستحضر حالة الكتابة وجدواها ويصرح بها في الشعر، والتصور الآخر الذي لا يصرح بمفردات وعالم القصيدة في الشعر، التصور الأول يعبر عن حالة من الوعي وكسر "الإيهام" السحري لدى المتلقي لفكرة عالم القصيدة الغامض والخاص، ويسحب المتلقي أكثر نحو عالم الواقع والصدمة، والثاني يحاول الحفاظ على فكرة خصوصية الشعر ومركزية ما يطرحه من عوالم خاصة يجب أن تطرح مفرداتها ومنطقها الخاص السحري، الذي يأخذ المتلقي لعالم بديل لا يكون واع فيه لفكرة الكتابة والقصيدة.. وكان الشاعر المنجى سرحان بطبيعته الرومانسية المعبرة عن بكائه على أطلال الواقع من أنصار الاتجاه الثاني، فكتب كثيرا عن القصيدة واللغة والشعراء والجدوى والعجز أمام الواقع العبثي، وكان ذلك حاضرا في خلفية غلاف الديوان حين قال:
زمن من دمى يطلع..،
واللغة العربية تحتار..،
كيف تدخل أزمنتي ؟!
أباغتها ..،
تفغر أفواهها دهشة ..،
والشعراء ..،
فوق الشاطئ..،
تدق طبولهم..!
وكذلك تكرر كتابته لعدد من القصائد تحت عنوان: القصيدة، وتكرر ذكره للغة العربية والشعراء وجدوى الكتابة وعجزها أمام الواقع السياسي والاجتماعي المرير.

البنية الشعرية:

نوع الشاعر في قصائد الديوان بين الطول والقصر والحجم المتوسط،، ومن أجمل القصائد الطويلة التي انتصر فيها التعبير والتصوير الشعري على حالة الألم والهزيمة كانت قصيدة "وتقول الحواديت" عن حالة الحب البكر والحالم، وفى القصر جاءت العديد من النصوص عابرة كزفرة ألم، وبعضها جاء رائعا مختصرا مختزلا للكثير من الكلام مثل قصيدة "ليلية" التي جاءت في أربعة أبيات ويقول فيها:
أنت غبت..،
إذن..،
فبماذا تقيس البنات..،
بهاء أنوثتها!
كما استخدم الشاعر تقنية القصائد القصيرة تحت تبويب مرقم (1-2-3-..) وبعنوان عام تحت اسم: قصائد، حيث جاءت واحدة من أجمل هذه القصائد في بداية الديوان بعنوان فرعى: الفراشة، والتي يقول فيها:
تدنو..،
فيخايلها ذهب النار..،
ترقص مشدوهة بالحوار الدافئ..،
وترقص..،
ترقص..،
حتى انطفاء الجناح!!
وجاءت العديد من قصائد الديون في الطول المتوسط مشحونة بحالة الألم والبكاء على أطلال الحال، تكابدها قدرة الشاعر التصويرية في الإعلان والتصريح عن نفسها بقوة وإحساس، مستحضرة العديد من الرموز التراثية والشخصيات التاريخية مثل: الخليفة المعتصم- ديك الجن الدمشقي – الإسكندر- الجازية. وكان الصراع دائرا على أشده بين استحضار الشاعر للماضي التليد الذي كان يشابهه دائما لرمز "النخلة" ( وهى الرمز الأعلى في الديوان للانتصار والشموخ)، وبين وجع الحاضر ومآسيه وعجز الذات أمامه، في ظل سيادة نموذج الإنسان المزيف في الواقع والبلدان العربية وهزيمة مشروعها ببعديه القومي والديني.

الخاتمة:

المنجى سرحان من الأصوات الشعرية التي تملك ناصية اللغة؛ يستطيع بحسن تذوقه أن يصنع تقديما وتأخيرا في الجملة أو يختار مفردة أو بنية جذلة غير مستخدمة، ليلفت انتباهك ويستحوذ عليك.. يقف على أطلال المشهد العربي حزينا متألما، يتحسر على حال الممسكين بالجمر، ويشكو - كحال براءة الريفيين- بنت المدينة الأفاقة، ينادى على شوارع القاهرة فلا تجيبه، يعاتب الصحاب لكن المادة أعمتهم وليسوا في حاجة لعتابه، ينعى دماء شهداء المحاربين التي تحولت لأرصدة بنكية عند تجار السياسية والمنافقين والانتهازية..

المنجى سرحان لديه معادلة خاصة في: الاتصال والانفصال مع العالم، معادلته للاغتراب في حاجة ربما لوقفة ما، معادلة اغترابه ورفضه للواقع وانفصاله عنه، في حاجة لبعض التوجيه والضبط الواعي عند الاتصال والكتابة ومحاولة التواصل مع مفردات العالم مرة أخرى، بين الألم والتصريح به، بين والتعبير عنه وتصويره..
ولكن ربما كانت تلك المعادلة الخاصة التي تقدمها لنا حالة اغترابه، هي سر خصوصية تجربته! ربما! هي احتمالات واختبارات للوجود الإنساني المبدع والمحلق والسحري، نتواصل معها ونتجاور، ونطرح بعض الرؤى والأحلام والأماني.














التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف


.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل




.. فيلم ولاد رزق 3 بطولة أحمد عز يقفز لـ 193 مليون جنيه منذ طرح