الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كلمات عن الاناركية

الاخضر القرمطي
(William Outa)

2013 / 3 / 23
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم


كلمات عن الاناركية
التقليد السائد لأطياف واسعة من اليساريين السلطويين- الماركسيين والاجتماعيين الديمقراطيين- كما من اليمينيين على أنواعهم ما زال يقيم صلة بين الاناركية من جهة وبين اللاعقلانية والفوضى والتخريب والرومانسية الثورية من جهة اخرى، وهي صلة تريدها هذه الأطياف أن تكون صلّة علاقة ضرورة، بمعنى أن الأناركية-ولو صدقت نوايا الاناركيين في عدائهم للرأسمالية- ليست سوى رديف للفوضى أو لغياب الرؤية والبرنامج الثوري لصالح مجموعة من "النزعات" التمردية الفردية او الجماعية التي تتفجرّ بلغةٍ خطابيةٍ جذّابة ولكن سرعان ما تنطفىء وتزول حالما تزول اسباب تلك النزعات او الميول او المشاعر؛ يأخذ الماركسيون-دعاة بناء الدولة التشاركية- على الأناركية بأنها ليست سوى نظرية البرجوازية الصغيرة اليائسة من الواقع والمنكفئة على نفسها ولكن وفي الآن عينه المتمردة على واقعها، والاناركية بهذا المعنى ليست نظرية ثورية للطبقة العاملة بقدر ما هي نظرية تمرّد البرجوازيين الصغار، وهي بهذا المعنى ليست ثورية وتمتلك برنامجها الخاص ورؤيتها للمجتمع البديل بقدر ما هي حركة رفض للحاضر، حركة تقترب من العدمية والعبث. يؤخذ على الأناركية غياب أدواتها المعرفية من أجل قراءة الواقع ومن ثم تحويله، فهي تجنح-بحسب الماركسيين- نحو المنطق المثالي والتحليل الشكلي للواقع، ويغيب عن جهازها المعرفة المفاهيم الاقتصادية للطبقة ولنمط الانتاج ولعلاقات الانتاج، وهي ليست بهذا المعنى مادية جدلية بل اقرب الى التجريبية والوضعية. إن عداء الأناركية يأتي من اليمين كما من اليسار وكأنما الأناركيون هم أعداء الجميع! ولا ريب ان عداوة التيارات السياسية كافة للأناركية لا تنشأ فقط من موقف سياسيّ بل أيضًا من الفهم الملتبس للأناركية، وهو فهم لا يقتصر على أعداء الأناركية بل يتعداه إلى من يصف نفسه بأنه أناركي.
سنحاول في ما يلي توضيح بعض الالتباسات حول الاناركية كنوع من الرد على منتقدي الفكر الاناركي مفنّدين بالتحديد دعاوى الماركسيين السلطويين أو دعاة الدولة الاشتراكية.
الأناركية: فلسفة حياة وطريقة تفكير
على العكس من الماركسية التي تنتسب بالأصل إلى مفكّرٍ واحد (ماركس) و التي تميل إلى كونها فلسفة أكاديمية تُعلَّم (قوانين الجدل المادي-مفاهيم إجتماعية-اقتصادية...) وتمتلك رؤية شمولية الى العالم الطبيعي والإجتماعي، فإن الأناركية تنتسب في بناها الفكرية والعملية إلى تجارب عدد كبير من الفلاسفة والمفكّرين (منذ ديوجين الكلبي إلى المفكرين الاناركيين الحديثين والمعاصرين) كما إلى تجارب المجموعات البشرية عبر التاريخ في محاولة إدارة شؤونها الذاتية بيدها بدون الحاجة إلى وسيط يعلوها كالدولة أو اي جهاز قمعي آخر. ومن الملاحظ أنّ مفكري الأناركية الحدثين والمعاصرين لم يدّعوا انّهم أتوا بنظرية أو بفلسفة جديدة-كما قال هيغل أو ماركس أو فيبر مثلاً- بقدر ما اعتبروا أنفسهم منتمين إلى مجموعة من الممارسات والأفكار يعتقدون انّها كانت موجودة منذ القدم : المعونة المتبادلة، والاشتراك التطوعي في الجمعيات والتنظيمات السياسية وغير السياسية، والأنصبة المنصفة في عملية صنع القرار على اساس تشاركي ولامركزي يحفظ حق الافراد والجماعات، كما نبذ الدولة كأعلى جهاز للسلطة ورفض كل أشكال العنف الهيكلي والتراتبي، وعدم المساواة، والسيطرة والقمع. وهكذا يعتقد الأناركيون عموما أن البشر -كأفراد أو كجماعات- قادرون على إدارة شؤونهم بأنفسهم –ولو في نطاقات ضيّقة كبداية- على أساس الإبداع، التعاون، والاحترام المتبادل، ، العمل المباشر، وخلق البدائل بالاستناد ايضًا الى أسس أخلاقية تستند على رعاية الآخرين ورفاهية المجتمع وإحترام حقوق الافراد، وليس بناءًا على قوانين تفرضها اي سلطة قانونية أو دينية بطريركية تحتكر العنف وتقوم على القسرِ والإكراه، وتعتبر نفسها القادرة على قيادة المجتمع وتوجيهه بما يتلاءم ومصالح أفراده أجمعين أو طبقة منهم. وعلى هذا الأساس، لا يُمكِن إعتبار الأناركية أيديولوجيا – نسق مكتمل من الأفكار الجاهزة والمنظمّة- أو مذهب سياسيّ –إجتماعي أو حتّى فلسفة نظرية نسقية التكوين والبناء، ولو انّه يمكن تصنيفها إلى حدٍ ما بكونها نوع من إيمانٍ (أو فلسفة حياة وممارسة) بإمكانية إنهاء – أو كخطوة أولى تقليص- كل أشكال السطان والقهر والتراتبية والمركزية في العلاقات السياسية والاقتصادية والإجتماعية و"البين فردية "و الفكرية، من اجل تحقيق الحرية الإنسانية – حرية للأفراد- في مجالٍ هو أبعد من أي أيديولوجيا ممكنة.
ما ذكرناه سابقًا عن المبادىء الجوهرية التي تجمع الأناركيين يجعلنا نستبعد بديهيًا تلك المقول التي ترى في الأناركية دعوة إلى الفوضى بالمعنى التهديمي المحض للكلمة، أو بمعنى الدعوة الى نشر الخلل في المجتمع من اجل تدميره فحسب. وقد تكون لغة بعض الأناركيين هجومية في أحيانٍ كثيرةٍ وفيها نستبطن دعوة إلى هدم المجتمع القائم، إلاّ انّ هذا الهدم ليس مطلوبًا بحد ذاته بل هو آلية لمواجهة كل نظام يقوم على القمع والتراتبية وتمركز السلطة القانونية وعلى اشتداد السلطات الأخرى (دينية-حزبية-تربوية-اُسرية-جنسانية..). فالفوضى إن استُعمِلت ليست سوى دعوة إلى الهدم وإسقاط "السيستام" وليست ابدًا دعوة إلى التخريب وعبث إلى أجلٍ غير مسمّى.
إلاّ ان هذه المبادىء الجوهرية الجامعة للأناركية لا تخفي ابدًا الإختلافات والتمايزات-التي قد تصل الى التناقض الفاضح- بين مختلف التيارات الاناركية وبين مختلف الاناركيين. وهي إختلافات لا يمكن إلاّ ان تظهر بإعتبار أن الأناركية ليست مذهبًا أو أيديولوجيةً وبالتحديد لأنها ليست منفصلةً عن المجتمع التي نبتت فيه وعن الأفراد الّذين يحملونها بفكرهم وبممارساتهم. وهكذا نجد حقلاً واسعًا من التيارات الأناركية – وبعضها لا يُطلِق على نفسه هذه التسمية- تبدأ بالأناركية الفردية Individualists لتنتهي بالأناركية الشيوعية (الاشتراكية التحررية) أو الأناركية المجتمعية، مرورًا بالأناركية النسوية، وبتلك البيئية (الخضراء) أو بالأناركية البدائية (معاداة التقنية والمجتمع المعاصر)، كما نجد أنصار التسيير الذاتي ، أنصار الديموقراطية المباشرة والمشهديين (انصار التيار الموقفي) و النقابيين الأناركيين ،والانتفاضويين ، والبرنامجيين ، والتعاونيين ، والمجالسيين .... وهكذا دواليك، وكثيرًا ما تتداخل هذه التيارات بحسب الواقع المفروض على مجال ممارستها. ونلاحظ هنا بالنسبة الى تسميات التيارات الاناركية المختلفة انّها لا تنتسب الى اسم مفكّرٍ ما كما في التيارات الماركسية
حيث اللينينية والتروتسكية والماوية والستالينية والألتوسيرية او حتى الكاستروية والغيفارية ..الخ، بل ان تسمية هذه التيارات تنطلق من رؤيتها الى الممارسة النضالية والى كيفية تسيير المجتمع والاقتصاد، وفي ذلك دليل اضافي على عدم انتماء الاناركيون الى تيار فلسفي أو الى ايديولوجيا بل إلى رؤية مبنية على الممارسة العملية (يقول كروبوتكين مثلا، "الأناركية نشأت من النضال اليومي والحركة الأناركية تجددت في كل وقت من بعض الممارسات العملية العظيمة: آخذة أساسها من قواعد الحياة نفسها") ؛ ولهذا السبب ايضًا نلاحظ مثلاً ان التراث الفكري الحديث والمعاصر للأناركية لا يغرق كثيرًا في الخلافات والنقاشات ذات الطابع الفكري او النظري أو المفاهيمي الفلسفي بل ان النقاش والجدل يتحوّل إلى معالجة امور من طبيعة عملية: لا يهتم الاناركيون الجماعيون الاشتراكيون مثلاً بالسؤال حول هل ان فئة الطلاب هي فئة ثورية أو رجعية بقدر ما ينظرون الى وضع الطلاب كفئة اجتماعية في سياقٍ تاريخي وفي واقعها الملموس؛ وحول سؤال الاغتيال السياسي وشرعيته لا يطرحون القضية بشكلٍ مجرّدٍ بقدر ما يضعونها في سياق مدى فعاليتها أو عدمها في هذه اللحظة او تلك. وبالنسبة للأجيال الجديدة من الأناركيين المعادين للرأسمالية فإن ميادين العمل ومجالات تحقيق اشكال من التسيير الذاتي والديموقراطية المباشرة وخلق جماعات مقاومة و شبكات عمل لا تقتصر على حيّز الطبقة العاملة او على الفلاحين بل تتعداها إلى تجمعات وميادين مختلفة : في حلقات العاطلين عن العمل، والاقليات العرقية ، وبين السكان الاصليين (كما بالنسبة للحركة الزاباتستية)، والتجمعات الطلابية والنسائية وفي النضال الأيكولوجيّ والجنسانيّ...وهم في نطاق عملهم هذا يتبنّون المنهج التحليلي الملاءم من اجل فهم الواقع بشموليته وبجزئياته، ولذلك كثيراً ما يستعين الاناركيون بادوات التحليل الماركسية (التحليل الطبقي) والاجتماعية النقدية (نظريات النقد الإجتماعي) والانتروبولجية وبأدوات التحليل النفسي الفرويدي وغيره...ال ما هنالك من أدوات معرفية تشرّح الواقع وتفسّره، ولكن من دون ان يتمّ تبنّي وجهة نظر واحدة بإعتبارها القادرة على الإحاطة بالواقع بكافة تفصيلاته وبشموليته على حدٍّ سواء.
الاناركية: ما هو أبعد من معاداة الدولة
الدولة ووظائفها
ما هي الدولة؟ تعريفاتٌ كثيرةٌ قُدّمت من اجل توضيح مفهوم الدولة وماذا يعنيه. وبالرغم من التمييز بين أشكال الدول: ديكتاتورية-ديموقراطية-دولة رفاه-استبدادية، أو أنواع: تقليدية-اقطاعية-حديثة-رأسمالية..الخ إلاّ ان هناك خيوط مشتركة تجمع بين كل هذه الأشكال وتسمح لنا بإستخلاص تحديدٍ لماهية الدولة، وعليه يُمكِن القول ان الدولة هي:"الجمعية-او التجمّع- السياسية الأكبر الممثلة لفئةٍ أو طبقةٍ من المجتمعِ والتي تؤسس لسلطةٍ قانونية مُلزِمة ذات سيادة تؤسس على أساس دستوري وتشريعي، وهي الّتي تحتكر العنف المشرّع له بكافة أشكاله ضمن حدودٍ جغرافيةٍ محددة تاريخيًا تبسط عليها سلطاتها عبر مؤسسات متنوعة ذات استمرارية ". وعلى هذا الأساس يُمكن القول ان الدولة تهدف من اجل تأكيد حضورها ومواصلة استمراريتها إلى ضمان إمتثال المواطنين إلى القوانين المُلزمة ويتمّ ذلك إمّا عبر التهديد بإستخدام أشكال مختلفة من العقوبات القانونية "المعنوية" (الضرائب مثلاً) او "الجسدية المادية" (العنف المباشر-السجن..الخ). وإن الدولة الحديثة وبالتحديد الرأسمالية تحافظ دومًا على ضمان إمتثال المواطنين إلى قوانينها عبر مؤسسات مستقلّة نسبيًا عنها إلاّ انها تُعتبَر جزء من الدولة مثل مؤسسة العائلة والمؤسسات الدينية والمؤسسات التربوية والوسائل الإعلامية، وهي كما يقول لويس التوسير الأجهزة الأيديولوجية للدولة التي تحاول ضمان إستمرارية النظام الرأسمالي. ويتفّق معظم المؤرخين على انّ الدولة بمفهومها الحديث قد بدأت بالظهور منذ بدايات تفسّخ النظام الإقطاعي الأوروبي وقد ترسّخت مع ترسّخ الرأسمالية وتعميم نمط الإنتاج السلعي. والحال هذه لا يُمكِن التكلّم عن دولةٍ اليوم إلاّ بكونها حامية الملكية الخاصة أو اي شكل آخر من الملكية كما حصل في الدول التي سُميَّت إشتراكية حيث حمت الدولة كافة أشكال الملكية وبالاخص الملكيات المؤممة. والدولة – كل دولة- إذ تمثّل فئة أو فئات إجتماعية معيّنة تحاول كمجموعة سياسية المحافظة على مصالح هذه الفئة أو الفئات عبر تحقيق آلية توافق فيما بينها قائمة على أساس المساومات والتنازلات ولكن ايضًا عبر الهيمنة والسيطرة من قبل فئة على فئة أخرى، فلا يُمكِن والحال هذه ضمان استمرارية الدولة إلاّ بضمان هيمنة فئة إجتماعية-ضمن الدولة وبالتالي خارجها- على الفئات الإجتماعية الأخرى. وفي الدولة الرأسمالية الحديثة تُهيمن فئات من البرجوازية على فئات أخرى، كما تقوم هذه الفئات مجتمعةً بتحقيق سيطرتها على الفئات او الطبقات المضادة لها. وفي الدولة الإشتراكية المتحققة (كما في الاتحاد السوفياتي السابق) هيمنت على مفاصل الدولة فئة واسعة من البيروقراطية ومن رجالات الصف الأول في الأحزاب الشيوعية، وهو الامر عينه الّذي حدث في الدول –في ما يُسمّى "العالم الثالث" او "الدول النامية" أو "في طور النمو"-التي هيمنت عليها فئات من البرجوازية الوسيطة او الصغرى (العسكر) او الكومبرادور (والتي تحوّلت لاحقًا بفعل النهب وسياسات الخصخصة إلى برجوازيات كبيرة).
في الفكر السياسي التقليدي- يمينًا ويسارًا- يُنظَر إلى الدولة بإعتبارها الضامن الأول للنظام الإجتماعي والسياسي والاقتصادي، كما للإستقرار الأمني والقادرة على حماية الحريات الفردية والجماعية، عدا عن كونها قادرة على خلق شروط تحسين الأحوال الاقتصادية والسياسية للطبقات الإجتماعية كافةً، في رؤية لا ترى إلى التغيير الجدّي إلاّ "من فوق" عبر الدولة، ولا ترى أن بإمكان جماعات إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية أن تؤسس شروط حياتها الحقيقية خارج منطق وجود وضرورة الدولة. القراءة الماركسي الشائعة مثلاً تعتبر أن الدولة (الاشتراكية) هي القادرة على خلق الشروط الإقتصادية المناسبة لمصالح الطبقة العاملة في المرحلة الإنتقالية (مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا) وأنّه لا يمكن الإنتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية إلاّ عبر الدولة-رغم انها جهاز طبقي وآلة قمع طبقيّ- التي ستعمل على توفير بنية تحتية جديدة مناسبة(وبالتالي فوقية) من أجل تجاوز البنية الرأسمالية السابقة. الدولة بهذا المعنى، هي الجهاز الأعلى والأقوى في المجتمع، ووجودها ضروري و"طبيعي" من اجل نقل البنية الإجتماعية والاقتصادية والسياسية من مرحلة إلى اخرى أو من شكل إلى آخر، ومُطلَق تصوّر آخر لا يأخذ هذا الوجود بضرورته لا بدّ له أن يجنح إلى المثالية أو الفوضى، وهو تصوّر "غير واقعيّ" بتاتًا، مُغرَق في "الرومانسية"، وهذا الكلام لأنصار الدولة يُشبِه كلام مفكّري وفلاسفة الأنظمة الملكية والإمبراطورية السابقة الّذين اعتبروا أن اطروحة الدولة الجمهورية أو الديمقراطية هي اطروحة تؤسس للفوضى وللحرب. لذا يتبيّن اليوم إن هؤلاء المفكّرين اليمينيين واليساريين أنصار الدولة يريدون-دون أن يدروا بالضرورة- الحفاظ على الوضع الراهن بتعميم فكرة أن اي شكل جديد للمجتمع سوف يقود فقط للفوضى وللدمار.
الإحتجاج الأناركي على الدولة
تعترض تيارات الفكر الأناركي على الدولة إنطلاقًا من الأسباب التالية:
1- الدولة كمجموعة سياسية تحكم المجتمع وتسيّره لا يُمكِنها في نهاية المطاف إلاّ أن ترتكز على القوّة والعنف-عنف مباشر أو غير مباشر ، "مادي" او "رمزي"- بالأخص في اللحظة التي ترى نفسها مهددة بخطر خسارة إمتيازاتها أو بالتحديد إمتيازات الطبقة او الفئة التي تقود الدولة وتهيمن عليها. إن تجربة كل الدول في التاريخ تؤكّد هذه المقولة، ولا يقتصر الأمر على الدولة الديكتاتورية أو الاستبدادية والشمولية (كما في معظم دول "العالم الثالث" وفي الاتحاد السوفياتي و"الانظمة الشيوعية" والنازية والفاشية) بل حتّى تلك الدولة الأوروبية الديموقراطية الحديثة والمعاصرة ("دولة الرفاه" او "الدولة الإجتماعية الديمقراطية" أو "الدولة الليبرالية") تستند في تأكيد ديموتها على القوّة والعنف :1-العنف العسكري الخارجي (بعد ان كان داخليًا قبل الحرب العالمية) عبر غزو وإحتلال الشعوب خارج القارة الاوروبية والولايات المتحدة (الناتو- دعم إسرائيل والأنظمة القمعية-نهب الموارد الطبيعية-دعم الحروب...)، 2-العنف الإجتماعي الداخلي عبر سياسات التمييز الطبقي، وفرض نمط إقتصادي أوحد، وعبر آليات الفصل العنصري والاستبعاد المجتمعي على اساس العرق والدين وخلق "غيتوهات للأجانب وللفقراء" في الضواحي والمناطق المهمّشة؛ 3-العنف الرمزي عبر الأجهزة التعليمية والإعلامية ومحاولة خلق بنية ذهنية واحدة وحيدة وأيديولوجيات قائمة على "تدجين" الأفراد وصنع نماذج فردية إجتماعية مغتربة ورغبات إستهلاكية قائمة على "الصنمية" و"التشيوء" بما يخدم آليات السوق الرأسمالي.
2- كما ان الدولة تقوم على الهرمية المركزية، وهي هرمية-تبدأ من فوق إلى أسفل- مبنية على إحتكار قلة من الأفراد الحاكمين مجموعة من الإمتيازات غير المبررة على حساب أكثرية من المحكومين؛ وهرمية الدولة-الشكل الأعلى للهريمة والتراتبية- صورة تعكس الهرمية والتراتبية الموجودة في المجتمع-وجذرها الملكية الخاصة والرأسمالية- والتي تجسّد السلطة القهرية بكافة وجوهها. وبهذا المعنى يُمكن تكرار قول باكونين: "طالما الدولة الموجودة فسيادة طبقة على طبقة ستبقى موجودة و النتيجة ستكون العبودية . فدولة دون عبودية هو أمر خيالي لذلك نحن ضد كل دولة."
3- الدولة ،بالنسبة للاناركية، تسحق الفرد والحرية الفردية. ينادي الأناركيون بالحرية الفردية وبمجتمع أفراد احرار، حيث لا يُمكن للفرد أن يكون حرًا، اذا ما كان خاضعًا لدولة كما لا يمكنه ان يكون فردًا حرًا حيث يخضع لشروط الرأسمالية وللسلطات القهرية التي تؤسسها. والحرية بالنسبة لمختلف الاناركيين-فردانيين او جماعيين- هي القيمة الأعلى، وهي ليست مفهومًا ميتافيزيقيًا بل ممارسة وشعور ، وحرية الفرد بهذا المعنى -وبالتالي توسّع قدراته وإبداعاته- تعارض كل بنية إجتماعية أو اقتصادية او سياسية تقوم على الهيمنة والتراتبية والعنف والتمييز، وكل الدول مهما تغيّر شكلها وتبدّل تناقض حرية الأفراد وتقمعها، وتعارض الرغبات الفردية المنطلقة وتكبها وتحوّلها إلى ما يخدم إستمرارية المنظومة الاجتماعية القمعية بكليتها.ويقول تشومسكي في محاولته رسم البديل الأناركي انّ "اي تفاعلات بين البشر في مستوى أعلى من التفاعلات الشخصية – بمعنى التفاعل الّذي يتخذ اشكال مؤسسية من نوع او اخر – في المجتمع المحلي، او في مكان العمل، او في العائلة او في المجتمع الاوسع، مهما يكون شكله، يجب ان يخضع هذا التفاعل للسيطرة المباشرة للمشاركين فيه. وبالتالي، الامر يعني إنشاء مجالس العمال في الصناعة، وإقامة الديموقراطية الشعبية في التجمعات السكانية المحلية، والتفاعل بين هذه الاشكال، وإنشاء جمعيات حرة للجماعات الاكبر، حتى نصل الى تنظيم المجتمع الدولي ذاته ".
يبقى أن نشير في خاتمة كلامنا إلى أن نقاط قوّة الاناركية هي نفسها نقاط ضعفها: الدفاع عن الحرية الفردية كثيرًا ما يجنح صوب التجريد والمثاليةِ، معاداة الدولة وإلغاؤها يطرح قضية المرحلة الإنتقالية من الدولة إلى اللادولة، ومعاداة التقنية بالنسبة لبعض التيارات الاناركية يثير إشكالية حول مدى "واقعية" العودة إلى نمط الحياة "البدائي"...وهذه قضايا لنا عودةٌ إليها في مقالات أخرى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بشكل طريف فهد يفشل في معرفة مثل مصري ????


.. إسرائيل وإيران.. الضربات كشفت حقيقة قدرات الجيشين




.. سيناريو يوم القيامة النووي.. بين إيران وإسرائيل | #ملف_اليوم


.. المدفعية الإسرائيلية تطلق قذائف من الجليل الأعلى على محيط بل




.. كتائب القسام تستهدف جرافة عسكرية بقذيفة -الياسين 105- وسط قط