الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


2000 رطل / براين ترنر

حيدر الكعبي

2013 / 3 / 24
الادب والفن


2000 رطل


براين ترنر


ساحة آشور، الموصل



الحكاية ببساطة تبدأ بقبضة يد متوترة
ذات مفاصل ناتئة بيضاء تلتمع بالعرق.
وبعينين في مرآة السيارة تراقبان موكباً عسكرياً.
فيما تشكل ضوضاء المذياع موسيقى خلفية أخرسها الأدرنالين
وأبدلها بوجيب القلب،
وقد راح إبهام اليد يرتجف فوق الزر.

طيران من الذهب، ذلك ما يفكر به (صفوان) الآن،
وهو يشعل سيجارة (مايامي) ويسحب دخانها،
وينتظر في سيارة أجرة قرب فلكة المرور.
إنه يفكر في عام 1974
حين كان يرفع الحبوب بالمذراة عالياً في الهواء
ويتأمل تساقطها البطيء مثل انهمار شعر (شذى)،
(شذى) التي مازال يحبها
رغم عشرات السنين التي تفصلهما الآن،
مازال يتذكرها واقفة في أجمة الخيزران،
حيث تبترد الجواميس غاطسة في الماء الى الأكتاف،
مازال يتذكر سعادتها بأكواب الأزهار البرتقالية التي جلبها لها،
لكنه يأسف لكثرة ما في الحياة من أخطاء،
وللسهولة التي تتسرب بها السنوات خفيفة كالحبوب،
براقة كارتجاج المعادن في الشارع
فيما تسافر الشظايا نحوه بسرعة الصوت
لتصنع فتحة واسعة في جسده، فتجري دمه وتصعقه،
إنه رجل آخر دارت أفكاره الأخيرة حول الحب والخراب،
ولم يكن قربه أحد ليهمسَ موته.

العريف (ليدويكس) من الحرس الوطني
يتحدث ولا يسمع الكلمات التي تصدر عنه.
فمن حسن حظه أن طبلتي أذنيه قد تمزقتا
فلقد أضفى ذلك على الدنيا بعض الهدوء،
مع ان فلكة المرور قد اكتظت بالناس الراكضين في ارتباك،
سيقانهم أشبه بالغشاوة،
أو أشبه بالخيول الخشبية في دواليب الأطفال،
يدورون ويدورون كعجلات عربة الهمفي
التي انقلبت على جانبها،
أما موضع الرامي الذي انقذف هو منه،
فقد أصبح لغزاً الآن،
أصبح ثقباً مظلماً في معدن بلون الرمل،
ولو استطاع لعاد إليه زحفاً، ولدخل فيه،
لكنه فقد القدرة على الحركة،
رغم أنه راح يحك الأسفلت بأطراف أصابعه.
لقد مزقت الشظايا قفص أضلاعه
ولن تمضي دقائق حتى يكون قد نزف حتى الموت،
إلا أنه وجد نفسه فجأةً محاطاً بجمالٍ غريب،
بإشراقة نور تطل على الحطام،
شَعَرَ بيد امرأة تلمس وجهه بحنان
كأنها يد زوجته،
وكأنها تعجب أن تكتشف خاتم زواجهما في يده المهشمة،
وأن ترى الذهب البراق يغطس في اللحم
في طريقه الى العظم.

يمر رشيد بمحل تجهيزات الأعراس
على دراجة هوائية، وبصحبته صفاء،
وقبيل أن يتجعد الهواء ويتكسر
يلمح انعكاس الرصيف على زجاج واجهة المحل،
يلمح نساءً ورجالاً يمشون ويتحدثون،
أو ربما لا يمشون ولا يتحدثون،
لكنه يراهم بوضوح في لحظة خاطفة،
قبيل أن يتبعثر شملهم في زوبعة الانفجار،
حتى أن صورتهم في ذهنه قد دمرت،
قد جردت من الشكل،
الانفجار يمزق تمثالين من الجبس
يمثلان زوجاً وزوجته
كانا يقفان منذ هنيهة دون أن يتلامسا،
يهمان بالتقبيل فيعجزان عنه،
وها هما الآن يرقدان بين الزجاج والأنقاض،
ويتعانقان بأذرع مبتورة،
هل نسمي ذلك حباً،
مادام هذا هو كل ما سنجنيه؟

الملازم (جاكسون)، ضابط الشؤون المدنية،
يحملق في يديه المقطوعتين،
فلا يجد معنى لذلك، لا يجد معنى على الإطلاق،
أن يلوّح في الهواء ببقايا الذراعين العبثية هذه،
وكان منذ لحظة واحدة ينفخ الفقاعات
من نافذة الهمفي، يده اليسرى تمسك الزجاجة،
واليمنى تغمس حلقة البلاستك في الصابون،
مالئتين الهواء خلفهما بكريات طافية،
كأثر الأوكسجين الذي يخلفه الغواصون،
شيء مُسَلٍّ للأطفال، شيء جميل،
نفاخات صغيرة بجلدة قزحية الألوان،
تنجرف مع دخان عوادم السيارات
ومع النسيم الذي قد يرتفع ذات يوم فوق جبال زاجروس،
نوع من الأمل،
كريات ربما أثارت دهشة المارة على الرصيف،
ولكن ما هي إلا سبع دقائق حتى يفقد الملازم (جاكسون) وعيه،
بسبب الصدمة والنزيف،
وليس ثمة أحد ليضمد الجراح التي ستأخذه الى البيت.

في الجوار امرأة عجوز تحتضن حفيدها
تهمس له وتهزه فوق ركبتيها
كأنها تهدهده لينام،
يداها مبللتان بدمه،
ثوبها الأسود مشرب بدمه،
فجأة تنهار ساقاها تحتها
فتلتحم بالطفل على الأرض،
لو كنتَ سألتها قبل أربعين عاماً
عما إذا كانت تصدق أنها ستجد نفسها ذات يوم
عجوزاً تستجدي على الرصيف
هنا، حيث تنفجر قنبلة في السوق
بين كل هؤلاء الناس
فلربما أجابت بالقول: "أن يتحطم قلب الإنسان قبل أن يموت،
أن يتحطم مرة أخرى ونهائية،
أن تقبِّل طفلاً سُمح له أن يطل على الحياة
ولم يسمح له أن يعيشها— كلا!
من المستحيل أن نموت هذه الميتة."

أما الرجل الذي ضغط على الزر،
والذي ربما كان قد انتخى بالنبي،
وربما لا— فلقد امَّحى من الوجود وهو في بؤرة الزلزال.
إنه الآن في كل مكان، إنه مصنوع من كل شيء،
إن لمسته هي الهواء الذي نستنشقه،
إن صوته هو الوجيب المتسارع للقلب في تدافع الذعر،
في تدفق الدم الباحث عن النور واللون،
في الصرخة التي يطلقها الشهيد
مفعمة بعبارة "إن شاء الله،"
العبارة التي جُبلتْ منها روحُه.

ومازال سلك التلفون المقطوع يتدلى في الهواء في ساحة آشور
مبتوراً في منتصفه، مصدراً ضوضاء غريبة
مثل تعويذة ينصت لها الموتى،
وهم يتجولون مرتبكين مختلطين بعضهم ببعض،
متعرفين بعضهم على البعض،
محاولين أن يخففوا وطأة الحزن عن الأحياء،
وأن يواسوا أولئك الذين لا يستطيعون
أن يتقبلوا مثل هذا الألم العشوائي،
مرددين برقة: "حبيبي، حبيبي،" يقولها الواحد للآخر
هناك بين الخرائب والأنقاض، "حبيبي، حبيبي،"
مراراً وتكراراً، لكي لا تُنسى.





* ذكر الشاعر في حفل ألقى فيه هذه القصيدة أنه بعد زمن من نشرها عرف أن وزن العبوة الناسفة التي تدور حولها كان 800 رطل لا 2000. ولكن القصيدة نشرت ولم يعد بإلإمكان تصحيح الخطأ. وأدناه الرابط للحفل المذكور:

http://www.youtube.com/watch?v=_j0caITUtXc



برايَن ترنر ولد في كاليفورنيا عام 1967. حصل على الماجستير بالفنون الجميلة من جامعة أوريغون قبل أن يلتحق بالجيش الأمريكي. أمضى عاماً من خدمته العسكرية (ابتداء من تشرين الثاني 2003) يقود حضيرة مشاة في العراق. قصيدة "2000 رطل" مأخوذة من مجموعته الشعرية الأولى (هنا، أيتها الرصاصة)، الصادرة عام 2005، والتي حظيت باهتمام ملحوظ من قبل الأوساط الأدبية ومنح من أجلها جوائز وزمالات عديدة. مجموعته الثانية (ضجيج الفانتوم) صدرت عام 2010، وهي الأخرى تحوي قصائد مستوحاة من تجربة الشاعر في العراق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل