الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السودان والقرار 1593: مَن يتذكّر رادوفان كراجيتش؟

صبحي حديدي

2005 / 4 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


عبثاً ذهب ذلك الهتاف الذي بُحّت به حناجر عشرات الآلاف من السودانيات والسودانيين: «تسقط... تسقط الأمم المتحدة!»، لا لأنها لن تسقط بتأثير أيّ هتاف حتى إذا شقّ عنان السماء فحسب، بل أوّلاً وأساساً لأنّ الأمم المتحدة لم يكن لها حول أو طول في صياغة القرار 1593 القاضي بإحالة المتهمين بجرائم حرب في إقليم دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية. صحيح، بالطبع، أنّ القرار صدر عن مجلس الأمن الدولي التابع (نعم!) للأمم المتحدة، ولكن... هل يجهل أهل السودان كيف يشتغل ــ ومَن يشغّل ــ مجلس الأمن ذاك؟
وكالات الأنباء قالت إنّ الأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، سلّم المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية «لائحة مختومة» تتضمن أسماء 51 من «مجرمي الحرب» المزعومين هؤلاء، تتضمّن بالطبع عدداً من كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين والعسكريين في الحكومة السودانية. ذلك يفسّر تلك الأيمان الغليظة التي استخدمها الرئيس السوداني عمر البشير أمام الجموع، حين أقسم بالله العظيم ثلاثاً أنه لن يسلّم أيّ مواطن سوداني للمحاكمة في الخارج. لم تغب عنه، إلى ذلك، ضرورة تذكير السودانيين بما لم يكونوا يعرفونه على الأرجح، بعد القسم بالله هنا أيضاً: «نحن والله أقوى من أمريكا»!
فلندع جانباً، بادىء ذي بدء، حقيقة أنّ الولايات المتحدة أفلحت في ابتزاز فرنسا وإجبارها على استثناء المواطنين الأمريكيين من أية ملاحقات قانونية أمام المحمة ذاتها، التي لا تعترف بها واشنطن أصلاً. ليس هذا بالجديد الذي يستدعي ثورة الغضب أو مشاعر الغبن أو استدعاء تلك البلاغة التي أكل الدهر عليها وشرب، حول الكيل الأمريكي بمكيالين أو عشرة أو مئة. وينبغي، استئناساً بالحال ذاتها، عدم استيلاد بلاغة جديدة مماثلة حول هذه السابقة الأولى منذ تأسيس المحكمة قبل ثلاث سنوات يتيمة، إذْ لا بدّ من سابقة أولى في كلّ حال، وليس من المألوف أو الممكن أو المنتظَر أن تأتي تلك السابقة من الدولة العبرية مثلاً، أو من معتقل غوانتانامو أو سجن «أبو غريب»!
وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس هي التي أفصحت عن جدلية هذه السابقة بالذات، حين اعتبرت أنّ السودان يمثّل «حالة خاصة». لماذا؟ وذكّرت رايس العالم بأنّ سلفها كولن باول (الحمائمي، للتذكير!) هو الذي استخدم مصطلة «إبادة جماعية» لوصف ما يجري في دارفور. كذلك قالت، دون أن تتبنى المصطلح تماماً: «أياً كان مسمّي هذه العمليات، فمن الواضح أنّ هناك جرائم ضدّ الإنسانية ارتكبت في السودان، وأنّ هناك مَن يجب أن يتحمّل المسوولية عنها».
.. شريطة استثناء أيّ وكلّ مواطن أمريكي بالطبع! لا نعرف تماماً كيف استطاع الرئيس الفرنسي جاك شيراك ابتلاع مهانة كهذه، ولكن من الواضح أنّ هذا تحديداً كان ثمن تمرير واشنطن لقرار لم تكن متحمسة له في الأساس. ومنظمة حقوق الإنسان الأمريكية «هيومان رايتس واتش»، التي كانت الأكثر حماساً لاستصدار هذا القرار، أعلنت أنها «ترفض بقوّة الثمن الذي فرضته الحكومة الأمريكية. إنّ ما فعلوه من قبيل الإبتزاز، واستخدموا شعب دارفور للحصول على ما هو غير مقبول في نظرنا»!
ليست هذه هي المرّة الأولى، لمعلومات ريشارد بيكر ممثّل المنظمة وصاحب التصريح أعلاه، التي تلجأ فيها واشنطن إلى توظيف مأساة البشر في إقليم دارفور لصالح أغراض خفيّة في أجندة خافية. وعلى سبيل المثال، نحن حتى هذه الساعة لا نعرف لماذا ــ هكذا بغتة! ــ قرّرت الولايات المتحدة نسف اتفاق تموز (يوليو) 4002 بين الحكومة السودانية والأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان، والذي منح الخرطوم ثلاثة أشهر لتجريد الميليشيات من السلاح؟ ولا نعرف لماذا ضغطت واشنطن آنذاك لاستصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يختصر المهلة إلى شهر فقط، مع أنّ الجميع على علم تامّ أنّ هذا الطلب أكثر من تعجيزي بالنسبة إلى حكومة مُقعدة مُعاقة؟
ودون التقليل البتة ممّا جرى ويجري من فظائع، يعرف الكبار في نادي «المجتمع الدولي»، أمريكا وفرنسا وبريطانيا خصوصاً، أنّ «الإبادة الجماعية» أو «التطهير العرقي» أو «التعريب» ليست هي المصطلحات الملائمة لتوصيف مأساة الإقليم. النزاع الحالي طبيعي بالمعنى السوسيولوجي للتنازع بين القبائل الرعوية المترحّلة (معظم «عرب» دارفور)، والقبائل الزراعية المستوطنة (معظم «أفارقة» الإقليم)، وهو ليس أمراً طارئاً لأنه ببساطة يدور حول الماء والمرعى والكلأ، خصوصاً في منطقة صحراوية قفر وجرداء. ولا ريب البتة في أنّ إهمال الحكومة المركزية لإقليم دارفور، وهذه أو تلك من السياسيات التمييزية أو العنصرية التي تحابي «عرب» الإقليم، كانت في طليعة الأسباب التي زادت من حدّة التنازع.
ويعرف الكبار هؤلاء أنّ ما يجري هناك ليس نزاعاً أو صراعاً أو حرباً إثنية بين «عرب» و«أفارقة» في إقليم دارفور السوداني، بدليل اندماج أهل هذا الإقليم في صلب الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية السودانية منذ مئات السنين. دليل أوّل هو أنّ هذا الإقليم قلعة حصينة للحركة المهدية ولحزب «الأمّة»، قبل أن يخترقه الإسلاميون وحزب «المؤتمر الشعبي»، على يد الشيخ حسن الترابي شخصياً. دليل ثانٍ أنّ أهل دارفور ينتمون إلى طائفة «الأنصار»، التي لا يُعرف عنها العداء للعرب والعروبة... أياً كان المعنى المراد من هذَين المصطلحين.
وثالثاً، يعرف الكبار أنها ليست من فئة الملائكة تلك النُخب السياسية والعسكرية التي أطلقت تمرّد «أفارقة» إقليم دارفور في شباط (فبراير) العام الماضي، وأنها أبعد ما تكون عن صفة الضحيّة. لقد كانت لدى الحزبين الرئيسيين، «حركة تحرير السودان» و«حركة العدالة والمساواة»، أجندة سياسية واضحة حين بادرت ميليشياتهما إلى الإستيلاء على حامية «قولو» في جبل مرّة، ثمّ الزحف على مدن كتم والفاشر بعدئذ، وإلحاق سلسلة هزائم بالجيش السوداني النظامي الذي وقع أسير المفاجأة الصاعقة. هؤلاء مارسوا، بدورهم، أعمال سطو ونهب وتخريب واغتصاب في المناطق التي بسطوا سيطرتهم عليها، وهذا موثّق في تقارير منظمة الوحدة الإفريقية ومعظم منظمات حقوق الإنسان.
وأخيراً، ليست ميليشيات «الجنجويد» من صنف الملائكة، ولا هي بالضحيّة أيضاً. لقد ارتكبت من الفظائع وجرائم الحرب وأعمال القتل والإغتصاب والتهجير ما لا يترك زيادة لمستزيد، وهذا أمر لا خلاف عليه في الجوهر. ما هو جدير بالسجال، في المقابل، هو تلك الدرجة المذهلة من تأثيم القبائل العربية على نحو مطلق معمّم شامل وعنصري أيضاً، لا تمييز فيه بين زيد وعمرو. ولعلّ المرء يبدأ من مفردة «الجنجويد» ذاتها، التي أطلقها «الأفارقة» على «العرب» وتلقفتها وسائل الإعلام العالمية قاطبة (وبينها، بالطبع، تلك العربية والإسلامية) دون تمحيص أو تدقيق. والحال أنّ التعبير (وهو في اللغة الدارفورية الدارجة «الجنجويت»، وليس «الجنجويد») يفيد معنى اللصوص والأفاقين وقطّاع الطرق، ومن غير المعقول أن تطلقه عشائر دارفور العربية على نفسها.
بعد التذكير بهذه الحقائق التي يعرفها كبار الأعضاء في نادي «المجتمع الدولي»، ما هي حظوظ تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي 1593؟ أفضل بما لا يُقاس من حظوظ تطبيق أي قرارات أخرى مماثلة قيل لنا إنها إرادة «المجتمع الدولي»، ولم نتبيّن تماماً وحتى اليوم ما إذا كانت بالفعل إرادة أم ذرّاً للرماد في العيون أم مسخرة محضة! وثمة تناظرات كثيرة يمكن أن تُقتبس بصدد قرارات المحكمة الدولية لجرائم الحرب، إذْ نعرف جيداً أنّ ما أنجزته هذه المحكمة في ملفّ محاسبة مجرمي الحرب في البوسنة ليس متواضعاً فحسب، بل هو مخزٍ تماماً.
والسجل مخزٍ لأسباب لا تنحصر في حقيقة أنّ مجرمَين مثل رادوفان كراجيتش أو راتكو ملاديتش ما زالا يمرحان طليقَي السراح أمام سمع وبصر «الإرادة الدولية» المرابطة في البوسنة، بل لأنّ جوهر الفلسفة الجزائية والإجرائية لهذه المحكمة لا يختلف في شيء عن الفلسفة الحقوقية والقانونية والتنفيذية للهيئة الأمّ: منظمة الأمم المتحدة دون سواها. وأن تعيش المحكمة الدولية لجرائم الحرب في ظلّ هذه الشروط القاصرة شيء، وأنّ تتحوّل إلى ذراع ضاربة حليفة للصاروخ والقذيفة والقاذفة الأطلسية شيء آخر مختلف تماماً.
وفي صيف 2001، حين جرى تسليم الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش إلى محكمة جرائم الحرب الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، كانت الفضيلة الكبرى لذلك الإجراء تتمثّل في أنّ هيئة دولية واحدة على الأقل ارتأت التمييز بين الحاكم والمحكوم في تصنيف سلّم المسؤولية، وفصلت المقال الحقوقي بين الصرب كشعب وأمّة، وبين ميلوسيفيتش كحاكم وفرد. وكانت تلك خطوة إلى الأمام، دون ريب، بيد أنها ظلت جزءاً من مسيرة تحكمها القاعدة العتيقة: خطوة إلى الأمام، خطوتان إلى الوراء. وليس أدلّ على ذلك من حقيقة أن السادة الساسة في دول الحلف الأطلسي واصلوا التفاوض مع ميلوسيفيتش الحاكم والفرد طيلة سنوات بعد قرار إحالته إلى المحكمة. وليست دبلوماسية صائبة، إذا لم تكن دبلوماسية خرقاء سيئة النيّة، تلك التي تتفاوض مع الخصم بعد تجريمه، كما عبّر آنذاك وزير الداخلية الفرنسي الأسبق جان ببير شيفنمان.
ومنذ العام 1997، صدّقوا أو لا تصدّقوا، أكدت محطة التلفزة الأمريكية ABC، ثم اقتفت أثرها صحيفة صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية، شائعات عن وجود وحدات كوماندوز أطلسية مشتركة، أمريكية وبريطانية وفرنسية، تتدرّب على مهمة حساسة محددة هي اعتقال الزعيمين الصربيين كراجيتش وملاديتش. أكثر من ذلك، حدّدت «صنداي تايمز» مكان المناورات التي أجرتها وتجريها وحدة الكوماندوز: غير بعيد عن مدينة باليه، معقل الزعيمين.
وذات يوم استخدم روبرت دول، المرشح لانتخابات الرئاسة الأمريكية، تعبير «أعجوبة العالم الثامنة» في وصف العملية الأمريكية ـ الأطلسية في صربيا، وكان بذلك يمزج التهكّم على عجز الناتو بالحنق الخفي لأن بيل كلينتون فعلها أخيراً وسحب طرف البساط من تحت أقدام الأغلبية الجمهورية في الملف البوسني. ولكن بمعزل عن رطانة دول، الذي طواها وطواه النسيان الآن، من الإنصاف التذكير بأن ذلك النهوض الأخلاقي الأمريكي لم ينبثق فجأة من أغوار ضمير حائر نفد صبره، ولهذا فإن الضمير ذاته لم ولن يتحرك في باليه (بوحدات كوماندوز أو بسواها) على أية قاعدة أخلاقية، أو حتى على قاعدة براغماتية صرفة ولكنها تغمز قليلاً للأخلاق. إنه، بالطبع، الضمير ذاته الذي ابتزّ فرنسا ونادي «المجتمع الدولي» لتمرير القرار 1593 مقابل استثناء الأمريكيين منه.
حظوظ تطبيق القرار هذا أفضل من أيّ قرار آخر يخصّ جرائم الحرب، مع تفصيل حاسم: قد لا يكون النظام الحاكم في السودان أقوى من أمريكا، كما يقسم البشير، ولكن ليس تهويلاً محضاً أن يهدّد وزير الدولة اللواء عبد الكريم عبد الله: «فليجرّبوا التدخّل في السودان، وقتها سيعرفون أنّ ما حدث لهم في العراق وأفغانستان وفييتنام كان نزهة»! صحيح أنّ أياً من الأسماء السودانية على لائحة الـ 15 ليس بحصانة رادوفيتش أو ملاديتش، ولكن... أليس من المنطقي القول إنّ بطاح السودان وأقاليمه وبواديه لا تقلّ منعة عن مدينة باليه؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل يستطيع بايدن ان يجذب الناخبين مرة اخرى؟


.. القصف الإسرائيلي يدمر بلدة كفر حمام جنوبي لبنان




.. إيران.. المرشح المحافظ سعيد جليلي يتقدم على منافسيه بعد فرز


.. بعد أدائه -الضغيف-.. مطالبات داخل الحزب الديمقراطي بانسحاب ب




.. إسرائيل تعاقب السلطة الفلسطينية وتوسع استيطانها في الضفة الغ