الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أسرّة الفتنة لموفق السواد: مغامرة شعرية لرسم ملامح النص

كريم ناصر
(Karim Nasser)

2005 / 4 / 9
الادب والفن


الحقيقة أنّ تقويم النص الشعري ودراسة بناه الدلالية واللغوية المختلفة، ليس موضوعاً نقدياً بحتاً في الواقع، فالعملية النقدية قابلة للتوسعة في عدّة كيفيات. ومما له دلالة أنّ الشعر الجاد يُخفي بين ظهرانيه ألغازاً وأسراراً ومعاني لا بدّ من الولوج إليها، سواء بتحليلها، أو بتفكيك تراكيبها، أو بصياغتها من جديد للوصول مع الشاعر خالق النص إلى بنية معيارية مختلفة توحي دائماً (بخاصية شعرية)..
إنطلاقاً من هذا الفهم نستنتج أنّ النقد الجاد لا يلغي قطعاً صيرورة الشعر ولا يهمل مما ليس شعراً خالصاً، ولكن مع اعتبار هذا الشعر أدباً، فما يصنعه النقد على مستوى التأويل ليس قليلاً بالقياس إلى المناهج النقدية المختلفة. ونحن تلافياً للإطالة لن نعمد إلى الخوض في تفاصيل هذا الموضوع.. غير أنّ تمحيصاً لتحليل لغة الكتاب الشعري الذي بين أيدينا في مستواه الدلالي، ربما يقود قارئه إلى الاعتقاد سلفاً بمضمون شعري معين واحد.. في حين أنّ المبدأ يقول غير ذلك. الملاحظ في تجربة الشاعر موفق السواد في مجموعته الشعرية المعنونة (أسرّة الفتنة) هي أنها تراوح بين مستويين لمضمونين متباينين من حيث اللغة والمعنى والدلالة، بين الأدوات المتكاملة الملامح ثقافياً، وهي قصائد الفئة الأولى كما نسمّيها، وبين الأدوات المجرّدة من محتواها الدلالي أحياناً بسبب حداثة التجربة التي تفرز بدورها لغة غير محسومة شعرياً.. كما في قصائد الفئة الثانية التي لا تمثل الأغلبية المطلقة إلاّ في درجات أقل.

ومهما كان عمق التجربة أو أصالتها فهي في جميع الأحوال تبقى مغامرة غير محسوبة النتائج، ولكن ما يشفع للشاعر السواد هو مبدأ المزاوجة بين التعابير اللغوية التي تهيئ لخلق بنية تحتية جديدة تنتمي إلى الفئة الأولى بتفاصيلها، وتحتفظ بجوهرها الدلالي وروح النص، ولا تكتفي بذلك كما سنرى، وبوسعنا أيضاً أن نلاحظ بالمقارنة مع الفئة الثانية إنّ توسّعاً ما سيظهر بقوّة لدى الشاعر في بنية اللغة الشعرية، مما جعل نصوص الفئة الأولى أن تنمو باطّراد لتؤلّف بنية لغوية خاصة قابلة للتشظّي.. وهذا ما يعني أنّ شعر السواد لا يتطوّر لغوياً كتعابير فقط، بل إنه ينمو تدريجياً بمعنى مختلف تماماً.. ومعيارنا في ذلك القصائد الآتية: (أصابع كاووش) و (مطلق حذاء) و (أنا العابر هي المدينة)، فهذه النماذج الشعرية إنما تدلل على ذلك ضمناً، بكونها تمكّنت بصفة معينة من أن تحتفظ بتميزها النوعي لغة ومعنىً وتجليات.
لا حظ معنا هذا المقطع:
((هل ملأنا سلالنا بالمطر في تلك الظهيرةِ اللامعة؟/
سيتناسلُ الطينُ الذي تركناه/
ستنمو الأشياءُ عاجلاً/
كسيحةً ومهملةً ستكون/
والعابر/ كمن لا عيون له/
سيركضُ بعيداً/
وهو ينفثُ هواءً فاسداً من رئةِ الأرض/
سيتركُ وصايا باهتة/
ويبتكرُ اسماً للغواية/ اسماً جديداً لعزلتهِ/
وللمدينةِ التي شربها قبل عدّةِ أعوام/ بجرعةٍ واحدة/
و ها هو الآن/
كلّما حاول أن يتذكّرَ / الأثرَ الذي قادهُ إليها/
تلتفُّ الدروبُ عليه/ وينهدمُ الدمُ في أصابعه))...
(أنا العابر هي المدينة) ص43

لا يوجد شعر من دون مغامرة شعرية، وبوسعنا أن نقول: إنّ النمط الشعري الذي يعتمده صديقنا السواد لا يخرج عن هذا الإطار، رغم التباين الموضوعي في التراكيب اللغوية، غير أنّ تقويماً بهذا المعنى يجعلنا أن نصنّف تجربته أُسلوبياً أو نميّزها بكونها انطلاقة شعرية واعدة، لكنها محفوفة بالمخاطر، وخصوصاً أنّ الشاعر السواد الأكثر قرباً من مفهوم الحداثة من غيره يعي هذه الحالة ويدرك خطورة الموقف..
((وحدها تأتي لاهثةً وثملة/
بدهشةِ المتاهة/
محمولةً على مسالكِ التكوين وبراري الزرقة/
وأبجديّة تقودُ لقراءةِ كفِّ الأفق/
تلك هي أصابعُ كاووش))
(أصابع كاووش) ص57

فالشاعر المبدع في أغلب الحالات مغامر، والواقع أنّ المغامرة الشعرية لا تقتصر جوهرياً على الجرأة في الكلام فقط، فللمعنى تأويل أو بنية دور مهم في صنع النص وإنتاج أنساقه اللغوية والجمالية.. فإذا ما لا حظنا مسرى الجمل الشعرية في هذه المجموعة، نستنتج من ذلك أنّ الشاعر السواد يحاول أن يخضع معظم نصوصه بشكل أو بآخر إلى معادلة متوازنة، بالقياس إلى موازاة التراكيب العادية بدلالاتها العادية أيضاً ـ التي ليست في الواقع إلاّ بنية رخوة في طريق النمو ـ من حيث اللغة والمعنى، وبين التراكيب الأكثر تمثيلاً للنص من حيث (الكثافة والاتساع والصرامة) في البنية الدلالية.. ومن هذا المبدأ نستطيع القول: إنّ السواد تمكّن بمهاراته الفنية من أن يصنع نصاً ثالثاً تحقّق بواسطة التوازن، وبواسطة الفونيمات الصوتية التي تدل عليها الإيقاعات ضمناً..
((كان مطموراً في أرضٍ مجهولة/
اكتشفهُ أبي ذات مساءٍ غائمٍ/
احتذاهُ في حروبنا الطويلة/
كان حذاءً أقوى من قادةِ الجيوش/
لم يتهرّأ.. لم تصدأ مساميرهُ/
وحينما هُزمَ أبي في حربنا الأخيرةِ طبعاً مع قادتنا الهرمين/
عادَ إلى البيتِ صارخاً بأمي أن تلمّعَهُ)).
(مطلق حذاء) ص66

والمفارقة أنّ البنية الجمالية المتحقّقة من هذه الوقائع، ما هي إلاّ نتيجة طبيعية خلقتها التجربة الشعرية، لترسم بمعنى من المعاني ملامح النص الجديد الذي يشتغل عليه الشاعر موفق السواد، وهذا ما شجعنا كثيراً على متابعة تجربته الثرّة التي تميّزت عن غيرها بالرؤية والمعنى والتجريب، وبوصفه شاعراً حاذقاً في الصنعة، ماهراً، استطاع أن يحقّق معادلة شعرية، عجز عن بناء مكوناتها شعراء آخرون من جيله الشعري.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روبي ونجوم الغناء يتألقون في حفل افتتاح Boom Room اول مركز ت


.. تفاصيل اللحظات الحرجة للحالة الصحية للفنان جلال الزكى.. وتصر




.. فاق من الغيبوية.. تطورات الحالة الصحية للفنان جلال الزكي


.. شاهد: دار شوبارد تنظم حفل عشاء لنجوم مهرجان كان السينمائي




.. ربنا سترها.. إصابة المخرج ماندو العدل بـ-جلطة فى القلب-