الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مكانى الأول

سهير المصادفة

2013 / 3 / 25
الادب والفن



ما الذى يجعل مكانًا بعينه ماثلاً أمام أعيننا طوال حياتنا، ندور حوله، ونسبر عمقه فى أيامنا، ونتذكر أدّق تفاصيله، وتنتابنا الرعدة نفسها خوفًا أو حبًّا أو حنينًا له!! تتكاثف رائحته رغم توغله فى الزمان، وتتقاطع ظلاله فوق رؤوسنا وتنبعث من أرجائه موسيقى خاصة تظلّ تترددُ فى فضاءِ مسائنا وإذا ما استمعنا إلى ما يُشبهها فجأة حتى إذا كنا فى الهند أو السند أو بلاد الواق واق، نتوقف فى الحال عن السير إذا كانت خطواتنا تغز السير نحو سباقٍ ما، ونصحو من نومنا الهانئ إذا ما كنا نيامًا ونتأمل هذا المكانَ الأوَّلَ الذى يقفز فوق لحظتنا ناصعَ الوضوح.. قد يكون هو كل ما تبقى من سنواتنا الأربع الأولى.. مجرد جدار قديم معلقة عليه صورة زعيم يتداعى منها لون أسود تتشحُ به إذ فجأة البلاد ــ ولا نفهم آنذاك لماذا ــ وتنبعث منها ترنيمة خافتة وشجية إلى أقصى الحدود، وعلى الرغم من أن ملايين الجموع ترددها إلا أنها تغيبُ فى همسٍ آسرٍ.. الوداع يااااجمال ياحبيب الملايين.. الوداع.
وقد يكون المكان الأوَّل ــ الذى تبقى فى الذاكرة من حفنة سنوات ــ بيتًا في بورسعيد هدّمته دانةٌ غاشمةٌ فظلّت حوائطه المحترقة تُطل علينا من آن إلى آخر حتى ونحن نُغير بيوتًا وفنادق فى أرجاء المعمورة لا حصر لها.
وقد يكون المكان الأوَّل شبرًا فى بحر ما لا نتذكر سواه لأننا فيه حملقنا فى الموت للمرة الأولى وجهًا لوجه، وألقينا أمامه أولى جُملنا الصامتة بثقة منقطعة النظير: أنت نفسك تعرف أن الأوان لم يحنْ بعدُ. سنظلُّ نرى هذا الشبر من الماء ونستمعُ إلى هديرالأمواج الممتزج بهمهماتِ المُصطافين التى تأتينا من بعيد.
وقد يستحيلُ حِجرجدّة عجوز إلى مكانٍ لا يُنسى.. نطيرُ منه إلى آفاق لن نستطيعُ بلوغها فيما بعدُ قطُّ مهما حاولنا، ونقابل فيه ملائكة تُساعد الفقراء ومَنْ ضربت عليهم الوحدةُ خيمتَها الثقيلة والمطعونين فى محبتهم، ونتمنى أن تختفى من العالم الجنيات اللاتى لا يسترحن أبدًا إلا إذا فرقنَّ بين الحبيبين، ونتابعُ منه شمسًا تبتسمُ لعَبَّادها الذى لا يكلُّ ولا يملُّ من النظر إليها، ونرى بوضوح أوراق بردى تعبرُ أجملَ أنهار العالم وعلى متنها عذراواتُ جميلاتُ رضينَ أن يكن زوجات خالدات له.
قد يكون هذا المكان أسفل شجرة وارفة ارتحنا تحت جذوعها من كلِّ صروف الحياة، ونسينا فى ظلّها الحنون الماضى والحاضر والمستقبل وانقطعت جميع الأصوات البشرية عنّا، وكدنا أن نستمع إلى موسيقى الكون صافية تمامًا لا تشوبها شائبة فناجينا الله واستجاب لنا فى دقائق سديمية ستظلُّ مميزة لدينا.
كثيرة هى الأماكن الأولى التى حفرت دون شك خريطتها الواضحة فى أرواحنا وجعلتنا نكتشف مَنْ نحن ومَنْ سنكون تحديدًا ولو بعد تسعين عامًا، هذه الأماكن الأولى أبتْ أن يجرفها النسيان أو تشوشها أمكنةٌ مُتشابهات، وظلّت أمام ملايين الدقائق المُتعاقبة تُكرر بهدوء: ها أنا أمارس خلودى الخاص.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هو الجنة الخاصة
سها السباعي ( 2013 / 3 / 27 - 05:41 )
-قد يكون هذا المكان أسفل شجرة وارفة ارتحنا تحت جذوعها من كلِّ صروف الحياة، ونسينا فى ظلّها الحنون الماضى والحاضر والمستقبل وانقطعت جميع الأصوات البشرية عنّا، وكدنا أن نستمع إلى موسيقى الكون صافية تمامًا لا تشوبها شائبة فناجينا الله واستجاب لنا فى دقائق سديمية ستظلُّ مميزة لدينا.-

ها أنا أمارس خلودى الخاص- -

نستطيع إيجاد هذا المكان أحيانًا، وتكون لحظات هناء مصفاة، رائقة من كل عكر الحاضر وخوف المستقبل، قيصبح جنتنا الخاصة.

تحياتي لقلمك

اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل