الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليوتوبيا بين الفكر والارهاب

قصي الصافي

2013 / 3 / 30
مواضيع وابحاث سياسية



من بين ركام اسئلة الواقع الشائك وبالأمل الذي يعمر قلب الإنسان تنهض اليوتوبيا كمشروع حالم بمجتمع مثالي عادل يسوده الإخاء والمساواة ويمحي فيه الظلم والإستغلال . اليوتوبيا رؤية مستقبلية تتعالى على الواقع دون أن تختصم معه فهي ليست ابنته العاقة بل ابنته الحالمة ، و بإعتبارها تجلياً للعدالة الإجتماعية عبر المخيال الإنساني- تكون قد حققت شروطها الذهنية في الحاضر و هي ترنو إلى نقطة في أفق المستقبل البعيد لتحقيق شروطها المادية وبهذا تكون محفزاً وملهماً لتطور الفكر الإنساني من أجل خلق عالم أفضل ، وقد كان اناتولي فرانس محقاً في قوله " لولا يوتوبيات الأزمنة الماضية لبقي الإنسان عاريا في الكهوف" فيوتوبيا اليوم هي لحم ودم المستقبل كما يقول فيكتور هيجو ، إلا أنها تنقلب إلى مشروع عنفي إذا ما غادرت عالم الفكر وتورطت في عالم السياسة.
اليوتوبيا والفكر
لقد كانت جمهورية أفلاطون رؤية فلسفية لبرنامج حالم لبناء مجتمع ودولة كبديل عن ديمقراطية أثينا المباشرة والتي كان من أخطر قراراتها الحكم بالموت على فيلسوفها وأستاذه سقراط . إلا أن يوتوبيا أفلاطون هذه لم تتحول إلى ايديولوجيا ترفع لواءها الحشود بل بقيت مرجعاً هاماً ليس للفلسفة الأوروبية فقط بل وللاهوت المسيحي أيضاً. وقد أسست لمنظومة قيم ومثل الحضارة الأوروبية لقرون رغم إعلان نيتشة عن " إنحطاط قيم الحضارة الاوروبية الذي بدأ برأيه بعقلنة سقراط للفضيلة وجعلها مرادفاً للمعرفة واحتقاره للعالم الغرائزي في الإنسان "، والمفارقة هنا أن نيتشة نفسه يعرض علينا يوتوبيا جديدة تبشر بعصر السوبرمان الذي سيعيدنا إلى عصر البطولات الملحمية ونبل الفروسية الاغريقية ويعيد الحياة إلى قيم وروح ديونيسيوس التي ابتلعها أبولو بصرامته العقلانية.
بوحي من جمهورية أفلاطون وإحساساً منه بآلام المهمشين والفقراء في الممالك الاروبية، نشر القديس توماس مور كتاب "يوتوبيا" والذي يروي لنا فيه روفائيل _ الشخصية الرئيسية بالكتاب - وصفاً لجزيرة اسمها يوتوبيا تسود فيها العدالة الإجتماعية والمساواة ويؤمن سكانها بقيم مختلفة حتى أنهم حين يرون الملوك والسفراء في جزيرتهم وهم يرتدون سلاسل الذهب والفضة يعتقدون أنهم عبيد أسرى وسلاسل الحلي ليست سوى أغلالهم . يوتوبيا توماس مور أيضاً كانت مرجعاً لملوك وساسة بريطانيا وفرنسا لعمل الإصلاحات في بلدانهم ولم يعتنقها حزب أو جماعة كعقيدة تتوعد بالعنف للوصول إلى اهدافها.
الإشتراكي الطوباوي الإنجليزي روبرت أوين كان يحلم بمجتمع يمحي فيه الإستغلال، فكانت له تجربته المعروفة في مصنعه حيث وفر لعماله السكن اللائق والتعليم وجعل نظام الحوافز المادية والمعنوية بديلاً عن النظام القسري وساعات العمل الطويلة الذي كان معمولاً به في القرن التاسع عشر. نجحت تجربته ليس فقط في تحقيق سعادة نسبية للعمال بل إزداد الإنتاج بشكل ملحوظ قياسا بكل المعامل آنذاك، فأراد أن يوسع تجربته بتأسيس قرية إشتراكية في تكساس إلا أن التجربة فشلت هذه المرة. لم تتبن أفكاره ميليشيا أو حزب يكسر رأس التأريخ ليحقق فكراً طوباوياً -كما يقول لوكاتش - ألا أن أفكاره كانت مصدر إلهام للمفكرين والمدافعين عن حقوق الطبقات المضطهدة عبر التاريخ.
هذا شيء من كثير مما يزودنا به التاريخ من تجارب تشير إلى أن اليوتوبيا تنهض من مرارة الواقع فتحلق في فضاءات الحلم الإنساني لتغذي الفكر ويغذيها وما إن تتجاوز عتبة الفكر إلى أيدي رجال السياسة تحولت إلى ايدولوجية عنف ، يبدو أن أيادي الساسة ملوثة بجراثيم إفساد الفكر .

اليوتوبيا و الإرهاب
يعلن الإرهاب عن "منجزاته" من الدمار بلا مواربة وبيقينية مستفزة وبصوت لا يرتجف لرؤية دماء الأطفال بل لا يشعر بالحاجة إلى اية مبررات أخلاقية، انما يسخر من كل مابلغته الحضارات من مثل وقيم. هذا الأمر يدعو إلى التأمل والدراسة لفتح مغاليق وأسرار تلك الظاهرة، ظاهرة عودة الإنسان المعاصر إلى قيم ومفاهيم ووحشية الإنسان البدائي.

بعقد مقارنة متأنية بين النظام الإجتماعي والديني للقبيلة البدائية كما يصفها دوركايم من جهة وأي مشروع عنف سياسي في التأريخ الحديث من جهة اخرى يمكننا بلا عناء اقتناص أوجه الشبه وربما حتى التطابق بينهما. في كتابه " تقسيم العمل Division of Labor " يوضح لنا أميل دوركايم أن وحدة القبيلة البدائية تأسست على عاملين : الأول قدسية الطوطم وهو حيوان أو نبات يعبده جميع أفراد القبيلة والثاني يتمثل بالثقافة الإجتماعية والدينية الواحدة والتي تقوم على مرتكزين : 1. جميع أفراد القبيلة يمارسون مهنة واحدة وهي الصيد وجمع الثمار فيمنحهم ذلك نفس الرصيد من المعرفة المهنية وما يتفرع منها من تقاليد وأعراف. 2. المنظومة القيمية الواحدة التي تقوم على ثنائية المدنس والمقدس، فقد قسم الإنسان البدائي الأشياء إلى مقدسة أو مدنسة حسب علاقتها بالطوطم وقد نشأت عن ذلك مجموعة من الطقوس ومناسك العبادة والتقاليد الدينية والتي تشكل دستور القبيلة الديني الذي يؤمن ويلتزم به كل أفراد القبيلة واي خروج عنه سيثير سخط الطوطم فينزل عقابه على المارق.
وفي دراسة بعنوان " الثنائية Dualism " يشير دوركايم إلى شدة الحماس والاستثارة العاطفية التي تتملك أفراد القبيلة وهم يؤدون الرقصات الدينية ويرتلون الأناشيد فتتفجر فيهم الطاقات الروحية والوجدانية حتى تبلغ الاستثارة أقصى مدياتها عند تقديم بعض أعضاء القبيلة قرابين ليستأنس الطوطم بدمها المراق.

في التأريخ الحديث تعود مشاريع العنف السياسي بصيغ محدثة للقبيلة البدائية إذ تبدأ جماعة سياسية بإخراج يوتوبيا معينة من عالم الفكر قسراً ليعاد انتاج افكارها ومفاهيمها ثم حشرها في قالب أيديولوجي شديد اليباس ، يتجاهل محددات التأريخ ويستشرف المستقبل برؤية ارادوية لا عقلانية حالمة .....{ روبسبير واليعاقبة // القفز على المرحلة البرجوازية للثورة الفرنسية ،.... الرأسمالية والتوسع الإمبريالي// الرسالة الحضارية للرجل الأبيض وتنظيرات روبرت سبنسر في الداروينية الإجتماعية،.... ستالين // بناء مجتمع شيوعي ضمن حدود دولة في كوكب رأسمالي،..... البعث// تعريب وبدونة الرومانسية القومية الألمانية لتحقيق الوحدة العربية ،....الإسلامويون السلفيون// نبش ذاكرة الماضي لبعث الخلافة الراشدة بصورها المتخيلة ..إلخ }
غالياً ماتنطوي تلك الاديولوجيات على مفاهيم وأفكار ووعود تخاطب غرائز وعواطف الحشود التواقة للخلاص والغارقة بالبؤس فتمدها بالأمل للوصول إلى الفردوس الموعود، وسرعان ما تنشأ عن اليوتوبيا المؤدلجة رموز قدسية ومناسك عبادة وتزج الحشود في طقوس ترفع مناسيب الاستثارة الوجدانية كالاستعراضات والاهازيج والخطابات الحماسية والشعارات المثيرة والحكايات المنسوجة لتقديس الرموز والقادة وتدنيس الخصوم والفكر المغاير ، كل هذا يشكل المونة الثقافية الموحدة للحشود أي أنهم يتوحدون بالتطابق الثقافي الممانع للثقافات الأخرى فضلاً عن اليقينية الراسخة بالاديولوجية-الطوطم .
هكذا مشاريع تختصم مع قوانين حركة التأريخ لأنها تستند إلى يوتوبيا خيالية ، وفي مواجهة الواقع ستكون محكومة بالفشل حتماً ، وهنا لابد من قرابين تقدم على مذبح الاديولوجيا ممن يعترض الطريق الى الفردوس أو ممن يكثر من الأسئلة ( لا وقت للأسئلة ...الجماهير على عجل لإكمال مسيرتها الطويلة لتحقيق فردوسها" الحتمي" .....)
إذاً لدينا في الحالتين طوطم ( أيديولوجية ) ،حشود متحمسة مستثارة وجدانياً ، ثقافة موحدة تقوم على ثنائية جامدة ( مقدس -مدنس /مؤمن كافر/ ثوري- خائن ..ألخ ) ، قرابين ودماء تشفي غليل الحشود .

من هذ العرض المختصر يبدو جلياً أن إشتغال مشاريع العنف السياسي لإعادة خلق الإنسان ينصب بشكل أساسي على إحياء الغرائز البدائية التي ساهمت الحضارات المتعاقبة في تشذيبها أو على الأقل تهذيبها، فهل كان فرويد محقاً وهو يصعقنا في كتابه " قلق في الحضارة " فيعلن أن الإنسان المعاصر مازال يختزن في عقله الباطن كل غرائز ووحشية الإنسان البدائي وما دور الحضارات والرقي المدني سوى تمكين الإنسان من كبحها وإخفاءها وليس القضاء عليها نهائياً!!!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. خطوة جديدة نحو إكسير الحياة؟ باحثون صينيون يكشفون عن علاج يط


.. ماذا تعني سيطرة الجيش الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معب




.. حفل ميت غالا 2024.. إليكم أغرب الإطلالات على السجادة الحمراء


.. بعد إعلان حماس.. هل تنجح الضغوط في جعل حكومة نتنياهو توافق ع




.. حزب الله – إسرائيل.. جبهة مشتعلة وتطورات تصعيدية| #الظهيرة