الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمريكا وعقدة -الشين-

سعيدي المولودي

2013 / 3 / 30
مواضيع وابحاث سياسية


أمريكا وعقدة "الشين"
حرف الشين كما يقول اللغويون أبرز الحروف الشجْرية، ويتصف بسمة مائزة أطلقوا عليها اسم "التفشي" أي ما يعني الاتساع والانتشار والشيوع وهي خاصية تعلق بكثير من الدوال التي يشكل عنصرا أساسيا وجوهريا بين مكوناتها. وليس مرامنا هنا البحث في دائرة الخصائص اللغوية أو الصوتية او الدلالية لهذا الحرف، بقدر ما يعنينا أن نشير إلى أنه بناء على بعض عناصر الملاحظة المجردة أصبح يجسد مظهرا لعقدة لها تجلياتها السياسية والاقتصادية والفكرية والعقائدية والروحية، قد نسميها عقدة "الشين"، عم بلاؤها الكثير من الدول والأنظمة، وفي مقدمتها أمريكا ذات الويلات المتعددة الأوجاع .
ولن نغالي إذا قلنا إن أمريكا في الزمن المعاصر على الأقل تعاني من عقدة اضطهاد "الشين"، إذ كلما ذكر "الشين" استنفرت احتياطيات جهوشها وضفادعها البشرية وغير البشرية، ووضعت يديها على آليات الدمار التي لا تبقي ولا تذر، وأشعلت نار حروب أسطورية لا تنتهي. ونزعم أن تاريخها إلى حد بعيد هو تاريخ صراع مع هذا الحرف وبمعنى أدق مع بعض المفاهيم الدالة التي تدفقت من صلبه وشكل ضمن بنيتها الصوتية والدلالية عنصرا فاعلا ومحوريا و إطارا رمزيا لدلالاتها وسياقاتها التداولية.
وإحدى هذه المفاهيم التي قضت المضجع الأمريكي هي "الشيوعية"، التي كانت على امتداد القرن العشرين نوارة السماء والإشراقة الغامضة التي حطت بغيمها على أطراف الكون، ومضت من قسوته إلى حيث قد تعود، وكان عطرها الشائع يغيظ أمريكا ويغازل حتفها، ولذلك عبأت أمريكا كل شساعتها وشراستها العسكرية والأيديولوجية حتى الامتلاء لتوقف نبضها وتخنق أنفاسها، وعملت بشتى الوسائل والمناورات والمؤامرات من أجل اختزال الكون في حدودها وإضفاء الطابع المثالي على اختياراتها السياسية والاقتصادية والثقافية، ونسبة الخير كله إلى امتداداتها، والشر كله إلى ما عداها وإلى الشيوعية بالذات وما والاها. وقد بذلت الأقسى والأقصى مما ملكت يداها من أجل تعكير صفو العالم وإرباك رنينه، وحشدت المرتزقة والأنذال في كل القارات وأسراب الجهات لتحشو اللحظات بشهقات الرصاص والقتل الغادر.وبنت جنونها على تمجيد الذات وتكييف كل الظلال نحو جحيم الاستقطاب ليرسم العالم تضاريس الرأسمالية كحلم مبلل بأراجيح السعادات والمواويل الفائرة.
وكان من المفترض أو الممكن أن يأخذ الصراع بين أمريكا وأعدائها أو خصومها المحتملين منحى آخر إيجابيا، ويقود العالم والعقل الإنساني إلى حافات تحقيق تطور متميز يعبر عن الإرادة الإنسانية في تجاوز المعضلات الكبرى التي تعوق بناء علاقات أممية قائمة على الثقة وعلى الإخاء والمحبة والسلام والأمن، وتحقيق التقدم والرقي على مستوى القيم والأفكار السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لولا أن أمريكا كانت على الدوام تستصرخ الحروب ونصبت نفسها عدوة للشعوب، وفجرت الصراع في اتجاه اللعب بالنار وشهوة امتلاك العالم وافتراس معالمه، وشقت الطريق لقهر الأمم واضطهاد الشعوب وتفكيك كياناتها وزرع المكائد في تجاويفها الشريدة، لترسخ تصورا شموليا مغلقا لا يمكن أن تتجه فيه الولاءات، زاد المرتزقة في كل مكان، إلا لأمريكا وحدها.
ومن المفارقات المرعبة أن تصطف كل الأنظمة الثيوقراطية السوداء في العراء العراء (بي) إلى جانب زاوية النظر والخيارات الأمريكية الرهيبة، وتتمترس بتهورها في خندق معاداة الشيوعية، تسليما مجانيا بما يتم تسويقه من معطيات مضللة عبر الرشح الأيديولوجي للفكر الرأسمالي، من أن الشيوعية نظام عنيد لا يسعى إلا لترسيخ قيم الإلحاد ومناهضة الأديان ونسف مقومات الإيمان بالغيبيات لدى الأمم والشعوب، وتم اجتذاب هذه الأنظمة التي يتغذى عقلها السياسي من الخواء الفطري وتسخيرها لبناء جبهة سامة تتوهم الاندفاع نحو الحقيقة، وافتراس الشيوعية وأكل صغارها، وأغرب من هذا أن شراذم موبوءة كشرت عن عواصفها الكبيتة لتدافع عن أن الشيوعية هي ثمرة الفكر اليهودي وأن عداءها ركن من أركان هذا الدين السريري، وعلى الرغم من أن أمريكا حامية الوجود والكيان الإسرائيلي وغطرسته وتحديه للقوانين والأعراف الدولية، وتسهم بشكل منقطع النظير في تسويق صورة مثلى له في جغرافية العلاقات الدولية، إلا أن العقل الديني المعبأ بالهراء الأمريكي مشبع بغبار العداوات لدرجة استطاب معه الجهاد ضد الشيوعية من خلال المجاهدين الأوباش الأفغان ذيول الاستخبارات الأمريكية الذين أضفى عليهم دين النفط والغباوات هالات من القداسة والإغراء والإطراء العنيف.
والتبعية الهوجاء التي انتهجتها الأنظمة السوداء المفلسة، وانبهارها الهابط بسحر وقوة الفكر الرأسمالي من أجل معاداة الشيوعية باعتبارها خطرا داخليا وخارجيا على الصعيد السياسي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والروحي، لم تكن في واقع الأمر إلا انعكاسا لوقع حوافر التخلف المبين الذي تحياه هذه الأنظمة البارعة في عمليات الهبوط والصعود في سلم ريشتر الدين، لمواجهة جاذبية العقل والمنطق وآفاق أزمنة التنوير والانعتاق والتحرر، ولذلك فإن المهام الدفاعية التي قامت بها هذه الأنظمة الفاقدة لكل صلاحية لم تكن إلا تعبيرا عن نزوع أصيل إلى تكريس كل أشكال الاستبداد والطغيان وتوطيد معالم الجهل والأساليب البدائية الهجينة في الحكم.
اليوم بعد أن أفل نجم "الشيوعية"، أو هكذا بدا للمرتزقة المكلفين بنظافة العالم والتاريخ، وتكاد الأنظمة السوداء تنام على جنبها الأيمن وتقر عينها أن الجهاد المقامر في أفغانستان وفي سواها من بؤر التوتر المصطنعة في العالم، قد طهر الكون وطريق الإنسانية من كل وجع المطارق والمناجل وسواعد الشر الكادحة التي كانت ترعاها الشيوعية، وتم تحرير ربوعه المترامية من كل أزيائها وألوانها لتعود سيرتها الأولى، عادت أمريكا لتبحث عن عدو جديد تعلق عليه مواجعها وأحقادها النابغة، ومن باب الصدف أن يكون العدو الوليد مرة أخرى قائما على إيقاعات حرف "الشين"، فبدل "الشيوعية" غدت "الشيعة" العدو المعاصر، الظاهر والباطن، الماثل في كل البقاع يتعقب الظلال ويسكن الجدران والممرات، واستطاعت أمريكا أن تؤسس أساطيرها الصغرى والكبرى حول هذا العدو الجديد وأن تعد له تراثا ضخما وتاريخا من مواسم الدم وأجنحة الدمار، وانساقت الأنظمة السوداء بشكل غريزي وراء الكوابيس الساقطة الجاهزة التي روجت لها أمريكا، وأكدت مجددا عبوديتها الطوعية وخنوعها وولاءها السقيم لأمريكا، وهو ما يعني أن إمارات النفط والقطران المتنكرة لا تحقق وجودها إلا عبر آليات الخضوع والتبعية، وذلك ما يمنحها هويتها و أي معنى، إن كان لها معنى أصلا.
وعلى الرغم من تعذر إيجاد أية أواصر أو قواسم مشتركة بين "الشيوعية" و"الشيعة"، ورسم معالم تضاريس لمناطق نفوذ مشتركة بينهما على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية، فإن أمريكا استطاعت أن تستثمر عواطف وانفعالات ورواسب الغرائز الهمجية لدى ضعاف العقول وأشباه السياسيين والحيوانات المرضى بالغرور الديني، وشتات قبائل وأفخاذ إمارات البراميل النفطية الذليلة، وتتولى توظيفها لتمرير خطاباتها وتأجيج العداوات وإشعال الفتن والحروب من أجل بسط هيمنتها وحماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية.
في ظل هذا الوضع يمكن التعامل مع الإنسان العربي المغلوب على أمره ومصيره، بأنه ضحية عقدة هذه "الشينات" بحيث يبدو له العالم غيما أسود من الغزاة، شيوعيين وشيعة، يقترب من سقف جهالته وجهاته الأربعة، ولا يرى جبنه غير الحضن الأمريكي ملاذا، وغير كلاب أمريكا النابحة التي ستنجيه من الغرق، يضع تاريخه في مهبها لتوظف غباوته الجاهزة في اللحظات السياسية الحاسمة، وكلما خفت ضوء "شين" شحنت قهره الملتهب ضد "شين" وليد.
فطوبى لهذه الملايين من القتلى المغفلين الذين تمشي أمريكا في جنازاتهم وترسم طريقهم نحو المقبرة بكل برودة الدماء إلى ما لانهاية.

سعيدي المولودي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حيوان راكون يقتحم ملعب كرة قدم أثناء مباراة قبل أن يتم الإمس


.. قتلى ومصابون وخسائر مادية في يوم حافل بالتصعيد بين إسرائيل و




.. عاجل | أولى شحنات المساعدات تتجه نحو شاطئ غزة عبر الرصيف الع


.. محاولة اغتيال ناشط ا?يطالي يدعم غزة




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر التطورات الميدانية في قطاع غزة