الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بقعة الدم

بدر الدين شنن

2013 / 3 / 31
الادب والفن


نعـم في هـذا الزمـان .. ليس بعيداً كثيراً عن الآن .. كان رجل غني جداً ينادونه " بالبيك " ، يمتلك قرية كبيرة .. بكرومها .. وحقولها .. ومياهها .. وفلاحيها .. وحيواناتها . هي من حيث دخلها غنية جداً .. بل أغنى من منجم من الذهب ..

ورغم أن " البيك " قد تجاوز الخمسين عاماً من عمره ، فإنه لم يخطر بباله قط أن يتزوج . وهذا يعني أنه ليس عنده أولاد . لكنه لم يكن يعيش وحيداً . فعندما يذهب إلى القرية بضعة أيام ، كان وكيله " عبد السميع " المسؤول أمامه عن القرية ، يتولى إحضار إحدى الفلاحات الجميلات بحجة أنها ستطبخ " للبيك " ما يشتهيه من طعام . فتد خل من باب القصر إلى الحمام ، بدلاً من أن تذهب إلى المطبخ . وبعد ذلك تنتظر " عبد السميع ، ليأخذها إلى " البيك" مستسلمة لما يريد " البيك " أن يستمتع به من جسدها . أو أن يقوم " مسرور أفندي " وكيله بحلب ، بإرسال بعض الحسناوات إليه في القرية .

ولما يعود إلى حلب ، ليمضي بعض الوقت مع شلة الأصدقاء ، كان " مسرور أفندي " ، المشرف على القصر في المدينة ، يجهز له ، طاولة القمار ، ويحضر له أنواع المشروبات المفضلة لديه ، ويملأ الحوض الزجاجي في غرفة الاستقبال بالماء الدافيء ، لتلعب فيه إحدى الصبايا العاريات ، بينما " البيك يرشف من كأسه جرعات الخمر .. ويتلذذ بتدخين " نفس من التنباك " .

ومع اكتمال " الشلة " المقربة من " البيك " ، يكون مسرور أفندي قد استحضر الصبايا .. المعروفات بخبرتهن .. في خلق الليالي والأوقات " الحمراء " .. وبأدائهن الغناء والرقص .. وتلبية الرغبات الشبقة ..

لكن رغبات " البيك " ومتعه .. وهواياته .. ليس لها حدود . فبالإضافة للجنس ، والقمار ، كان يستمتع بالصيد أيضاً .. وينشرح صدره .. لما يطلق النار حول فلاح جالس أو هو يمشي .. ويدفعه للجري مذعوراً . وفي نشوة " القنص " والانشراح ، كان أحياناً يطلق النار متعمداً إصابة أحد الفلاحين في إحدى رجليه . وهنا ينفجر " البيك " ضاحكاً ، لما يرى الفلاح يحاول مرعوباً المشي على رجل واحدة .. ويتعثر ويقع .. ثم ينهض .. ليتعثر ويقع ..

وكان عنده ثور ضخم مثله . له قرنان مهيبان مرعبان ، يقوم بإمتاع " البيك " وضيوفه على طريقته " التي دربه عليها " عبد السميع "

كان " البيك " يجلس " وضيوفه .. من الأغوات .. والبكوات .. والأفندية .. والعاهرات .. في شرفة القصر المطلة على القرية .. ويشاهدون الثور ، الذي استحثه وهيجه " عبد السميع " بأساليبه القذرة ، وهو يشخر ويزمجر .. ويركض شمالاً ويميناً .. يبحث عن كائن ما أمامه .. لينقض عليه بقرنيه وبجبروت قوته .. ليعبث به .. وسط الضحك الهيستيري ، الذي يطلقه " البيك " وضيوفه السكارى ، ابتهاجاً بتمكن الثور من إصابة بعض الفلاحين في أرجلهم .. أو ظهورهم .. أو بطونهم . وويل للفلاح الذي يقاوم الثور ولايمكنه من إصابته ، فجزاؤه سيكون على يد " البيك " ، الذي يأمر بعد انتهاء الحفلة المجنونة ، بجلب هذا الفلاح إلى حضرته مربوطاً بالحبل كالحيوان ، ويقوم بجلده بعصا رفيعة من الخيزران كأنها قطعة من جهنم ، حتى الإغماء ، ثم يرمى خارج القصر .

ذات يوم حدث مثل هذا المشهد في القرية ، لكن التفاصيل .. والنتيجة .. كانت مختلفة . فالثور في لحظة الذروة في هيجانه وثورانه ، وجد ضالته بطفلة صغيرة ، كانت تلعب ، في المكان المفتوح أمامه . فانقض ، على الطفلة المرتجفة من الخوف ، مسدداً إليها ضربة هائلة بقرنيه رفعتها عن الأرض عدة أمتار ، ولما سقطت على الأرض ، راح يعبث بها بقرنيه الجبارين .. فيدفع بها من مكان إلى مكان آخر .. لكن الطفلة ، منذ أن استقرت على الأرض ، لم تعد تشعر بالألم .. ولم تعد خائفة .. لأنها ماتت . ولما انحرف الثور عنها متجهاً إلى مكان آخر ، ركض أهلها يلمون جسدها الصغير المكسر الأضلاع والأطراف والمضرج بالدم ..

في هذه اللحظة .. لم يضحك سوى " البيك " .. بينما كان الحاضرون يتهامسون حول مصير الطفلة ..

لأول مرة في حياته شعر " البيك " بشيء من الحرج .. فحوله عدد من السيدات .. والحسناوات .. يحضرن لأول مرة إلى القصر .. وبين الحاضرين أكثر من شخصية مهمة .. لايجوز أن يظهر أمامهم في حالة تردد وضعف .

وبنبرة عالية الجدية ، أمر بإعادة الثور إلى حظيرته .. وجلب والد الطفلة إليه .

نفذ عبد السميع أوامر " البيك " ..

وجاء بوالد الطفلة مقيداً بالحبل .. حزيناً .. باكياً . ودفعه ليقع على الأرض أمام قدمي " البيك" .

لم يجرؤ والد الطفلة أن ينظر إلى " البيك " .. ولا أن يقول كلمة واحدة ..

بعض الحاضرين راحوا يتطلعون بفضول إلى عناصر المشهد .. " البيك " .. والفلاح المرمي مربوطاً بالحبل على الأرض .. وعبد السميع المتحفز كالذئب لتلبية أوامر سيده .ز وينتظرون مفاجأة اللحظة .

وبعض اقل من الحاضرين ، توقع، أن يمنح " البيك " الفلاح مبلغاً من المال ، يرطب به خاطره المكلوم .. ويواسيه بابنته ..

لكن " البيك " طلب من عبد السميع .. أن يأتيه بالمسدس ..

أخذ " البيك " المسدس .. وبنظرة ملؤها الغضب والحقد قال لوالد الطفلة :
- " ولك " كيف تفلت البنت .. في مثل هذا اليوم .. هكذا .. إنك أب قاس .. ظالم ..
وأطلق عليه الرصاص ..

كتم الفلاح صرخة الألم خوفاً من المزيد .. وتكوم جسده على الأرض مشوه الملامح من الرعب .. اصفر وجهه .. جحظت عيناه .. واتخذ فمه شكلاً مغايراً .. وشيئاً فشيئاً لم يعد يرى ما حوله بوضوح .. وشعر بغصة خانقة في صدره .

أعاد " البيك " المسدس إلى عبد السميع .. وقال له :
- خذوا هذا المجرم من أمامي ..

لما رفع الخدم والد الطفلة عن الأرض .. وحملوه وساروا به .. ظهرت مكانه بقعة من الدم ..

أمعن " البيك " النظر عن بعد في بقعة الدم .. ثم أشار لعبد السميع بإزالتها . وقال لضيوفه :
- أرجو من الله أن يكون قد مات .. حتى لايزعجني مر أخرى .

واتجه إلى طاولة عامرة بزجاجات الخمر .. والمقبلات .. واللحوم .. وملأ لنفسه كأساً .. وتمنى على الحاضرين .. أن يشربوا .. ويمرحوا .. مردداً بين وقت وآخر :
- إنه " شقفة " فلاح .. والله إن قرن الثور الذي رأيتموه يساوي مئة واحد مثله ..

بعد ساعة أو أكثر . اقترب عبد السميع من " البيك " وأسر له ببضع كلمات .. ثم انسحب متراجعاً مضطرباً .. ينتظر ما سوف يأمر به " البيك " .

ابتسم " البيك " ابتسامة غريبة .. وجال ببصره في وجوه الحاضرين .. دون أن ينطق ببنت شفة .. ثم جلس ساكناً .. شارد الذهن .. ثم نهض .. واتجه إلى المكان الذي كانت فيه يقعة الدم .. فوجدها أكبر مما رآها أول مرة . وصرخ بعبد السميع ..
- " ولك " يازفت ألم أقل لك نظف المكان ..

كان عبد السميع قد أشرف بنفسه على تنظيف الأرض من الدم .. لكنه لم يجرؤ على ذكر ذلك " للبيك " . وجرى متظاهراً تلبية أوامر سيده الجديدة .
دهش الحاضرون من تصرف " البيك " وقرروا الرحيل عن القصر فوراً .

وكلما مرت الدقائق والسويعات ، كان هاجس الدم يكبر عند " البيك " .

وفجأة وجد نفسه أمام بحيرة من الدم . وأمامه جموع من الفلاحين لاملامح لهم يحلون عقد الحبال المقيدين بها ، ويتقدمون نحوه ، والضيوف وراءه لايحصى عددهم ، معظمهم ، أو كلهم ، لايعرفهم ، واقفين شاخصين إليه باشمئزاز .. وشعر بالحصار والانكسار . فأمر عبد السميع بتجهيز السيارة ليعود إلى حلب .

دخل القصر في المدينة دون أن يهتم بشيء ، أو يكلم أحداً بما فيهم مسرور أفندي . واتجه إلى غرفة نومه المطلة على الشارع ، وأحكم إغلاق الباب خلفه . وتمدد على السرير .. لعله يستريح .
لم يدر كم من الوقت استطاع أن يغيب فيه عن حاضره . وصحا على صوت صخب وحركة غير عادية .. أطل على الشارع .. فوجد سيلاً من الدم يغرق كل شيء . وحمد الله لأن القصر عال بما يكفي ليتقي هذه الكارثة . وعاد إلى السرير . لكنه وجد الدم ينساب من تحت باب الغرفة .. ثم راح يتدفق من النوافذ وغطى أرض الغرفة ، ومن ثم غطى السرير وطالته حرارة الدم . لم يعد يحتمل .. فقفز من السرير .. وفتح باب الغرفة وهو يردد بصوت عال مرتعش من الرعب :
- مسرور .. مسرور .. أين أنت ياحيوان ..

مضى وقت غير قليل على غياب " البيك " عن الأنظار . لم يعد يذهب إلى القرية .. ولم يعد يمر كعادته من السوق الصغير المجاور للقصر ، ليتلقى تحيات أصحاب الحوانيت المنافقين .. ولم يعد الضيوف والحسناوات يراهم أحد لافي قصر القرية ، ولا في قصر المدينة . ورئيس المخفر صار يشارك الآخرين في السؤال عنه ..

عبد السميع وحده .. هو الذي حزر ماذا حل " بالبيك " . فبعد أن أمضى بضعة أشهر في السجن .. علم أن الفلاحين قد تقاسموا كروم وحقول القرية " بالقصبة " حسب عدد أفراد العائلة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استشهاد الطفل عزام الشاعر بسبب سوء التغذية جراء سياسة التجوي


.. الفنان السعودي -حقروص- في صباح العربية




.. محمد عبيدات.. تعيين مغني الراب -ميستر آب- متحدثا لمطار الجزا


.. كيف تحول من لاعب كرة قدم إلى فنان؟.. الفنان سلطان خليفة يوضح




.. الفنان السعودي -حقروص- يتحدث عن كواليس أحدث أغانيه في صباح ا