الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أنا وكلب هايدي

يوسف ابو شريف

2013 / 4 / 1
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة


ارتج المقعد رجّات خفيفة من تحتي معلنا هبوطا هادئا على الأرض . لكن تفكيري بقي محلّقا يجترّ اللوحة التي التهمها قبل الهبوط ، لمدينة رسم قلم الحداثة أدقّ تفاصيلها على خلفيّة خضراء ، وكأنّها شيء من الفضاء ، أفسح لنفسه مكاناً وسط غابة واستقر فيها .وتأكدت بعد أن ابتسم موظف الجوازات الأشقر خاتماً جواز سفري بأني قد وصلت مبتغاي ،وأن قتالي طوال سنيني العجاف لأصل إلى جنتي المحلوم بها قد شارف على نهاية موفقة.ـ
لم أشأ لحظتها تعكير صفو فرحتي بتذكّر العناء الذي كابدته لأصل إلى أرض أحلامي ، أو الجيوب والقلوب التي اعتصرتها من حولي لأستمتع بتلك اللحظات التي أعرف تماما بأن ما من أحد ممن كانو مثلي إلا ويحسدني على أني أعيشها الآن .ثم توجهت وقتها الى الأمام، علّ الهروب إليه ينقذني من تذكر أحوال أهل الخلف الذين كنت قبل ساعات بينهم ـ
في صالة الانتظار كانت منتشلتي من مستنقعي تنتظرني ،تلك التي عرفتني نادلا في مطعم ثمن الوجبة فيه تكفي أهلي لياكلوا أسبوعاً. فشلت أناقتي آنذاك في إخفاء بؤس يفضحه شقاء النظرة ، وارتجاف النبرة ، وعجزت ابتسامتي للزبائن عن طرد علامات الحزن المتجذرة تحت صدريتي . تلك الابتسامة كانت اسوأ ماتركت خلفي من قمامة حياتي ، ولا يعلم إلاّ القلائل ما تعنيه ابتسامة يجبر باذلها على القائها، مع علم من يبذلها، و من يستقبلها، ومن يجبر الأول على بذلها، ويفتح يده للثاني لتلقي ثمنها أنها شيء من نخاسة.ـ
عبرت السائحة العجوز المحيط لتبحث عن شاب يريد مقايضة شيء من عنفوانه بلحسة عسل على كسرته اليابسة ، حين يئست من أن تجده بين شباب بلادها المرفه أهلها بالولادة ـ

تمت الصفقة في المطار ، ختم تمامها قبلة استقبال ، كان طعم أحمر الشفاه المترف يخفف عني سوء التفكير في قبح المظهر وبشاعة ما ينتظرني من معشرـ
صعدتُ عربتها الفارهة المكشوفة السقف، وكأنها تعمّدَت إحضارها لتريني أكبر قدر من معالم المدينة الفارهة. كانت تتلاعب بأزرار لوحة القيادة المتناهية الحداثة حتى وإن لم يكن لها حاجة لاستخدامها، متعمدة دغدغة أحلامي بلمس أزرارها ، وايقاظ وحش المقارنة في داخلي ، بين ماض بائس عشته في صحرائي قبلها ، ومستقبل دسم ينتظرني في الخضراء معها . ولم يكن بخاف عنها أنّ بدلة النادل قد أضعفتني ، و لم يبق البؤس في وجهي مكاناً لأخفي فيه لهفتي لحياة أفضل ـ

كنت قد سمعت قبل أن تطأ قدماي أرض هذه البلاد بأنّ فيها حقوقا ودلالا حتى للكلاب. فأقسمت وقتها إن أعانني الله على الوصول إلى أرض أحلامي ، وحصلت على شيء من حقوق ، لأزهدن في الدلال ولا أنازع الكلاب المحليّة فيه
وهكذا لم أسمح لقبح مستقبلتي التي كانت عند كل توقف أمام إشارة مرور تطالبني بقبلة ، لتذكٍّرني أن لا بوابة إلى عالم الأحلام هذا إلاّ ومفتاحه في قبلها. فإن أردت الدخول كان لزاما عليّ استلال المفتاح من بين أشواك شفتيها ، التي لم تزدها إبر الجراحين إلاّ قبحا فوق قبحها. لم أسمح لكل هذا أن يعكّر عليّ صفو فرحتي بصك عبوديتي الجديد ، الذي خدرتني صدمتي الحضاريّة عن التفكير في تبعاته على نفسي
كان أول مستقبليّ حين دخلت البيت كلبا ، نبحني ولم يمنعه من افتراسي سوى كلمات صرخت بها مرافقتي فهدّأت من روعه .انتابني شعور غريب خالط شعوري بالخوف من الكلب لم أستطع استلاله من بين أطان المشاعر والتغييرات التي عصفت بي في ذلك اليوم المتخم بالأحداث . وأوقفني عن تتبع ذلك الشعور وعد قطعته على نفسي ؛ بأن أجمّد مشاعري وكرامتي ، وكل ما تعلّمته في حياتي من مبادئ حتى اثبّت نفسي في أرض ميعادي الجديدة ، وأتاكد أن شبح النادل المثقل بالديون لن يدق بابي مرة أخرى. فإن فرغت من هذا عدت لأفتح دفتر مشاعري . وأحاول استرجاع كرامتي ومبادئي ، التي علّقتها على بوابة هذه البلاد كما علقت بدلة النادل . فأداوي ما يداوى من جراحي ، وأ ترك ما لا يداوى منها للزمان ليداويها ، أو يتركها تنزف إلى أن تذهب روحي إلى متدبّر أمرها ـ

تزوجت من عجوزي هايدي بعد ثلاثة أشهر على وصولي البلاد ، وعرّفتني بدورها على كل من تعرف من أصدقاء ، مصطحبة إياي إلى كل إستقبال أو مناسبة ، متباهيّة بالصيد الذي غنمته من آخر رحلة لها إلى بلاد الف ليلة وليلة . فأحسست بنفسي وهي تعرضني على أصدقائها ، وتحدّثهم عني بحديث لم أكن أفهم معظمه بأني رأس غزال ، أو فروة دبّ علّقها أحدهم على الجدار ، مفتخرا بالصيد الذي وفّق به بعد رحلة للأدغال ـ

في تلك الفترة بدأ روعي يهدأ ، وبدأت أستعيد شيئا من توازن في حياتي . وأول ما بدأت البحث عنه في داخلي هو الشعور الذي غمرني حين نبحني كلب هايدي في أول يوم جئت فيه .
صحيح أني كنت أخاف الكلاب ، وأنزعج من قبح نباحها ، لكن شعوري في ذلك اليوم لم يكن خوفا من عضة كلب ، أو انزعاجا من صوت نباح . بل هو شعور تغلغل الى أعمق أعماقي ، وجثا فيها ، وسيبقى فيما بعد يثقلها إلى الأبد ـ
هيئ لي حينها أن الكلب كان يطرد منافسا محتملا من جنته ، جاء لينافسه على عظامه ورغد عيشه . وخفت يومها أن يأخذني حلمي بعيدا ، فأنسى نفسي ، ولا أعود أستطيع مقارنتها بعد هذا إلاّ بالكلاب ـ

اليوم هو الذكرى الثلاثون لدخولي هذه الأرض. هايدي توفيت بسرطان الثدي بعد ثلاث سنوات على زواجنا ، وآل إلي من ثروتها ما لو قسّمته على أهل حيي البائسين لكفاهم أن يعيشو ترف أهل القمة في بلادي . وصرت رجل أعمال يأتمر بأمره ألف ونيف من العمال والموظفين. تغيّر كل أسلوب حياتي ، وحياة من حولي . ولكن كل محاولاتي للتخلّص من عقدة الكلب الذي نبحني في أول يوم لي في هذه البلاد باءت بالفشل.وما زلت لا أستطيع التوقف عن مقارنة نفسي بكلب هايدي ـ








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الأستاذ يوسف أبو شريف المحترم
ليندا كبرييل ( 2013 / 4 / 1 - 04:51 )
خاطرة أدبية إنسانية مؤثرة. كنت منسجمة جدا مع صدقها وعفويتها ودقة تصوير أحاسيس المغترب إلى ... السطر الأخير فصدمتُ!!
أعدت قراءة المقطع الأخير ثانية لعلي لم أفهم قصدك، فوجدت أني فهمت لكني لا أستوعب أن كل محاولات المغترب للتخلّص من عقدة الكلب الذي نبح في أول يوم له في تلك البلاد باءت بالفشل
وقد أصبح رجل أعمال يأتمر بأمره العمال والموظفون ويعيش رغد أهل القمة...
وما زال لا يستطيع التوقف عن مقارنة نفسه بكلب هايدي؟؟
ما الذي يدعوه لهذه المقارنة البائسة؟
كيف هذا يا أستاذ؟
الأمر بيدك(أو بيده)
إلا في حالة واحدة: أن رجل الأعمال (البطل ) يعامل موظفيه وخادميه كما عاملته هايدي، ليست معاملة الإنسان للإنسان، الند للند
اللحظة التي يشعر فيها رئيس العمل مهما كان ثراؤه ومكانته، أنه يعامل موظفيه إنسانيا على قدم المساواة لا من منظور خادم ومخدوم رئيس ومرؤوس آمر ومأمور، عندها فقط يتحرر البطل من شعور مقارنة نفسه بكلب هايدي

كأن العلاقة هي: مالك ومملوك
من هنا فإن البطل لن يتخلص فعلا من شعور المقارنة هذه
كموضوع وفكرة وأسلوب ومعالجة لا انتقاد عليه
النتيجة الأهم بنظري لم توافق تمنياتي
احترامي وتقديري


2 - اهلا ليندا
يوسف ابو شريف ( 2013 / 4 / 2 - 02:15 )
الموضوع المنشور اليوم هو موضوعي الأول الذي نشرته على الحوار المتمدن ، اعيد نشره لأنه سقط من مجموعة المواضيع المدرجة تحت موقعي الفرعي .ـ
استاذتي لينداالمعارك التي دارت رحاها في داخل بطل القصة ليس فيها شريرا أو خيّرا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة ، فلا هايدي كانت شريرة القصة كما سيراها الكثيرون ولا البطل كان البطل ا بالمطلق
المسالة هنا بأن البطل وضع لنفسه خطا لمستوى انسانيته وحلمه بناءا على اوضاعه الشاقة التي عاشها طوال عمره ، وهذا الخط لم يكن يتجاوز في دماغه مستوى الكلاب الاوروبية المدللة حتى قبل أن يعرف هايدي ، ارتفع مستوى معيشة الرجل بطريقة دراماتيكية فيما بعد وحلق بعيدا حتى تجاوز مستوى حلمه بآلاف المرات لكن الخط الذي رسمه لنفسه ليحدد مستوى انسانيته وهو في بلاده لم يرتفع لأنه بقي كالوشم في حياته فقد رسم من حبر الذل والمهانة والخوف .ـ


3 - العقدة من كلب هايدي لن تمحى
سها السباعي ( 2013 / 4 / 19 - 08:23 )
الأستاذ يوسف أبو شريف المحترم
مقارنتك في محلها وبطل قصتك معه كل الحق.
في ثقافتنا الكلب مساوٍ للنجاسة والوضاعة ويستخدم اسمه شتيمة ، ويا سلام لو شتمت به أهل من تريد سبه وآباءه وأجداده!
في ثقافتهم الكلبعنوان الوفاء والصداقة وأنيس للوحدةوبديل للأطفال إن لم يوجدوا .
هناك قول شائع :
((ُEvery doghas its day))
حينما سمعته أول مرة تخيلت أن معناه ((كل كلب له يوم,)) وهذه ترجمة حرفية صحيحة، لكن
معناها العربي لو ذكرته أمام أحد سيفهم - كما فهمتُ- أن كل دنيءأو سافل له يوم يشوف سفاله ودناءته وترتد إليه. ولكن ويا للعجب، فإن هذا القول في الثقافة الأمريكية يقوله الصديق لصديقه مربتا على كتفه ومواسيا له إذا حدث له سوء حظ أو فقد مكسب أنه سيأتي اليوم الذي يعوض عن خسارته!
مهما هاجر بطلك وابتعد، ومهما طالزمنوجوده في أرض أخرى، ستظل العقد الأزلية في ركن خفي من نفسه، تطل برأسها القبيح لثانية ثم تختفي كأنما تلاعبه لعبة سمجة. قليلون من رفضوا اللعب بحزم.
تحياتي لأسلوبك الرفيع وصورك الرائعة. أدبيا استمتعت لدرجة الطرب.


4 - شكرا عزيزتي سها
يوسف ابو شريف ( 2013 / 4 / 19 - 08:54 )
ما زلت إلى اليوم أحاول تفهم مقاصد الشعوب في تفضيلها حيوان عن آخر أو شجرة عن غيرها .... وتماديهم بتفضيلاتهم تلك إلى درجة إقحامها على الطقوس الدينية ، بل وعبادتها في النهاية ....فكنت محقة جدا في أمر رسوخ الموروث الثقافي في الاذهان واستنكار الإصرار عليه ،
ولكن الأمر مع كلب هايدي يختلف كليا .... فلقد كان بامكان الكاتب أن يجعل من كلب هايدي قطة أو فأرا أو يحوله الى عصفور في قفص أو حتى أن يستبدله بشيء جامد دون أن ينقص ذلك من معنى الموضوع ..... المسألة هنا كما أسلفت في شعور بانسانية لم تكتمل .... يعبر عنها بمقارنتها بشيء لا إنساني كالقرد أو الفأر أو الحجر ......ـ
اطمئن دائما حين يعكس المعلقون على محاولاتي حسا رفيعا بالأشياء .... فشكرا لك عزيزتي على هذا الحس .ـ


5 - أفهم قصدك
سها السباعي ( 2013 / 4 / 20 - 07:20 )
أفهم قصدك، الفكرة فكرة تدني إحساس البطل بإنسانيته وحقه الممنوح له بالولادة والذي سُلب منه في موطنهالأصلي نتيجة العديد والعديد من الممارسات اللاإنسانية. ولكن هذا ما تفعله بنا قراءة نص بديع، تداعيات الأفكار. شكرا لك على إثرائنا.

اخر الافلام

.. الشرطة تقتحم جامعة كولومبيا لتفريق المحتجين| الأخبار


.. مؤشرات على اقتراب قيام الجيش الإسرائيلي بعملية برية في رفح




.. واشنطن تتهم الجيش الروسي باستخدام -سلاح كيميائي- ضد القوات ا


.. واشنطن.. روسيا استخدمت -سلاحا كيميائيا- ضد القوات الأوكرانية




.. بعد نحو 7 أشهر من الحرب.. ماذا يحدث في غزة؟| #الظهيرة