الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


- الفرج - و - عم حسنين -

أحمد فيصل البكل

2013 / 4 / 3
الادب والفن


" ساعة الفرج " .. قصة قصيرة

ولّى " موسم " المدارس بحلوّه ومرّه ، وربما فاقت مرارته حلاوته ، وها هو ذا موسم الصيف يزفر أنفاسه الوليدة ، يُصدر أنفاساً غلاظ ممزوجة بأثقال الأشهر العجاف ، مكتومة ، محمومة ، شقيّة ، نابعة من صدر أكل عليه الضيق وشرب ، بل لها وإستروح ! وأي ضيق ! ضيق الدين ، وإقتراب مواعيد إستحقاقات الدفعات الأولى لشيكات التُجّار ، والهرولة خلف عقارب الساعة ، وعقارب الساعة قد تتوقّف في أية لحظة ، فليس في مقدور أحد أن يدرك متى يبدأ الموسم في قلب السوق ومتى ينتهي ، فهو يبدأ بإقبال " الزبون " ، وينتهي بعزوفه وإدباره ، فمتى يُقبل ، ومتى يعزف ويدبر على وجه التحديد ، تلك هي المسألة التي ينتفي معها اليقين ، وإن كنت أعتى التجار وأرفعهم شأناً ، فسوق التجارة هو اليم ، وأمّا الزبون فهو النوّة التي لا يُعرف لها وقتاً ، ولا يُدرك لها ميعاداً ، ولا تُقرأ لها ملامح ، وحين تأتي فلا تبقي ولا تذر . يتغيّر على إثرها كل شيء . كل ما هنالك من فرق أن نوّة السوق نوّة مطلوبة ، محمودة ، مُشتهاة ، مُنتظرة دوماً ، وإن طال الإنتظار . والحال لا يختلف كثيراً قبل أن يحتدم الصراع في قلب السوق بالنسبة لأرباب الأعمال ، فعلي الأطراف في الواقع يبدأ كل شيء . وهم لا يدركون أيضاً ما الذي يبتغيه الزبون أو العميل على وجه الدقّة .. الجدّة أم المحافظة؟ الكم أم الكيف؟ ليس في وسع أحد التأكيد .
أنفاس الموسم مكتومة ؟! أي موسم ذاك ؟! وأي أنفاس تلك التي يزفرها ؟! إنها أنفاس التجار في الواقع ، فشهقاته من شهقاتهم ، و زفراته من زفراتهم . حركته من حركاتهم ، وسكناته من سكناتهم . نعم هو له روح ، و روحه هي ايضاً روحهم .

الرجل مازالت خفيفة داخل السوق وخارجه ، خفيفة جداً ، حد النُدرة ! في خُف الريشة ! والسؤال عن الرجل ومدى خفّتها لا يقتصر على المحال ، حيث قلب عمليات البيع والشراء ، بل يتعدّى إلى المصانع والمكاتب ، فرجل العميل للآن لا تقل خفّة عن رجل الزبون . والخفّة في حقيقة الأمر ليست خفّة الحركة ، وإنما خفّة الرغبة ، وخفّة الجيب في غالب الحال . وحالما تطول خفّة الرجل ، تتسلل وقتئذ خفّة من نوع آخر مُستقرّها ألباب التُجار ، فتطير وتطيش على إثرها .

صب اللعنات على عالم السياسة ، وكل من ينتمي إليه ، وعلى شعب أمسى في جملته بين عشيّة وضحاها يعي كل ما يقول وكل ما يفعل ، وإلقاء المسئولية على وزارات الداخلية المتعاقبة لتقاعسها عن منع تهريب البضائع الشرق آسيوية الأرخص المنسلّة عبر مواني المدن الساحلية ، ليس إلّا هكذا يفسّرون حالة الشلل التي تصيب سوقهم من فترة لآخرى .

العمال جالسون على ماكيناتهم ، وكل ما فيهم يتحرّك دون إمهال طالما أن كل ما في الماكينات يتحرك أيضاً بلا إمهال . ربما تحسبهم في باديء الأمر إن كنت لم تعتد رؤياهم أعضاء فرقة شعبيّة لإحدى الفنون الحركيّة ، وحين تطالع أرجلهم وهي ترتفع فترتفع معها تروس الماكينة ، وحين تهبط أطرافها الحديدية فتهبط معها أيديهم ، وهم لا يتخيّرون حركاتهم تلك ولا يشعرون بها ولا بوقعها من فرط ما آلفوها وآلفتهم ، ربما تُدهش وتتسائل : من السيد ومن المسود ؟ ومن يدفع الآخر للحركة المتواصلة تلك ؟ هم أم تلك ؟
إقترب أحدهم من ذلك المصنع الكائن بأحد أحياء شرق القاهرة ، وأوقف عربته " النصف نقل " بالقرب منه . وما أن وطأت قدمه أرض الشارع وبجانبه من كان يقود العربة حتى وجد في وجهه من يرحّب به ترحيباً فيه من الإفتعال بقدر ما فيه من التلقائية ، قبل أن يقوده إلى أعلى . وليس المهم من يقود بالأسفل ، فليقود بالأسفل من يقود ، ولتُختزن الطاقات إلى ما هو آت .

صعدوا ثلاثتهم إلى الدور الثالث ، المستقبِل ، والمستقبَل ، ومن خلفه السائق وفي يمناه المفتاح . ما أن دخل حتى أطلق نظرة خاطفة جابت أرجاء الشقّة وجدرانها في ثوان . قصدت نظرته كل شيء عدا ذلك الرجل الذي كان يجلس خلف مكتبه بعينين هائمتين في شيء ما كان يقرأه أو يسترجعه ، حتّى قُدّم كل منهما للآخر : الحاج حسن .. الأستاذ نادر . وهنا نظر كل منهما إلى الآخر نظرته الأولى ، قبل أن ينتصب جسد الحاج حسن منثنياً نصف إنثناءة ليرحب بضيفه داعياً إياه للجلوس على أحد الكرسيين المواجهين لبعضهما البعض على الدفّة الآخرى للمكتب . المسافة لم تكن كبيرة على أية حال ، كرسي خلف المكتب ، وكرسيين أمامه ، والكراسي الثلاثة المكسوّة بالجلد البنّى تكاد تلتصق بالمكتب تماماً ، كما ينبغي أن يكون الأمر ، فلا يجدر بأية كلمة أن تتسلل إلى خارج تلك الرقعة . رقعة المكتب والكراسي الثلاثة .

أخذ الأستاذ نادر واجبه ، والواجب كان خفيفاً كل الخفّة ، ربما ملائمةً للظرف ، للإستهلالة . مشروب طبيعي كان . ليس إلا . ثم إندفع شريك الحاج حسن قائلاً وإبتسامته - التي تبلغ حد البلاهة أحياناً - متسعة كاشفةً تلك الأسنان التي إستبد بظاهرها وباطنها القطران : وأخبار بني مزار إيه يا أستاذ نادر ؟
- أجابه وهو يمعن النظر في هاتفه كأنه يبحث عن شيء ما : نحمد الله يا حاج أشرف . الناس مستنية توزيع الشغل في أجرب وقت . أنا بجالي يومين في مصر ، والشغل صراحة في أماكن وأماكن ، وإنت تحت شفت بنفسك ضهر العربية لسه فيه أماكن . الموسم دة كتير خايفين يجازفوا بشغل كتير علشان مايخسروش بضاعتهم .
- الحاج حسن وكأنه لم يستمع إلى ما قد قيل للتو : من بني مزار نفسها يا أستاذ نادر ؟
- أجاب وهو يتلمّس الزجاجة الفارغة أمامه : أيوة . من بني مزار نفسها . ثم راح يتلفّت حوله وقال في نبرة بها مسحة ثقة ملؤها الصلف : العينات موجودة ؟
- الحاج أشرف مجيباً قبل أن يكمل الرجل سؤاله : موجودة . لحظة واحدة . وقام ليسير بإتجاه الباب الخلفي جاذباً إياه بعد أن أشبعه شريكه بنظرات تفوق في بلاغتها أي حديث ، دون أن ينبس أثناء حديثهما بحرف . فقط ينتهي من سيجارة ليُشعل الآخرى وكأنما يوكّل دخّانه بالنطق نيابة عنه . وما أن عاد حاملاً بضاعته وعيناته حتى وقف قبالة الرجل عارضاً عليه الفستان تلو الآخر ، فيُمسك هو بدوره بهم ويتفحّص كل ما فيهم ، وأعين الحاج حسن تراقب تعبيراته في هدوء يبدو مصتنعاً . نظرة إلى أعلى ، ونظرة إلى أسفل . دخان إلى الداخل ، ودخان إلى الخارج . دون كلام . والعميل يقتل العينات بحثاً ، وهو في الحقيقة لا يتفحّص عينات ، وإنما يتفحّص ذهناً لا يهدأ ، وقلباً لا يهنأ ، وبالاً لا ينعم بالراحة . المساحات المطرّزة هي الأيام والساعات التي تفلّت فيها النوم ، وتمنّع ، وإستعصى . وقطع الصناعة اليدويّة اللامعة المتراصّة هي الضحكات التي كانت تصدر على دفعات ، ضحكات ليست من الصفاء في شيء . أمسك الرجل بأحد الفساتين وأخذ يقلّبه ثم إستوقفه ظهر الفستان وقال : الحتّة حلوة . الموديل كويس . لكن سوستة الضهر مش كفاية ، الحتّة بمجاسها دة مش هتلبّس عيال كتير . عندنا في جبلي الزبون بيشتري الحتّة تعيش معاه اربع خمس سنين ، فبياخد مجاس أكبر من اللي محتاجه . كدة حتة زي دي سوجها يتحرج . فما كان من الحاج حسن الا ان قال باسماً في نبرة معتدلة : والله يا استاذ نادر الحتة بتطلع للزبون الفاهم ، وكل حتة لها زبونها . وحتة زي دي هيحتاجها زبون فاهم عاوز يلبّس بنته ويفرح بيها .
- يا حاج حسن أنا عارف اللي بجول لك عليه . زبون جدامي اخد لابنه بدلة ، الكامر كان واصل فوج سرّة العيّل ، والجاكيتة عند ركبته . زبوني هو اللي بيحكمني . لكن هي حتة حلوة . جالونها ، وجيليها نضيف ، وفيها شغل . كانت بس محتاجة اتنين تلاتة سنتي مساحة هنا وهنا علشان زبونها . وإلتفت عن يمينه إلتفاتة سريعة قبل أن يقول مشيراً بسبابته : تعرف يا حاج أشرف إن الحتة دي كمان سوجها يجف عندنا ، الزبون في جبلي يجول لك لا ، اللون الفاجع دة يلم لي الحشرات . معقول ؟ آه والعدرا . تصدج انت بجى ؟! فنظر الحاج أشرف إلى شريكه ، ثم عاد يرمق الرجل الجالس قبالته في صمت كأنما آنس وإستشرف منه هو الآخر رغبة ما .
أشعل -الضيف- هو الآخر سيجارة . صمت مُطبق ، فنظرات مستلَبة . صمت العارفون هو ، العارفون بقواعد اللعبة . واللعبة تقول أن المصالح مشتركة غير أن أحدهم فقط من يفوز . نظرة من هنا من خلف فقّاعات الدخان الملتوية ، ونظرة من هناك من خلف سحابة دخانية متكاثفة . العيون خبيرة ، عارفة بأن نظرة العين كزلّة اللسان ، فاضحة ، لا يمكن رد أثرها . لا أحد يتعجّل الحديث ، فنبرات الصوت ونغماته ، وتوقيت الحديث ، قد يكشف ما يحاول كل طرف ستره ، فالرغبات والحاجات الآن قد إستحالت إلى سوءات ، وجب حجبها ، ولا يجوز سواه . الحاج حسن يلجم شريكه بنظرة من آن لآخر ، فخفة الرجل لا تبرر ابداً خفة العقل . والعميل يرفع كل فستان على حده ، يبعده عن ناظريه ، يفتّش كل ما فيه ، ويمعن النظر به ، كأنما يجني بفعلته ما عظم من التلذذ ، ففي التقييم لذة لا ريب ، وفي التجاهل كذلك ، او في تكلّفه ، لذة آخرى ، كان يسعى الرجل القابع خلف مكتبه الظفر بها . ودون تردد سألهم الرجل : والأسعار عامله ايه؟
- باللهجة نفسها التي تخلو من أي تردد أجاب الرجل المقابل له مسرعاً : موديل 101 اللي في إيدك يعمل خمسة وسبعين .
- واللي جبله ؟
- سبعين .
- ستين .
- سبعين .
لوى الرجل شفتاه ، وجذب نفساً بدا وكأنه إستقر بين أضلاعه .
- الحاج حسن مطرق الرأس وبسمته بين شفتيه وبصره معلّق على المطفأة : قريب من النوفوتية دة يا أستاذ نادر . وكل حتة على قد شغلها انت عارف . والشيفون اللي عينك عليه دة جديد .
- الرجل وقد إحتفظ بهدوءه : النوفوتية في سوقه . فيه منه . لكن أسعارك تقيلة .
- الرجل المقابل له وإبتسامته المعتادة تطفح على وجهه : إحنا جايبين معاك من الآخر يا أستاذ نادر ، حد تاني كان ممكن يلاعبك .

قام الحاج حسن وإتجه للداخل في صمت قبل أن يقطع شريكه شوطاً لا بأس به قائلاً : نظام شغلك إيه يا استاذ نادر ؟ فأجاب الرجل وكأنه شعر أن الملعب قد إفتسح له : أنا بلم شغلي ، ولما بيتوزّع ، والناس تفرش ، والحتّة سوجها يمشي ، بسدد دفعة لكل مكان . حسابي مفتوح إن شاء الله . والمهم البلد تهدأ علشان خاطر الزبون يتطمن على جرشه .
- يقول الحاج أشرف وكأن وقع الحديث قد حفّزه للمضي : حسابنا مفتوح إن شاء الله لحد يوليو وأغس.. ، داهمه شريكه قبل أن يكمل حديثه صائحاً : يوليو وأغسطس إيه يا أشرف ؟! إحنا بنفتح حسابات لرمضان والعيد ؟!
- العميل وكأنه لم يأبه أو يلتفت لحديثهما محافظاً على ما إكتسب : أنا هاخد من الحتة دي ستين ، ومن دي زيهم ، ومن دي خمسين بإذنك يا رب .
إرتعش الوجه المقابل له ، وتداعت كل ما بدت عليه من بهجة بنظرة واحدة من شريكه ، قبل أن يقول -الأخير- في غير إكتراث بكل شيء ، خفة الرجل ، وعقارب الساعة ، وكل شيء : إحنا مابنفتحش حسابات يا أستاذ نادر ، إكتب لنا شيكاتك ، وإنزل السوق إشتغل براحتك ، وسدد على راحتك ، لكن إحنا حساباتنا مقفولة .
- أنا حسابي مفتوح مع الكل ، وبيوصل 200 ، و250 ، و300 ألف في أوقات . واحد منهم كنت عنده امبارح وحياة ربنا - قال وهو يهز يده ويبسطها على الفساتين أمامه - .
- دي طريقة شغلنا مع اي حد يا أستاذ نادر .
- ولو حتة مااشتغلتش و إتكررت تاني مرة ؟
- أول مرة علينا ، لكن لو إتكررت تاني . عليك . كل السوق بيتعامل كدة .

صمت يطبق من جديد ، وتتبعه نظرات . نظرات تستجدي في بلاهة ، ونظرات تنتظر في خبث ، ونظرات تعلن الإستسلام .
تسلّم الرجل فاتورة بضاعته ، قبل أن يدس يده في جيبه مخرجاً دفتر شيكاته . الحبر يركض ويعدو فوق الورق . شيك ، فالثاني ، فالثالث ، فسلام ، فضحكات ، فغمزات .. إلى آخر اليوم .


" عذراً يا عم حسنين " .. قصة قصيرة

عذراً يا عم حسنين فهم لا يدركون من الأمر إلا ما يرون ، وما أقل ما يرى الناس ، وما أفقر ما يطالعون . قليلُ ، فقير ، سطحي ، باهت ، شائه ، أسمر ، كلون جلدك يا عم حسنين . أسمر مثله على الدوام ، لا يتغيّر ، ولا يدركه التبدّل . حُكم نهائي ، فصل ، لا رجعة فيه ، ولا عود .
لم يكن عم حسنين قبل ذلك اليوم قد إختبر مثل ذلك الإحساس ، إحساسه بنفسه ، وإحساسه بالفزبة . والفزبة في حياته أمست هي رأسماله ، إلى جانب لسانه . فالفزبة تطلق جسده ، ولسانه يحل " كيس " الزبون ، ويفك عقدة جيبه .

والحق أن عم حسنين ليس له من دخل ثابت ، فهو يشتري بضاعة مستعملة ، أو بضاعة بها " ديفوهات " ، ومن ثم يقوم هو بإخفاء تلك العيوب برشاقة لسانه الذي يوجّه به زبونه إلى حيث يريد ، و زبونه على الدوام ليس صيداً يسيراً ، فهو زبون " المنشيّة " ، وليس زبون " جاردن سيتي " ، وهو الآخر جيبه ثقيل ، ونظره حاد . فأما ثقل الجيب فهو من صعوبة إختراقه . وأما حدّة النظر فهي من سهولة إختراقه . وعم حسنين ينتظر ايضاً في أغلب الأحيان بواقي بضاعة المحلات والمصانع ويقوم هو بإعادة تشغيلها في نطاقه . كما أن مجال عمله ليس ثابتاً ، غير أن أغلب بضاعته هي من الملابس ، ويوم رزقه هو يوم الجمعة ، حيث يذهب منذ السادسة صباحاً قاصداً السوق الشهير الحافل بشتى صنوف المبيعات . ولأنه يؤمن تمام الإيمان بأن الرزق يحب الخفيّة ، فهو لم يخل ابداً من خفة ، وزناً ، وحركة .
وفي ذلك اليوم كان عليه أن يوصل بنفسه زوجته وأولاده إلى حماته ليزورونها ، وكان عليهم ركوب الفزبة للمرة الأولى .

عم حسنين يتقدّمهم ، ومن خلفه زوجته والأولاد . الفزبة تدور ، وتنطلق . تهدأ ، وتعدو . وما أن يزيد هو من حدّة الضغط على البنزين ، حتى تتلاحم الأجساد ، يضغط فتأتلف ، ويرخي فترتجف . المطب الأول ، تعلو الفزبة ، فيعلو معها من يعلوها ، وتهبط ، فيهبط . يعلون في الواقع ، ويهبطون . يُسرع ، فيزيد ويضاعف في سرعته ، الزوجة تُحكم الإمساك به ، والأولاد يتشبّثون بها ، فيغالون في التشبّث . أجساد تلهث ، وتئن . تلهف في وحدة ، وتئن في إتحاد . لهاثها ظاهر ، وأنينها باطن . فالأولاد مازالوا صغار ، وعرض الطريق بالنسبة لهم كعرض البحر . الإشارة الأولى . يوقف عم حسنين الفزبة كارهاً ، النظرات مصوّبه إليه من خلف الزجاج ، إستخفافاً ؟ شفقةً ؟ لا يهم . المهم أنها مصوّبة . وأحدهم من داخل سيارة الأجرة يصيح في وجهه : يا أخي بيعها وهات لك " سيات " بدل الشحططة دي . معذور ! لا يدرك ما يشعر به عم حسنين الآن ولا يكاد يتسع صدره لإحتوائه .

إشارة المرور تُفتح ، وعم حسنين يضغط ، فيبالغ في الضغط . الإستمساك يتضاعف ، والتشبّث يتعاظم . الأجساد تتخبّط ، فتتوحّد ، لحماً في لحم ، وعظماً في عظم . كرة لحم ملفوفة ، بلا ثقوب ، وبلا منافذ . دون إنفصال ولا إنفصام . نظرات المساكين تتابع ، وهم حقاً مساكين ، فهم يظنّون أن الزجاج المغلق ، والأبواب ، والجنوط العريضة ، والأسقف ، إنما هي مواد تجلب الشعور بالخصوصيّة ، والأمان الباطني ، وما هم في ذلك إلّا واهمون . النظرة تصوّب ، وعم حسنين يضغط ، ويضغط ، وكرة اللحم يتعاظم تماسكها ، وماذا يضيره ؟ إنه في عز مجده الآن ، إنه يكتشف ما لم يكتشفه راكب السيارة " الفور باي فور " ذاك ، أو راكب الآخرى " الزيرو " . الضغط مستمر ، وكرة اللحم في قلب الطريق تتضخّم ككرة ثلج في قلب المحيط ، إلى أن وصلوا . فكانت الفُرقة . عم حسنين في ناحية ، والزوجة والأولاد في ناحية ، والفزبة في ناحية . إلّا أن النشوة لازالت مستبدّة بنفس عم حسنين ، ومازال يتسائل : لماذا كانوا هؤلاء ينظرون إليه هكذا فيطيلون النظر ؟ ولكن عذراً يا عم حسنين ، فهم لا يدركون إلّا ما يرون ، وما أقل ما يرى الناس ، وما أفقر ما تدركه أفهامهم !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال


.. بيبه عمي حماده بيبه بيبه?? فرقة فلكلوريتا مع منى الشاذلي




.. ميتا أشوفك أشوفك ياقلبي مبسوط?? انبسطوا مع فرقة فلكلوريتا