الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المدينة المتفاضلة

يوسف الأخضر

2013 / 4 / 5
كتابات ساخرة


حلومة طفلة بريئة ، تجوب سيرا بين أزقة المدينة المتفاضلة، تترك أختها العجوز بقصرها الفسيح و تذهب، لم تكن تعلم يوما أن الداء سيغزو المدينة، ما كل هاته القمامة على الرصيف، و هذا النبات الشاحب القصير، تهاوى الشجر ولم يبقى منه إلا القليل، كيف لحلومة الصغيرة أن تقطف زهورا لأختها بعد الداء؟ كيف لها أن تستكين للحب بعدما أصبح الكره قاعدة ؟ بعدما تجمد آخر ماء سائل، أيعقل كل هذا ؟ ماذا لو أن حلومة الصغيرة عبست و احتقن دم الورد في شرايينها الضعيفة؟ إنها طفلة لا تحب الكره و لا تعرفه، جالت معي كل دروب المدينة المتفاضلة ولم أرى حينها غير ما أحببت رؤيته، لم أسمع إلا ما أطرب أذناي، لقد كانت الماء الذي ارتوت منه كل المدينة ، لم أكن وحدي أحب حلومة بل الكل؛ إن الضجيج يملأ المكان، و يجعل المدينة تهتز تحت أقدامنا، إنه غضب حلومة الصغيرة ، إنها لا تكره أحدا لكن انتقامها شديد، أين زهورها ؟ بساتينها؟ روائحها العطرة ؟ بل بأي منطق أمست مدينتها متفاضلة؟
بعدما يسدل الليل ستاره الداكن، و يتغلف المكان بظلمته السحرية، ترجع حلومة الصغيرة لقصرها، و تسائل أختها العجوز كيف كانت المدينة قبل الداء، و تتحسران معا لما آلت له ، لقد كان الرجل إنسانا و المرأة إنسانا و الأطفال غاية الإنسان، أما اليوم فمات كلهم بغمزة حاقد لعين، شُنِقوا في ساحة الحرية، و احتضر موتهم بين الأزقة الفرعية، حتى يمنحوا الحياة لقائدهم المقدس، وأحفاده المقدسين بزيهم العسكري، نالوا رضاه بعد موتهم، و أعلنوه متحدثا بصمتهم، و ظنوه فرحا لحزنهم و راشدا لطيشهم. تنام حلومة الصغيرة و الحزن يتربص تقاسيم وجهها، تستكين مرة أخرى للنوم علّه يقيها القلق الذي يعبث بمخيلتها كل ليلة، تركت جسمها الصغير للسكينة المؤقتة، و ضاعت في غابة من السواد.
الآن ، وحلومة البريئة نائمة، تبخر كل وجود و انعدم، تبعثرت كل الكلمات و اغتربت، تهافت المتهافتون حول المدينة و ارتوَوا بمائها الملوث، أوهموا حلومة بأن الماء رذيلة، و حرموا كل أنواع الأزهار و حاكموا الحب في ليلة قمرية هادئة. لو كنت مكانهم لما فعلت ما فعلوا، لا جنون في الحب، بل هو الجنون بثوب أثمن، و من يشتهيه و يرغبه، فهو إله في صورة إنسان، و جنون منقطع النظير. أليس من الحكمة أن نحب كل الأشياء من حولنا ؟ و نقدّرها إلى أقاصي الخيال؟ أهناك شرف في تحقير بعوضة، أو الدوس على نملة مسكينة ؟ لطالما ركبوا على الموج، و ظنوا أن البحر يغازلهم، توهموا أن المطر ينهمر ليروي زراعتهم، حتى إذ هو احتبس بين مدارك السماء، فروا إليها طلبا في الإرتواء و الخلاص.
أينع نور الصباح المبعثر، و غمر أرجاء المدينة المتفاضلة في لحظة عتق و انفراج خادع ، ليدركَ آخر ما تبقى من شعاع الشمس الأصيلة، مضجع حلومة الصغيرة، و ينذرها بقدوم يوم جديد. أيقظت أختها العجوز، و احتضنتها بشوق الهائمين، و وقفتا و نارُ فراقٍ قريب يحرق ما تبقى من حنين بهما. لقد تبخر الدمع في لحظة شجاعة نادرة، انطلقت حلومة البريئة، كعادتها، تجوب الشوارع، وتحتكر كل زقاق، متمردة على إنسانيتها، لم تعد تتذكر شيئا عن الكرامة سوى حروفها المنقوشة، باستفزاز، على أحد جذران الأزقة التي تجوبها كل يوم. لن تبقى حلومة الصغيرة صغيرة، لكن رجائي، المفعم بصدقِ مجنونٍ لا يصادق إلا نفسه وإن أصدق الناس من يذمّ نفسه و يعاتبها، أنك يا حلومة! حين تصبحين عجوز دعيني أرى فيك أبدا حلومة الصغيرة و البريئة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب