الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافة: الضامن الرئيسي الوحيد لتمدن الامم

صبري المقدسي

2013 / 4 / 9
مواضيع وابحاث سياسية


الثقافة:
الضامن الرئيسي الوحيد لتمدن الامم
ان التطورات الحافلة التي تتوالى بسرعة مذهلة، وتؤدي الى التغيير في رؤية الكثير من المرتكزات في مجال القيّم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والحياتية، أدت في الحقيقة الى تغيير كبير في كل المفاهيم، ومعها مفهوم الثقافة الذي ينطوي على كل تلك المكوّنات والمرتكزات.
ويواجه الإنسان وخاصة في مناطقنا الجغرافية، وفي مختلف المستويات الثقافية والحضارية، الأسئلة التي يسألها دائماً في خصوص الثقافة، وعلاقتها بالحضارة والدين والتقاليد والسلوك والفن والأخلاق والسياسة والبيئة، بالاضافة الى المفردات الحضارية الحديثة والمعاصرة والتي تدخل المجال الثقافي كالحوار والعولمة والحداثة، وتأثيرها على الثقافة والمثقفين، وصمود الثقافة، وكيفية نشرها وتحديثها وتجدّدها.
ويبدو أن الإنسان في شرقنا العزيز، مُثقل بالهموم ومُتهدّم تاريخيا وإجتماعيا، بسبب الجهل والأمية. وبسبب الاستعمار وما خلفه من تدمير وإهمال وتجزئة، بالاضافة الى سلب كرامته من قبل الحكام المُستبدين القابعين على صدره، والذين يحرمونه من حقوقه الفردية المشروعة.
وعلى المفكرين والمثقفين، إيجاد السبل الصحيحة للقضاء على كل هذه الأسباب والمسببات لكي يكون في مقدور الجميع متابعة النهضة الحضارية الحديثة في العالم، والإطلاع على ما كتبه القدماء، والإقتداء بهم، بإعتبارهم الخميرة الحقيقية للثقافات العالمية، والأساس الذي بنيت عليها المعارف والأفكار التي لا يمكنها أن تنقطع عن جذورها. لأنه ما قيمة ثقافة، تتجاهل عن عمد أو عن غير عمد علاقتها بالتاريخ والجغرافية والأحلام والآمال التي عاشها المجتمع عبر تاريخه الطويل.
فالافكار لها قوتها ومداها الوجودي، ولها أيضا القدرة الرهيبة على التطور والانفتاح، والغزو والتوسع، وخلق الوقائع الجديدة. فهي القوة الحقيقية التي حرّكت العالم عبر التاريخ وقرّرت مصائر البشر، وأخرجت الشعوب من الظلمات الى النور، وحرّرتهم من العبودية، وقادتهم الى الحرية، وأخرجتهم من البؤس والفقر الى الغنى والوفرة.
وهناك في طبيعة الحال دور مهم للعائلة والمدرسة للتأكيد على الثقافة عن طريق التربية الحسنة والتعلم الذاتي والتثقيف المستمر وذلك عن طريق التشجيع المستمر وإعطاء الحوافز التي تخلق الاستعداد الملائم، والأرضية المناسبة لتحقيق هذا الهدف. لأن الإنسان وليد ضعيف، وليس كمثل الكائنات الحيّة الاخرى، التي تستقل عن مربيها بسرعة، وتستطيع الإعتماد على أنفسها. ولهذا يحتاج الانسان الى الركائز والمكوّنات والأسس التربوية والمنهجية والبيئية لتحضيره تربويا وثقافيا. كما يؤكد الفيلسوف الالماني عمانوئيل كانط في هذا الصدد: "الثقافة ليست شيئاً موروثاً يتناقله الناس جيلا بعد جيل، بل هي عمل مكتسب، يقتنيه الانسان من خلال حياته اليومية، وتعامله وبحوثه ومطلعاته، التي تساعده على الخروج من عجزه وقصوره، لإتخاذ الموقف الحازم والشجاع في إستخدام الفهم المتحرّر والمستقل في التأمل والتفكير بعيدا عن التبعية والتقليد الأعمى".
ومن هنا نستنتج بأن الثقافة تميّز الوجود الانساني والحضاري للبشر. فهي شأن كل عملية حيوية تنطوي على بُنية مُركبة، ووظيفة هادفة، وعمليات تتفاوت في درجة حيويتها، وتختلف في مستوى إبداعها. ولهذا تفسر الثقافة من قبل علماء النفس والاجتماع: "بأنها الضامن الرئيسي الوحيد لتحضر الأمم، والمظهر الأكمل للرقي والازدهار، والعامل الديناميكي الوحيد الذي يستطيع تحرير الانسان، من قيود التاريخ والتقاليد البالية، وإنقاذ الفرد والمجتمع من حالة الرتابة والجمود والكسل".
ولذلك يشترط بالثقافة أن لا تكون ثابتة وجامدة بل أن تكون دائمة التغيير والتجديد، بما تضيف إليها الأجيال الجديدة من خبرات وأدوات وقيّم وأنماط سلوكية مختلفة. فهي إذن كما يُعرّفها مجمع اللغة العربية: "كل ما فيه استفادة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع".
ومن هذا المنطلق يجدر بالثقافة في مناطقنا الجغرافية الخوض في التجربة الكونية للثقافة العالمية، وعدم تجاهل ما يجري من تطورات، وعدم رفض كل ما هو جديد، ومحاربة الانغلاق الذي يؤدي إلى ضعف البنى الثقافية وجمودها، وبالتالي موتها المحتوم.
ويؤكد العلماء والمختصون على ضرورة التفاعل مع جميع وجوه الثقافة العالمية، لكي لا تبقى مجتمعاتنا سجينة لثقافة منغلقة ومحدودة، بل تكون منطلقة مع ثقافة تنسجم مع الكرامة والاخلاق وتطلعات المستقبل، في الفكر والسلوك، وفي كل العوامل التي تتعلق بها.
لذلك ليس هناك لوم ولا قصور في الإقتداء بالمجتمعات المتمدّنة في العالم، والإستفادة من تجاربها في استخدام الوسائل والأساليب، لكي نصل إلى مصاف المتنورين الحاذقين، الذين لا يحكمون على الأمور من الخارج، بل يُركزون على منطق الأمور من الداخل، ويفحصونها ويتعرفون على وظائفها وأدوارها، فيقرّرون التسليم بها أو رفضها.
ولا شك في أن الإنتشار السريع والواسع للمعارف والافكار والمعلومات أدى الى فتح آفاق الثقافات والحضارات بشكل غير محدود. وكان لا بد من أن يترك ذلك أثره البالغ في ثقافاتنا التي تدعونا الى النهوض بها، وإعادة تشكيلها وإعطاءها فرصتها الجديدة بعيداً عن الأطر التقليدية القديمة المتشبثة بعناصر الماضي الجامدة والمتحجرة. ولابد كذلك من الأخذ بمفهوم النهضة المعرفية والعلمية الحديثة بشروطها وعناصرها وقواها. والتركيز على العناصر الثقافية الحديثة. ومعرفة الأخطاء والنواقص التي شابت مسيرة ثقافتنا في المراحل السابقة، والاسباب التي دعت الى قصورها للقيام بدورها التاريخي.
ولا يمكن تحقيق ذلك وإنجازه في طبيعة الحال، بعيدا عن الحرية التي هي مَكسب إنساني وتاريخي، يضمن المساواة الحقيقية للجميع، ويتضمن بالدرجة الاولى والأساس، ضمان حرية الضمير، وضمان الحريات الديمقراطية الاخرى، كحرية التعبير والنشر والتنظيم وغيرها من الامور الاخرى.
ففي الحرية الثقافية، قوة لا يمكن التهاون بشأنها، فهي الطريقة الوحيدة لتحرير الانسان من التخلف، وتحرير المجتمع من العماهة والرتابة والكسل. لأنها الشرط الضروري في تنمية المجتمع، تنمية شاملة وفي خلق الأجواء المناسبة لنهضة ثقافية حقيقية وتحقيق الإبداع في الأمور المتعلقة بها. وأما مسألة غياب الحرية الفردية والثقافية وإنكارها على الفرد، فهي مسألة تعد من المسائل المُخجلة والمضحكة خاصة في عصرنا الراهن، المليء بكل المتغيرات السريعة.
وإن كان عمر الثقافة بمعناها المعاصر، حديثاً وجديداً نوعا ما، إلا أن الثقافة البشرية وجدت منذ البدايات الاولى للجنس البشري. وهي أهم ما يميز المجتمع الانساني عن التجمعات الحيوانية بعاداتها وأفكارها واتجاهاتها المختلفة.
وقد ظهرت الثقافة، كمفهوم جديد، في القرن التاسع عشر. وهي إذن لا يتجاوز عمرها بمعناها المعاصر، حسبما تفيد كل الترجيحات، بضع مئات من آلاف السنين من تاريخ البشرية المدوّن. وتشير القواميس اللغوية العالمية الى تعريف الثقافة، وتحاول إعطاء المعنى الشامل لمكوّناتها ودلالاتها، كما في قاموس اكسفورد الذي يعرّفها: "بأنها القيّم السائدة في مجتمع معيّن، تعبر عنها الرموز اللغوية والأساطير والطقوس وأساليب الحياة ومؤسسات المجتمع التعليمية والدينية والسياسية". وقاموس وبستر Webster الذي يُعرف الثقافة بأنها: "مجموعة معيّنة من الإعتقادات والتقاليد والاراء والقيّم التي تؤلف خلفية وأساس لمجتمع ما". وتعاريف أخرى كثيرة تدل في معظمها على المعنى التهذيبي والتربوي، وتركز على إعداد وصقل العقل البشري وسلوكه اليومي. بالاضافة الى تهذيب المجتمع وتقويم الاعوجاج فيه، في السلوك والاخلاق والتعاملات اليومية.
وقد وردت كلمة الثقافة في المعاجم العربية القديمة ايضا، ولكنها لم تتجاوز نطاق الكلمة الضيّقة والمحدودة، الى نطاق المعنى والمفهوم الذهني المتحرك. لذا يؤكد معظم العلماء والمختصين على الأصل الغربي لكلمة الثقافة في جذورها اللغوية. ففي اللغة الانكليزية تعود جذورها الى كلمة cult والتي معناها: عبادة ودين، ومن مشتقاتها cultivation والتي تأتي بمعنى: حراثة وتهذيب ورعاية. ومن مشتقاتها أيضا cultural والتي تأتي بمعنى الثقافة. مما يعني أن كلمة الثقافة ترتبط في أصولها وجذورها الأجنبية بحراثة الأرض، ورعاية الزرع، والاستنبات والتوليد، والدين والعبادة. ولطالما استخدمت لفظة الثقافة في الغرب الاوروبي في الأمور المتعلقة بالفكر والمعرفة، أو بالرجل المُهذب الذي يجني الثمار من قراءة الكتب.
فالثقافة ككلمة في اللغة العربية تعني الحذاقة، وفهم الكلام بسرعة، والتمكن من الفنون والعلوم والآداب، كما يرد شرحها في المناجد اللغوية العربية. ففي قاموس(لسان العرب)، نجد أن الكلمة "الثقافة" تنتسب الى فعل ثقف، والذي يدل على الحذق والفهم، وسرعة التعلم وثبات المعرفة. وأكثر ما تركز عليه المعاجم اللغوية لمجمع اللغة العربية، هو التأكيد على معنى الحذق كجذر وأصل لكلمة الثقافة. وتوضح تلك المجامع: "أن (اللغة) تعتبر خادمة، وحاملة لمشعل الثقافة الى جميع أقاصي الارض. فعليها أن تبقى دائما الخادمة المُطيعة، وأن تقوم بدورها المشرّف في القيام بوظيفتها كحلقة الوصل بين الفكر والصوت".
لم يكن تعريف الثقافة هينا وسهلا لدى معظم الباحثين والمختصين، وذلك بسبب التداخل الغريب بين الثقافة والحضارة، وعلاقة الثقافة بالمفاهيم الانسانية الأخرى. ولا يمكن تعريف الثقافة وحصرها في إطار خاص ومُحدّد. لأن الثقافة لا تمثل شيئا واحدا، إذ يختلف محتواها ومستواها من محيط الى آخر، ومن مجال الى آخر. وكثيرا ما نجد الكُتاب الذين يتعرضون لهذه المهمّة، يقومون بجمع عشرات، بل مئات التعريفات المختلفة، والتي تقترب كلها من المعنى الحقيقي، ولكنها لا تعبّر تعبيرا دقيقا عنها، ولا تكتشف الفكرة الحقيقية لها ولمكوناتها الكثيرة. فلا يمكن لأي تعريف أن يهمل فحص واختبار كل المعاني والدلالات التي هي من مكوّنات فكرة الثقافة. وقد يكون التعريف الأكثر مُبسطا ومقبولاً هو: "أن الثقافة والمثقف متلازمان، فلا يمكن وجود الثقافة من دون المثقف، ولا يمكن وجود المثقف من دون الثقافة".
ولعب علم الاجتماع دورا كبيرا في تطوير فكرة الثقافة وتجديد النظر فيها. إذ أصبح تعريف الثقافة بعد إكتشاف علم الاجتماع أكثر تحديدا ووضوحا. فالثقافة هي من أهم الظواهر الاجتماعية المميزة للإنسان، والتي تشكل موضوعا مهما لعلم الاجتماع، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من التاريخ الاجتماعي للإنسان، ومن سيرورة المجتمع
وأما التعاريف الحديثة التي جاءت بعد موجة الحداثة والعولمة، فهي تركز جميعها على المفهوم العالمي والكوني، سواء من جانب المعرفة والعلم والتقنية أو من جانب الفنون والآداب والسلوك والتعاملات اليومية. إذ يحث مفهوم العالمية، جميع المثقفين على التكلم باللغة العالمية، بالإضافة إلى لغاتهم المحلية. وبجعلها جزءًا من عالمهم الذي أصبح موضوعيا وعمليا، عالما صغيراً يسمى بالقرية الكونية.
فمن حق كل الثقافات اليوم أن تطمح بالعالمية، وأن تكون منبعا للقيّم الانسانية العامة. وعلى الثقافة التي تنوي أن تكون عالمية وسامية، ويكون لها الاعتبار والوجود بين الثقافات الاخرى، أن تخاطب الانسان وتصون كرامته، وأن لا تنظر اليه نظرة دونية على أساس العرق والجنس والدين، كما هو الحال في مجتمعاتنا التي لا تزال تفرق بين الرجل والمرأة، وبين أتباع الديانات والقوميات المختلفة. وعليها ايضا أن تعترف بالتنوع الثقافي بصفته مكوّنا أساسيا للحقوق الانسانية، وأن تحافظ على الهويات والثقافات الفرعية، وعدم المساس بها، بحجة الوحدة الوطنية ووحدة الصف وما الى ذلك. إذ لكل شعب ثقافته الخاصة التي تعكس روحه وتراثه وتاريخه. فلا بد من احترامها وصيانتها وتجديدها مهما كانت الظروف الداخلية والضغوطات الخارجية.

صبري المقدسي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل تحرك تصريحات بايدن جمود مفاوضات الهدنة في غزة؟| #غرفة_الأ


.. ممثلة كندية تتضامن مع غزة خلال تسلمها جائزة




.. كيف سترد حماس على بيان الوسطاء الذي يدعوها وإسرائيل لقبول ال


.. غزيون يستخدمون مخلفات جيش الاحتلال العسكرية بعد انقطاع الغاز




.. صحيفة الغارديان: خطاب بايدن كان مصمما للضغط على إسرائيل