الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
رسالة إلى قارئ محتمل
فاطمة الشيدي
2013 / 4 / 9الادب والفن
1.
صديقي القارئ المحتمل:
في البدء اسمح لي ان أستخدم هذه الصفة"صديقي" معك، أنا التي لم تعد تؤمن بالأشياء والصفات كما يجب، وما عادت تتعلق بالمعانى والمبانى، كما يجب أيضا !، ولكن - نكاية في كل الأشياء- سأخاطبك بهذه الصفة؛ لتصبح أقرب لي من عابر للغة، أو للحياة، لنتعالق معا ضمن اللغة بعلاقة ما، أقرب للفكر والروح من تعالقات الحياة الهشة والمنتهية الصلاحية ذات يوم لا محالة، ليصبح ثمة هدف وغاية ما لما أكتب، ولما تقرأ، وليصبح ثمة خيط نوراني شفيف بين الكلمة والروح، وبين الأصابع التي تكتب، والعين التي تقرأ .
فأنا أيها القارئ العزيز أكتب لك وحدك، صدقني، مهما كنت، وأينما كنت، لا أكتب لي، كما يدعي الكثير من الكتّاب، فما من كاتب يكتب إلا ويحتاج لقارئ جيد، ولا أكتب للشهرة والظهور لأنني بصدق أكرههما، بل وأكره ذاتي ضمنهما، ولا أكتب لأداوي جراحي كما يفعل البعض؛ لأن الكلمة هشة وأضعف من أن تداوي، ولا أكتب لأستفرغ قيحي على الورق، فهناك منافذ أكثر سهولة للقذارات والترّهات الآدمية، لذا تأكد (يامن لا أعرفك) أنني أكتب لك وحدك، وكم يسعدني أن تحب ما أكتب، وكم يسعدني أن تجد ما أكتبه مسليا أو مدهشا، وكم يسعدني أن أجد صدى ما أكتبه بريقا في عينيك، او إحساسا لذيذا في روحك ووعيك وقلبك، أو تقول ذات مرة كما حدث ذات رسالة بريدية مجهولة الاسم، ومن بعض الكتّاب والأصدقاء: (الله ! هذا يشبهني يوما ما، أو يقولني ذات وجع!) أو تقول لي (كما حدث في انقطاعي الأخير عن النشر، من عدة قرّاء أعرف بعضهم، وأجهل الكثيرين منهم، "أين أنتِ؟ نفتقدك؟ ونفتقد قلمك وكتاباتك ونصوصك، فلا تبخلي على القارئ" ). فهذا يجعلني أشعر بقيمة ما أفعل، وأتعلّق بالكتابة، وأتعالق معها، كفعل حقيقي قادر على التأثير والتغيير، كما تجعلني كل كتابة أحلّق كطائر صغير يتعلم الطيران لأول مرة، وهو يرقب بفرح جم السماء من جهة، وأمه الحنون التي ترقي فعله المشرف وتتمنى له الاستمرار من جهة أخرى.
2.
صديقي القارئ المحتمل :
أنا أكتب لك، وأكتب عني! ومن أنا ومن أنت؟ أنت وأنا مشتركان في الكتابة، والآدمية والحياة، فهذه ثلاث مفترقات ومشتركات حتمية تجمعنا، وتفرّقنا، فكل ما يجمع يفرق كالحب والصداقة، وربما حتى روابط الدم، وكل ما يفرق قد يجمع كالحب والكراهية، الذيْن قد يتحولان ويتناوبان الفعل والحضور والكثافة والخفة والثقل أيضا.
أنا وأنت ياصديقي وجهان لعملة واحدة، أو وجه ومرآة، شيء واحد ولكنّه متعدد، كلٌ ولكنّه متجزئ، أنا أكتب لك، وأنا متعددة؛ الإنسان، والموقف، والمرأة، والذاكرة، والآن، وأنت كثير في داخلي/خارجك، وفي داخلك/ خارجي، أنت (هو، وهي، وهم، وهن)، وضمن هذه الضمائر الأربعة أقطاب كثيرة، فأنت كل من يقرأ، وكل من لا يقرأ، فأنت تنوب في فعل القراءة عن الكثيرين، عن رجل أمي يقرأ الحياة بحكمة السنين، وعن امرأة لا تحب الكتب ولكنها تحب بيتها وأطفالها والشتلات الصغيرة التي على النافذة، والعصافير التي ترعاها، وعن طفل يحبو يكتب بخطواته الشعر والفرح، وعن فقير لا يجد الخبزة فكيف يشتري كتابا؟ أو يشترك في الإنترنت، وعن مريض يشغله جسده عن روحه وعقله، وعن معاق ساخط على عالم الكتابة، لأنه بالنسبة له ترف، مقابل ما يكابد من آلام وأوجاع وحنق على السماء والأرض، وعن رجل أعمى ليس قدرة على شراء كتب بلغة برايل، أو حتى لم يتعلم القراءة بها، لأن المدارس لا تحفل بالعمي إذا كانوا أكبر من سن التعليم، ولكنهم جميعا في روحي وروحك معا.
وأنت تنوب أيضا عني؛ لأنني أعوّل عليك في فهمي، أنا التي قد لا تفهم ذاتها كثيرا، كما أعوّل في عليك في فك شفرات النص، وتوابعه وإحالاته ومرجعياته النفسية والاجتماعية والروحية، وهذه أصعب الحالات، بل وإضافة نصك الخاص إلى نصي، وربما الذهاب به أبعد مني ومما قصدت.
أريد منك أن تقول لي هذا النص يعجبني لأنه كذا وكذا أحيانا، وأحيانا أخرى تقول هذا نص جميل وفقط، لأن مواطن جماله كلية وغير مجتزئة، وغير قابلة للشرح، كامرأة لا تعرف أين موطن جمالها لكنك تعرف أنها جميلة وحسب. وهذا النص به نقص وعله هنا أو هنا، أو في مكان ما لا تدرك كنهه لكنك تدرك علته، وتأثيره في الكل وفي روح النص، نعم روح النص هذه هي الأهم، روح النص التي هي محصلة روح الكاتب والقارئ معا، روح خفية لكنها ملموسة، جمال كلي، لكنه يتشظى، ويتداخل ويتلامس، ويتلاحم مع من يتماس معه، ويلتحم به، ويظهر في تذوقه ووعيه لاحقا.
3.
أيها القارئ المحتمل، العابر للأوراق وللحروف:
أنت لا تعلم كم تساعدني لأكتب، لأصعد وحيدة كطفل شقي بين رفوف الكلام، وبين مفاصل الحروف، وفي قلب اللغة الضوئية، لأستعيد عافيتي النفسية واللغوية والإنسانية، وأصيب قلب المعنى بضربة قلم، لا تعرف كيف تعينني لأعتني بلغتي، لأنني أكتب لك، لأنني أعلم أنك ستقرؤني، وستتلمظ حلاوة لغتي أو مرارها، فأنا أعرف أنك هناك على الجانب الآخر من اللغة، ومن الحياة ومن الكلام، أنت هناك ترقب خطواتي، وكلماتي في الأفق والوجود، وفي الصفحات والصحف، وأنا أدرك هذا جيدا، وهذا يربكني قليلا، نعم، ولكنه أيضا يفتح لي أبواب الدهشة، والمتعة، ويضعني أمام مسؤولية أخلاقية قصوى حول ما أكتب، وعما أكتب. كي لا أذهب في النرجسية كثيرا، ولا استمتع بشوفينية الألم المحض، ولا عافية الذاتية الشديدة، بل أشاركك زوايا لغتي، وأنتبه لما يجمعنا من ضمير أممي وجمعي، وأعتمد الصدق فيما أكتبه لتصدّقني، فالصدق هو تلك الحالة الخفية التي تجمع الكاتب بضمير القارئ الذي يثق به، وأعتني بما يجمعنا، بروحي التي يجرحها الألم كروحك تماما، بقلبي الذي يكسره الحب كما يكسر قلبك تماما، بوخزات الحياة التي تتركنا مخدرين، وبصرخة طفل جائع آخر الليل، أو طفلة يحق لها أن تذهب في الحياة حرة متمتعة بكل ما يكفل لها إنسانيتها، وبوردة ذابلة على الطريق تستحق بعض الماء وبعض العطف والرحمة كما طائر وحيد أيضا، وبجرح مفتوح في وجه الكون ينبثق منه دم حي وحار، يستحق القليل من الخجل من هذا العالم الوقح.
أعتني بالجمال الذي علينا أن نعتني به في الشارع والبيت والمؤسسة، الجمال الذي ينطلق منا ليتوزّع في الكون، الجمال الذي يؤاخي بين الماضي والحاضر، بين التراث والعمق، أعتني بذائقتنا التي عليها أن تتجاوز التحجر والتقييد والتقليد، لتذهب في العميق والجديد والحر من الأشياء، أعتني بوعينا الذي عليه أن لا يكون متكلّسا ولا رجعيا جامدا، ولا مهزوزا مرتعبا، بل يكون حرا منطلقا، مختلفا مع الآخر بمحبة وإنسانية ولطف. وعيا ينطلق من الفكر الجمعي، والحالة الإنسانية ويعتني بالفنون جميعا كالموسيقى والرسم والمسرح والسينما وغيرها، بوصفها روح الحضارة والكون والمحبة وأفق الإنسان الحي وروحه الخلاقة.
وحين ألمحك هناك أبتسم لك من بين الحروف، وأنا أكتب الجمال والقبح، وعن الإنسان بوصفه إنسانا طيبا تارة، وغادرا وخائنا تارة أخرى، رجلا نبيلا يرفع حجرا من الطريق ويمسح دمعة من قلب عجوز في ظلمة بلا ضجيج، أو رجلا يزحف كالزواحف السامة ويتحين الأدوار المناسبة لتسلق آخر في وظيفة أو حياة أو مكانة أو مكان، أو لقهر أنثى أو سرقة مال. تلك الحالة الآدمية الموجودة في هذا الوجود بثنائيتها الملتبسة أحيانا حتى التوحد (الشيطان والملاك)، وفي جميع المستويات. فالأشياء في الحياة والوجود والدواخل ليست ناصعة تماما، وربما الغايات التي لا تبرر الوسائل هي التي تقدم لنا بعض التفنيد والتصنيفات الحية والجاهزة لهذه الحالة فقط، وعلينا أن نكتبها ونقرأها بعمق ووعي، حتى نفتت ونفكك حزم الأوهام الجاهزة عن ملائكية الإنسان أو شيطنته، عن الغايات والوسائل، فمتى ما فهم الإنسان ذاته، وواجها يدرك هو والآخر قبح ما يفعل وربما يتراجع عنه، ويغيره، ويصبح أقل شرا، وأكثر جمالا ونذهب في الإنسانية الحقيقية أكثر ، كشعوب وأمم متقدمة ذاهبة نحو الغد باستعداد ووعي، ورقي إنساني محض قائم على الوعي والتعددية والحرية والجمال.
4.
عزيزي القارئ المحتمل:
ربما يخطر في بالك سؤال لماذا نكتب؟ وماذا نريد تحديدا من الكتابة، غير أن يقرأنا قارئ مثلك، ويتأثر بما نكتب، أي على صعيدنا الشخصي ماذا نريد منها؟ لا أعرف حقا لماذا؟ فالكتابة أحيانا هدف وجودي عظيم، وأحيانا أخرى ليست أكثر من محاولات موجعة لدرء الملل، أو للتغلب على الشوق، أو لقضم عرى الوحدة، ورقة نتسلى بها في غمار الأيام لنروّض الخسارات، ونلهم الفقد لحظة فرح أو تدوين.
أعرف أن دورك الذي أتقاسمه معك كثيرا، وبمحبة وشغف "القراءة"، أهم وأجمل وأسهل في التعليل والتبرير من الكتابة، فنحن نقرأ لأن القراءة عالم ملئ بالمعجزات، تستضيفه أرواحنا الكسيحة، فيفتح لها أبواب الرحمة والفرح، نقرأ لنعرف آخرين ذهبوا بجمال، نتمنى أن نتشبث بأطرافهم، لنتخيل أننا هم قليلا، قليلا فقط، لنتقارب مع حيواتهم وأرواحهم وأحلامهم، أو حتى مع خساراتهم أحيانا، نقرأ لبعيدين عنا في الزمن والمكان، لنحبهم حين نفقد الحب الحقيقي، ونبكي معهم ولهم، ونتعلم من تجاربهم، وغالبا وكثيرا نتخيل أنفسنا مكان أبطالهم، فنشعر أنهم يكتبوننا، أو يكتبون عنا، وما أجمل أن يحمل أحدهم عنك عبء الكتابة الشاق. نقرأ لنهز رؤوسنا بحكمة مع التاريخ، ولنتعلم دروس الحياة، ونطلق "نعم" من عمق أرواحنا، على كل جميل ونبيل في هذه الحياة.
نقرأ لنسافر بأجنحة خارج مقاعد الطائرات، والسيارات، والقطارات ونحن فيها، نقرأ لنحلم حين يكون الحلم مستحيلا في هذه الدنيا المسوّرة بالممنوعات والخذلانات. لهذا وأكثر نحن نقرأ.
ولكن لماذا نكتب؟ وكل شيء بالضرورة قد كتب قبلنا، أو يكتبه آخرون، وربما بشكل أجمل مما نستطيعه نحن، وهذا السيل من الكتب والكتّاب ينهمر بين أيدينا كل عام ، بل كل يوم ؟
صدقني أنا شخصيا لا أعرف؟ وهل عليّ أن أستمر في هذه اللعبة الطازجة/الجارحة أبدا؟ لا أعرف أيضا، فالمعنى الكبير للكتابة هو أن تفصح عما في روحك أو في روح الآخرين، لكني وببساطة لا أريد أن أفصح عما في روحي، أولا يمكنني ذلك، فمن يستطيع أن يكون شفافا في هذه الحياة الحمقاء، وفي هذه المجتمعات المريضة، كيف يمكن لإنسان أن يكتب عما يعتريه من حزن أو وجع، أو حتى إعجاب بشخص ما، أو بفكرة متحررة، أو كره أو احتقار لأحدهم، أو لعمل ما، خاصة إذا كان هذا الأمر سيبدو مختلفا مع رأي الجميع، حينها على الأقل ستخضع لتأويلات غريبة من الآخرين، أو ستكون مضطرا للرد على مهاترات غير موضوعية، ستدخلك في دائرة التبرير، والردود التي تفتقد للموضوعية الذاتية، وهذا بالنسبة لي ممل جدا، ولا أطيقه، بل ربما يكون نصيبك منها أكثر من ذلك، وأشد وجعا وقهرا، كما حدث في كل زمان ومكان للكثير من الكتاب مما يدعو للأسف، أو التفكير الجدي في الامتناع الكتابة، أو في جدوى الكتابة أصلا .
أيضا الكتابة في حد ذاتها محنة كبيرة، فأحيانا تأتيك الكتابة وأنت نائم، أو شبه نائم في سريرك، أو ضمن حالات لا يمكنك فيها التدوين، وسط الناس، في الحمام، في اجتماع عمل، وأنت تأكل، وأنت تسوق السيارة، لذا تكتب في رأسك فقط، رأسك المثقلة أصلا، كدفتر قديم حافل بالكثير من المواقف والشخبطات والخطوط الحمراء والسوداء، أو كذاكرة جهاز كمبيوتر قديم ممتلئة تقريبا، وتنذرك بذلك كل لحظة لحذف بعض مما وضعته فيها، وتضعه كل ثانية، وتتوخى الحذر من أن تصاب بالتوقف ذات لحظة فيذهب كل شيء أدراج الرياح، ولذا فأنت قدرك صداع التشبع من كثرة ما علق براسك المسكين، وقد تفقد الكثير من أفكارك لأنك لا تستطيع تدوينها في مكان مناسب في كل وقت، وبذا تفقد جزء من روحك ومن نفسك ومن عقلك ووعيك وأحلامك وهواجسك، كما وأنك أحيانا لا تستطيع الكتابة أبدا، وأنت تريد ذلك فعلا، وتحتاجه بشدة، بل وتستجديه بضعف ووهن، لتتخلص من سطوة شعور ما، حزن، وجع، حب، شوق، أي شعور كبير يجثم على صدرك، ويوجعك وتحتاج أن تتخلص منه بالكتابة فقط.
هذا ناهيك عن فكرة أن الكتابة ليست ذات مردود مادي، وأنك كإنسان تحتاج لأبسط ممكنات الحياة وحاجاتها، من مسكن ومأكل ومشرب، ولذا تتركها غالبا سعيا وراء الرزق، وعن فكرة النشر التي قد تجعلك مضطرا للدفع لنشر كتابك، فتصبح أنت تعيل الكتابة، كأم عاجزة أو طفلة محتاجة للعون، بدل أن تعيلك هي!
وفي الكتابة تحديدا وغالبا على قدر الصمت والحزن والغربة والألم يتسع الكلام، ففي الكتابة أنت في موضع دوار كلي فأنت لا تأمن الأرض التي تبتز خطواتنا، وتقامر نعلينا بلفحة قيظ، وعند الهاجرة تهدينا شبق الدوار؛ فقط لتجرح أرواحنا بالطعنات التي تجعلنا نكتب أكثر وأجمل، ولكن من يريد ومن يطيق كل هذا لأجل نص، مهما كان جميلا، ومهما كان القارئ مستمتعا ومنبهرا.
ولكن مع كل هذا لا أحد يعتزل الكتابة غالبا، لأن الكتابة بالنسبة للكاتب خلاص وجودي نهرع إليه كلما أعيتنا الحيلة، وضاقت بنا الوسيلة. ولعل في وجود قارئ مثلك على استعداد لقراءتنا بحب وجمال، وافتقاد حروفنا إذا ابتعدنا أو صمتنا قليلا؛ ما يضاعف حالة النرجسية تلك، وتصديق فكرة أن الكتابة قدر، وحتى إن لم تكن قدر جميل، فهي قدر حتمي، وليست كل أقدارنا رائعة أو مواتية، بل نحن لا نختار أقدارنا وحيواتنا وأهلنا وتاريخنا أو حتى أمراضنا، وأوهامنا الجميلة، نستيقظ لنجدها تسكننا ونحن نسكنها، لنجدنا ضمنها فقط، وهكذا أيضا في لحظة ما تتفتح أرواحنا وأجسادنا، وتتقدم أصابعنا وتبرز عضلاتها، وعروقها في عناقها الحاد للقلم، لنجد أنفسنا مصابين بالكتابة، وأحيانا بالكآبة أو كلاهما معا، مصابون بجرح مفتوح لا يشفي إلا بالبوح التام والثرثرة حول رأسه الممتلئ بالهذيان كممسوس، وما أن يتجلّى في الحضور والبوح حتى يشفى قليلا لبعض الوقت قبل أن تعاوده نوبة الهذيان أو المس بعد فترة أخرى، نوبة الوعي والصداع، نوبة الألم الحاد الذي لا تشفيه سوى الكتابة، وهكذا علينا أن نكتب دائما، وباختيار عميق وجاد لما يمكننا أن نكتبه، لما يشبهنا، ويقولنا، ويعزز إيماناتنا، وقناعاتنا بالحياة والإنسان والجمال معا.
5.
صديقي القارئ المحتمل:
سأسر لك بوشاية ما، قد تخصنا أنا وأنت، وقد تخص كل من يمشي على قدمين في هذه البسيطة - وهذا مدخل ليس مناسبا تماما للكثير مما أريد أن أخبرك به - فأنا أريد أن أخبرك بأن عبورنا في هذه الحياة امتزاج من الوهم والحزن والفوضى، وأحيانا قليلة من إرادات ضمنية، ووثبات قليلة، ولا تنازلات قهرية، أي أننا مجبورون حتى على عدم التنازل. ببساطة أننا جميعا منذ جئنا إلى هذه الحياة غير الطيبة تماما، وغير العادلة أبدا، ونحن قابعون عند محيط الوجع، ومع هذا لا يمكن لنا أن نتخذ هذا مبررا كافيا للسقوط أو التلاشي، أو للقتل البارد، أو حتى للفصام المزمن الذي يعاني منه أغلب البشر في هذه الحديقة الكونية، غير الصالحة للنزهة أو للحياة، ولا حتى للكتابة عن كل ذلك، لأن ذلك سيجعلك مدونا أسود، بحبر أسود، في حياة سوداء .. ياللقبح! ومن يطيق هذا، ومن يريد أن يكون ضمن هذا الوجع المستمر والممتد؟
لذا علينا كثيرا أن نسعف الروح والإنسان بالكتابة الممتلئة بالخير والعدل والحق والجمال، وبالحب والمحبات الحقيقية أو المصطنعة، الحاضرة أو الغائبة، الذاهبة في الزمن أو في المكان، المحبات الكونية والإنسانية الدافئة والجارحة، نكتب عن صوت يجرح أرواحنا بدفئه، عن كلمات أثنت عزمنا عن الموت قليلا أو كثيرا، عن معنى أيقظه لحن في أرواحنا، وفيلم أسعف الفتنة ورفعنا للتجلي والسكر.
نكتب عن صديق تحدى ذاته في الإعاقة، وآخر أسعف الموت بالذاكرة، وترك لنا بعده الكثير مما يمكننا أن نحكيه عنه، نكتب عن كتاب عظيم، وكاتب جميل، ووهج أغنية.
نكتب من التاريخ الذي يربي الحاضر، ومن الحاضر الذي خذل التاريخ، وضحك منه، نكتب عن الجمال الذي في القبح، والقبح الذي ينبثق منه الجمال، نكتب بمحبة وجمال يليق بأرواحنا، جمال يشبه الشعر الذي يسكن القصائد، والذي يتسع خارجه، نكتب عن الماضي الذي له رائحة الحنين، وعن الحنين الذي يتلوى شوقا لمعانقة الغد .نكتب بما يليق بقارئ مختلف، بما يليق بقارئ محتمل (يشبهك ويمثلك)، يخاطبه النص في تصاعداته وإنسانيته وجماله وشغفه بالحياة.
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. فيلم الحريفة 2 يحصد 11 مليون جنيه خلال يومي عرض بالسينمات
.. احتفاء كبير بصناع السينما المصرية وبفيلم البحث عن منفذ لخروج
.. أون سيت - لقاء خاص مع الفنان عمر السعيد | الجمعة 6 ديسمبر 20
.. تجمع لعرض ثقافات وفنون الدول في العاصمة واشنطن | أميركا هذا
.. أون سيت - فيلم Moana 2 يتصدر إيرادات الافلام الاجنبية في مصر