الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطين

عبد الفتاح المطلبي

2013 / 4 / 10
الادب والفن



مثل عصفورٍ مبللٍ ، أوصلتني أمي المتباهية ًبابنها الذي سيلج هذه البناية ، لا مثيلَ لهذه البنايةِ في الناحيةِ وربما سترى مدير المدرسة الذي يأتي من المدينة كل صباح ويُغادرها عند الظهر وعند ذاك ستجيب جاراتها عن أسئلةٍ كثيرة خمنت أنهن سيسألنها عند العودةِ ، انكسر بهاؤها وتبخر كغيمة الصيف العابرة عندما اقتربت من (إبريهين) الفرّاش وهو يزعقُ على التلاميذ الصغار الذين أبدوا تلكؤاً وعناداً في دخول المدرسةِ، وبصوت منكسر قدمتني إليه ثم فرّتْ هاربةً إلى بيتها الطيني الذي وضعها فيه أبي المسافر دائماً وهي تشعر بالرضا عن نفسها فقد نجحت بإيصالي إلى المدرسة وقابلتْ رجلا مهما فيها مثل (إبريهين) الفرّاش ، صحيح أن (إبريهين) هذا ليس كالمدير الذي يسمع به الناس ولا يروه، ( إبريهين) هذا ليس نكرةً فالجميع يعرفه ويعرف منطقة نفوذه الممتدة من باب المدرسةِ إلى ساحتها الداخلية ، أما أنا فقد كنت أشعرُ أنني على وشك فقداني لوعيي في تلك اللحظة التي دفعني فيها ( إبريهين) إلى الداخل، استعدتُ هدوء نفسي شيئا فشيئا وهي ترضخ لشعورها المتباين بين الرهبة والدهشة من هذا البناء المطلي من الداخل بمعجون النورة الأبيض وتلك الأعمدة الحديدية البيض والنوافذ التي كانت كريمةً جدا في إدخال ضوء النهار إلى الصف، السماءُ تمطرُ بغزارة أثناء الإستراحة وأنا أنظر لساحة المدرسة الترابية وهي تفيض بمياه المطر وفي وسطها تنتصب شبكة الكرة الطائرة وحيدةً يقطرُ الماء من خيوطها وعلى بعد متر من مكاني الذي أقف فوقه تكونت بركة ماءٍ صغيرةٍ امتلأت بفقاعات الماء وهي تنفجر بالتتابع لتولد غيرها ، آلمني أن تكون الشبكة وحيدةً وسطَ المطر وأسِفتُ لقصر عمر الفقاعات ، في تلك اللحظة شعرت بإلفة كبيرة نحو هذه الفقاعات وتلك البركة التي تشبه تماما البركة التي تحصل في باحة بيتنا الطيني أثناء المطر وفي غمرة هذ الألفة التي اسشعرتها تلقيت صدمة عنيفة ألقت بي في البركة التي غمرني طينها وصبغني وحلها من قمة رأسي إلى أخمص قدمي كان عمر نشوتي بيومي الأول في المدرسة قصيرا كعمر الفقاعة و أنا بين تلك الفقاعات التي فرت هاربة ، لم أشعر إلا وأيادٍ تنتشلني وتضعني تحت مظلة الصفوف و من ثيابي يندلقُ طينٌ سائل، التلاميذ الصغار يضحكون وأنا أبكي بمرارة حتى رق لي(إبريهين) الفراش ودفعني من خلال الباب إلى الطريق الطيني الزلق قائلا إذهب إلى أمك وعدْ غداً ، انزلقت قدمي وجثوت في الطين مرات عديدة ، في تلك اللحظة كرهت الطين الذي لوثني وكرهت الطريق الطيني وبيتنا الطيني وكرهت الأولاد الوقحين، منذ ذلك اليوم وأنا أواصلُ كرهي للطين، مرّ على ذلك زمنٌ طويل كنت أتجنب خلاله الطين قدر ما استطيع أما الآن وأنا في العقد الثالث من عمري أجلس في الصف الثاني من صفوف كراسي هذه القاعة الفسيحة أستمع لدرس في الحضارة ، كانت كلمة الطين تتردد كثيرا على لسان المُحاضر ،ألواح الطين ، المكتبة الطينية ، كاتب الطين ..طين ...طين..حملني رنين هذه الكلمة إلى تلك اللحظة التي كان فيها الكون كله طيناً عندما فتحت جفني في بركة الطين استعدتُ في تلك اللحظة خوفي واندحاري وشتيمة الوحل بعيون أقراني، كان يرن صوته بإذني وأنا أتهياْ لمقاومته بكل طاقتي ، أغمضتُ عيني ورحتُ أمارس ُ إقصاء رأسي بعيدا عن المُحاضر والقاعة وعن الطين ، مرّ زمنٌ وأنا أحاول ذلك ، لكنني بعد برهة وجيزة انتبهتُ إلى نوع ٍ من الصمت المستفز الذي اقتحم وجودي رغمَ إغماضي لعيني راح الطينُ يهيمن على تفاصيل الوجود ويمحوها شيئا فشيئا ثم يحل محلها وطفقتُ أقاوم انتقالي القسري عبر خطوط الزمن المبهمة ورغم استمرار هذا الصمت كانت الذاكرة تحفر نفقها كدودة قد خبرت فعل ذلك، الآن لا علم لي بما حصل،لم تعد العيون تعني شيئا ولم يعد الزمن كما هو وكأنه قد ألقي خارج كونه واستحال كل ما حولي إلى طين ، أفتح عيني ببطئ ، أتحسس معالمي بأصابعي التي بدت مثل أصابع طينية ، صف الكراسي الذي أمامي كان هو الآخر بلون الطين ، الجالسون وجدران القاعة والمُحاضر والمنصة كلها طين ، راحت مخلوقات الطين تنهي وجودها بلا ضجة ، فالطين حتى لو وقع من علٍ لا يُحدثُ ضجة ، مجرد صوت مكتوم مثل صوت بصقة على أرضٍ طينية انسربت كائنات الطين واحدا ُ إثر آخر إلى عوالمها ولم يبق غيري محاصرا بكونٍ طيني أخشى من حركاتي مؤملا أن أكون في حلم طارئ ولكن الأمر تعدى ذلك ها أنا أجس ساعدي بأصابعي شاعرا بفعلها كما يفعل الطين بالطين ، وعندما خرجت كنت آمل ُ أن أغادر هذا الطين أو يغادرني لكنني وجدته في كل مكان ، السماء بلون الطين ، الهواء ، الناس الذين يمضون لسبلهم لا ألوان لهم غير لون الطين ، شعر رؤوسهم ، ما يرتدون ، ما ينتعلون ، كل شيء بلون الطين ، وعندما أقول ذلك أعنيني أيضا ، فأنا ومنذ استرسال المُحاضر بحديثه الطويل عن حضارة الطين لم استطع الإفلات من سطوته التي تستطيع تحويل كل شيءٍ إلى طين ولم استطع مغادرة تلك اللحظة في بركة المدرسة ، آه أدركت الآن أن العالم منذ تلك اللحظة التي انتصر فيها الطين على فرحي واندهاشي بيومي الأول في المدرسة وخيبة أمي حين رأتني في ذلك اليوم الماطر كقطعة من طين أقولُ منذ تلك اللحظةِ صارالعالمُ طيناً وعندما سألت أحدهم وأنا أهيم في هذا العالم الطيني ، عن حقيقة الأمر رد علي باقتضاب وعلى طرف شفتيه اللتين تشبهان طينا يابسا : كلنا من الطين وسنمضي إلى الطين ، قلتُ له أرى الجو متربا بلون الطين ، ليتها تمطر، قال: ما الفائدة؟ المطر سيزيد الطين بلّةً !، رجعتُ من مسعاي في المدينة ، كان اللون الغريني يملأ السماء ، أشجار الحديقة بلون الطين وعندما دلفتُ إلى داخل البيت لم يستغرب الجالسون هيئتي الطينية كما رأيتُ أنهُم عاديون بلونهم الطيني ألقيت بجسدي المتراخي كالطين على فراشٍ بلون الطين و كان التلفازُالذي يبدو مثل مستطيلٍ من الطين ينقل تصريحا للجنة البيئة في البرلمان ،(( العاصفة الترابية التي تجتاحنا الآن ستعقبها ثلاثمائة عاصفة أخرى)) وتوقعت الأرصاد أن يصاحب ذلك مطرا في غير أوانه ليتحول كل شيء إلى طين حينَ ذاك أخضعتُ نفسي لهدنةٍ إجباريةٍ مع الطين آسفا على كل ما مضى من محاولاتي البائسة للتعبير عن كرهي للطين وكان علي أن أعرف مبكرا إن ماجرى في المدرسة منسجما مع البيت والشارع والمُحاضر والهواء وأسِرّتنا وإننا في الحقيقة ليس غير تراب وماء .. لسنا غير طين، رحتُ أقلب قنوات التلفاز كانت محطة ( سي أن أن الأمريكية) تعرض طفلا أمريكيا موهوباً يستطيع تشكيل الطين كيفما يشاء وبدقة عالية ، حقا كان طفلاً موهوباً أخذني النوم وأنا أراقب نجاحه الباهرفي التحكم بالطين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بطريقة سينمائية.. 20 لصاً يقتحمون متجر مجوهرات وينهبونه في د


.. حبيها حتى لو كانت عدوتك .. أغلى نصيحة من الفنان محمود مرسى ل




.. جوائز -المصري اليوم- في دورتها الأولى.. جائزة أكمل قرطام لأف


.. بايدن طلب الغناء.. قادة مجموعة السبع يحتفلون بعيد ميلاد المس




.. أحمد فهمي عن عصابة الماكس : بحب نوعية الأفلام دي وزمايلي جام