الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الوراكَين

فريد الحبوب

2013 / 4 / 11
الادب والفن



ما قبل ذلك الحادث ، كانت دار جابر التي هُدمت منذ زمن بعيد ، أشبهُ ما تكون بمزار......
كان جابر الرجل الحنطي البسيط ذو طلةٍ محترمةٍ وأكثر أحساساً بالواقع المرير من الجميع ، كان طويل القامة وصاحب شعر أبيض مثير وعيون سوداء كبيرة ، ونظرةٌ هادئةٌ تذهب إلى أعمق مما تراه، نظرة فلاح تأسرهُ أمواج السنابل تحت ريح الأصيل.
كان في الصباح الباكر يجلس في فناء دارهِ يستمع لزقزقة العصافير ، لصوت الفخاتي في نايها الشجي، وهي تبدد المخاوف في قلبه الضامر ، ومن ثم ينطلق ليقطف ورق العنب مع "الوراكَين" حتى الغروب.
وفي الليلِ يجلس على حصيرته المهترئه ... يُحيي الأحلام في قلوب الزائرين ويبعث بهم الحياة، أذ كان ومنذ طفولته، بنبرته الجميله، وتعابيرهِ المشوقة يُفتن الجميع ، ينثر خيالاتهُ على كفوفهم ، ويقلب كل ما يطفح على خطوط أيديهم . ناظراً لما سيجري في السنوات القادمة. كانت المسافات البعيدة للزمن تتعرى تحت تأمله العميق. ويندر مَنْ كان يراودهم الشك بنبؤاته من أهالي تلك القرية التي تتوسط مزارع العنب ، حيث اناسها البسطاء البريئين من كل شيء عدا المحبة والطيب ومرح الأغاني . ستة وعشرون منزلاً ومائة وسبعة وأربعون شاباً وشابة وشيوخ وعجائز وصبية وأمهات واباء متوسطي العمر . يعيشون على الأوراق التي تَخضر في بداية الموسم ، وحين تُكسى الأغصان بالكامل ، يتم قطفها وجمعها ومن ثم بيعها بثمنٍ بخس لأصحاب معامل التعليب، وبعد إن تتجرد الأغصان من الورق. ينتظرون إن تنضج عناقيد العنب ليملاءوا السلال وسط فرحاً عارم يملئ قلوب الفلاحين.
غير إن ألامور تبدلت ، ففي سنةٍ هي الأهم لحكايتنا ، هبت رياح قوية وعاتية ، بالحقيقة كانت عاصفة هوجاء قطفت محصول العنب ورمت به إلى النهر الذي يكاد يلتف حولها بشكل شبه كامل ، لقد كانت خسارة فادحة ، أعقبتها ظروفٌ صعبة وعناء حياة مليئة بالحزنِ والآلام. وفي ذات السنة نفسها التي ظهرت فيها شائعات حرب قادمة لا محال ، أمتنع جابر عن النبؤات، وفضل الأنزواء ، وتغير حال تصرفه إلى غير ما كان عليه، ولم يعد يفضي بشيء . وصارت عيونه المطمئنة تسرح في غير اطمئنان . كما غير سلوكه اللطيف وكف عن معاملة الناس بأحترام وود ، وأخذ ينهمك بشكل غريب ، يصنع توابيت مختلفة الأحجام تحت ظلال النخيل غير أبهاً لبرد الليل ولجة الريح القاسية ، كان كل شيء يختبئ خلف جدار صمته اللامتناهي ، وفيما كانت النخلات الجاثمة بظلالها على منازل القرية ومزارعها تهز رؤوسها استغراباً لما يفعله جابر . أخذ جسده ينحف وتجف غضاضته وتغور عيناه في هلع مريب ، مما أفقدته سحره وفتنته وجماله . حتى لم يرضى بزيارة القريب والبعيد عنه ، بل رفض حتى زيارة زوجته المريضة الراقدة في بيت أبنتها المجاور لبيته. وبعد القطيعة التي أستمرت أكثر من شهر بدأت تظهر كومة التوابيت ويزداد عددها شيئاً فشيئا ، مما أثار استياء الأهالي ، ودفعهم لقول مختلف الأقاويل ، وتصوروا أنه جُن وفقد عقله، ولكم كان يؤلمهم وهم يطالعوه عن بعد يحز جذوع الأشجار ويدق المسامير ليلاً ونهاراً، ويأكل القليل ولا يظفر بالنوم إلا ساعات معدودة ، وصاروا يضطربون خائفين ويتسألون ماذا بعد ذلك .؟ فيما راح البعض ينتقدهُ بلا حذر أمام أبنته التي كانت من أشد المتشأمين مما يصنعهُ والدها من توابيت وصل عددها عدد سكان القرية ، كانت تحس بفاجعة تغلي في عيون أبيها كلما كثرت العصافير الجاثمة على حافات التوابيت . وكلما ذرف الدموع وهو يتسكع في الليل يحدق في السماء بحثاً عن مذنب يتحرر من أفقها الحالك..
وفي ليلة شهدت أصوات قصف ودخان كثيف ورعد صواريخ وطائرات لا تميزها من الخفافيش . جاءته أبنته إلى حيث مكانه المنعزل مع التوابيت ، وحين رأها حاول إن يقوم من مكانه ليفعل شيء يجنبهُ النظر في عينيها ، ولكنهُ لم يستطيع ، وبدى لها وكأنهُ يعاني فاجعة كبيره، أرتمت في أحضانة وفضلت الصمت على البكاء مستغلةً شعورها بسعادة مطلقة، فجأةً حين ضغط جفنية وأصدر جسدهُ رَجفةً قويةً هزت كيانها ، جاءت دفعة من الصواريخ سقطت في آنٍ واحد على القرية بأكملها .. تناثرت السلال الفارغة مع بقايا العنب لتطفو على وجه الماء. أما المائة وستة وأربعون فقد صرُعوا جميعاً وقد غطوا بسقائف الأغصان المتشابكة بعد إن خُلعت من جذورها . فيما ظلت البنت تصرخ محاولةً إن توقظ أباها.
.......
تنويه..
الوراكَين: هي تسمية خاصة لقاطفي أوراق العنب.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شراكة أميركية جزائرية في اللغة الانكليزية


.. نهال عنبر ترد على شائعة اعتزالها الفن: سأظل فى التمثيل لآخر




.. أول ظهور للفنان أحمد عبد العزيز مع شاب ذوى الهمم صاحب واقعة


.. منهم رانيا يوسف وناهد السباعي.. أفلام من قلب غزة تُبــ ــكي




.. اومرحبا يعيد إحياء الموروث الموسيقي الصحراوي بحلة معاصرة