الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


اليساريين و الليبراليين بعد ثورة يناير

جمال الدين أحمد عزام

2013 / 4 / 12
الثورات والانتفاضات الجماهيرية


اليساريين و الليبراليين بعد ثورة يناير

إن اطلالة سريعة على الثلاثة عقود المنصرمة تجعل المراقب للحياة السياسية في مصر، و بجهد لا يكاد يذكر، يدرك تمام الإدراك ذلك الفخ الذي نصب للقوى اليسارية و الليبرالية المصرية. فقد قام النظام السابق بتقسيم معارضيه قسمين. قسم أدرك خطورته الهائلة لشدة تنظيمه و قدرته الكبيرة على التغلغل و النفاذ إلى الشارع متمثلا في القوى الإسلامية، و أفضل استخدام القوى المحافظة، و قسم آخر شديد التفكك يميل إلى التنظير مرتكزا إلى حد كبير على ماضيه في الاستحواذ على الشارع متمثلا في القوى التي نحن بصددها.
أدرك النظام السابق قدرات الفريقين مبكرا و اتخذ تدابيرا للمواجهة شديدة اللؤم و الغباء. فقد قرر مجابهة القوى المحافظة بالتضييق (اعتقال و تشويه و مصادرة و خلافه) بينما قرر مجابهة القوى اليسارية و الليبرالية (باستثناء البعض القليل) بالتحرير. و بالرغم من أن ذلك قد يوحي للوهلة الأولى بأن القسم الثاني سيقوى في مقابلة الأول إلا أن ما حدث هو العكس تماما.
لقد مكن النظام السابق اليساريين و الليبراليين من حرية التعبير و من وسائل هذا التعبير؛ فمكنهم من المؤسسات الثقافية و الإعلامية مراهنا على استسهالهم تلك الوسائل للمعارضة عوضا عن ممارستها على الأرض. فما أسهل أن تخرج في برنامج تلفزيوني لتصل أفكارك إلى الملايين في نفس اللحظة دون الحاجة إلى نزول الشارع و التعرض لصعوباته.
إن اللؤم في هذا الفخ يكمن في أن روح أية حركة سياسية هي الالتحام بالجماهير. و الجمهور قد يعجب بذلك النجم الصحفي أو التلفزيوني المعارض و لكنه لا يعطيه صوته في الانتخابات. لأنه يريد ليس فقط من يعرف صعوبات حياته اليومية بل من يقاسيها معه و يحاول إيجاد حلول ممكنة لها من الواقع. أما مجرد المناظرات فيعتبرها تسلية ممتعة قبل النوم.
قد يقول قائل من تلك القوى أنه لم يكن هناك انتخابات حقيقية في النظام السابق بل و كانت فجة التزوير، فما معنى الحديث عن التنظير في مقابلة العمل الميداني! هذا هو بالضبط ما أراده لهم النظام السابق؛ الشعور باليأس ميدانيا و بالأمل إعلاميا لتوسيع الهوة بينهم و بين الجماهير. و قد نجح النظام بالفعل في بث هذا الشعور فقد كانت الشكوى الدائمة لليساريين و الليبراليين طوال تلك الحقبة أن الشارع ضيق عليهم و أن النظام لم يسمح لهم سوى بالتنفس إعلاميا فقط فما باليد حيلة.
و تلك حجة داحضة لأنه في المقابل كانت القوى المحافظة رغم الحصار تزداد التحاما بالشارع و اعدادا للقيادات و كان لديها ذلك التطلع لنصف فرصة؛ لنافذة حرية مواربة، لتصل إلى السطح، فالعمق الكبير أسفلها يدفع متحينا الصعود. و لعل انتخابات برلمان 2005 كانت دليلا و اضحا على ذلك. كما أنها كانت إرهاصا مهما لليساريين و الليبراليين تغاضوا عنه بغرابة شديدة. فمع تخلي النظام عن التزوير في المرحلة الأولى من تلك الانتخابات اكتسحتهم القوى المحافظة. و كان من المفترض أن يعطيهم ذلك إنذارا بأن أفق الحرية إذا امتد أكثر قليلا سيجدون أنفسهم في صفوف المعارضة أيضا.
و لكنهم لم يعوا الدرس بل و استغلوا الإعلام في تشويه القوى المحافظة و و اقصائها و الإنذار بخطرها بدلا من المجاهدة السياسية الحقيقية. ليضرب النظام السابق بذلك النهج ثلاثة عصافير بحجر واحد. الأول: شغل اليساريين و الليبراليين بعيدا عنه و بالتالي التخلص من معارضتهم تقريبا. و الثاني: أنهم أصبحوا له عونا في مواجهة خطر المحافظين. و الثالث: أنه أظهر لسادته في الخارج أنه نجح في جعل المجتمع المصري جبهة متماسكة لصد الزحف "الإسلامي" الذي يرعبهم و في المقابل عليهم الاستمرار في تثبيته.
و هنا يأتي دور الغباء. فهذه الحرب المعلنة على المحافظين هي التي جعلت من القوى المحافظة القوى السياسية الحقيقية الوحيدة في البلاد. فالضغط المستمر و تضييق الخناق استنفر قدراتهم و اصرارهم. فمع محاصرة تلك القوى سياسيا و إعلاميا و ثقافيا على المستوى الرسمي كانت لها اليد الطولى على المستوى الشعبي. و مع اعتقالهم المتكرر ازداد اعتقال القوى المقابلة في طبقات مخملية تزداد يوما بعد يوم علوا عن القاع. ثم ظهر الأثر الفعال لتلك القوى المحافظة في مؤسسات صغيرة كالنقابات و الاتحادات و الجمعيات. ثم تبدت لنا ملامح شارع يبدو ظاهريا أنه تحت السيطرة الإعلامية و الثقافية للنظام إلا أنه، في الحقيقة، كان يزداد تعلقا بملامح نظام جديد آخذ في التشكل.
إن أبشع ما أصاب القوى اليسارية و الليبرالية أنها لم تطّعم، لم يتم تحديها. ثم استمرأت الكسل لدرجة أنها حتى لم تعد كوادرا تصلح للقيادة، بل لم تمارس الديموقراطية في أحزابها التي تحولت إلى هياكل هشة مفككة تعتمد على الرموز الفردية أكثر من اعتمادها على تنظيم جمعي حقيقي. و هذا يعني أن تلك القوى لم تستعد للتغيير، بل لم تتنبأ به، لأنها ظنت في غرفها المعزولة أن الشعب معها و يكره القوى المحافظة و أنه يمكن اصلاح النظام من داخله، بل لا بد من الحفاظ عليه و تغطية عوراته و إلا فالبديل لهذا الشعب، كما روجوا إعلاميا، قوى ظلامية بشعة تتربص للعودة به إلى العصر الحجري. و كانوا يظنون أن تلك البضاعة رائجة و أن الشعب لا يمكن أن يمكن هؤلاء الهمج، حسب ادعائهم، من السلطة. إلا أنهم و لانفصالهم عن الواقع لم يدركوا أن تلك الرسالة قد أفلست منذ زمن. كما أن النظام الذين ظلوا يرممونه لم يساعدهم؛ لم يحافظ على شعرة معاوية و استنفر الثورة بكل قوة بتماديه في غيه، ليجد المحافظون، أخيرا و بعد طول صبر، فرصتهم الذهبية.
لقد قامت الثورة على خلفية ذلك المشهد بين صنفي المعارضة ليجني كل صنف ثمار ما فعل قبلها. لذا لم تكن هناك صدمة، إلا ربما بالنسبة لليساريين و الليبراليين، عندما قام الشعب باختيار المحافظين، فهذا هو الخيار المنطقي بل و لا أبالغ إن قلت البديهي. فبعيدا عن الأيدلوجيا، الشعوب كائنات عملية لن تختار للحكم إلا من هو جاهز و المحافظون كانوا كذلك بل و أصبحوا فور الثورة أكثر مرونة و انفتاحا عندما تقدموا للجماهير بخطاب لين عصري (نبذ العنف، احترام الديمقراطية، الانصياع للدستور و القانون، ...إلخ) لا يجافي مبادئهم و إنما يظهر مدى الخير و النفع منها. و على النقيض قامت القوى الأخرى، و للعجب الليبرالية منها، بتقديم خطاب متشدد إقصائي لا يتناسب حتى مع مبادئها.
إن الأزمة الحقيقية لليساريين و الليبراليين المصريين أنهم لم يخرجوا من حقبة النظام السابق بعد فما زالوا مصرين على استخدام نفس الأدوات. ثم قام بعضهم، و هذه سقطة كبرى، بالاستعانة بأنقاض النظام السابق (و هذا طبيعي فالأدوات القديمة تتطلب عقولا قديمة). لم تنتبه هذه القوى إلى الآن أن العقل الجمعي المصري تغير و أن قواعد اللعبة تبدلت و أن عصر القولبة الإعلامية ولى حتى قبل قيام الثورة بفترة ليست بالقصيرة.
لقد حدثت نقلة نوعية في الحياة السياسية المصرية عمودها الأساسي إرادة الشعب الذي أعلن في ثورته خروجه من الحضانة. فلم يعد ممكنا أن يساس بالخوف و القهر كما لا يمكن أن يصب وعيه في قالب معين بعد أن فتح بأيدي أبنائه باب الحرية على مصارعيه. و هذه هي النقطة المحورية التي لا تزال غائبة عن اليساريين و الليبراليين. و الشاهد في ذلك أنه رغم كل محاولاتهم تشكيل الرأي العام لمصلحتهم، منذ مضي الثمانية عشرة يوما و حتى اللحظة، اختار الناس عكس ما يريدون و بنسب عالية أحيانا.
و الآن، هل يمكن لليسارين و الليبراليين أن يستمروا على هذا المنوال؟ هل هذا في مصلحة الوطن قبل أن يكون على الأقل في مصلحتهم؟ الواقع يجيب بالنفي. إذن، فما العمل؟ الإجابة سهلة؛ على تلك القوى ببساطة أن تقوم بالمهمة؛ أن تمارس السياسة كما ينبغي؛ أن تدشن أحزابا جديدة بعقلية جديدة؛ أن تعد كوادرا؛ أن تلتحم بالجماهير؛ أن تستوعب أن الإعلام وسيلة هامة للغاية في العمل السياسي و لكنها ليست الوحيدة، فالعمل السياسي بالأساس هو عمل ميداني. كما عليها أن تتطلع للمستقبل و ترسم له تصورا؛ أن تخرج من دائرة اللحظة الراهنة التي لا ترى فيها سوى أمرا واحدا، "لا بد أن يترك هؤلاء السلطة"، إلى أفق أوسع يشغلهم فيه كيفية وصولهم هم إلى السلطة، فإزاحة المحافظين قسرا لا تعني حلولهم مكانهم أتوماتيكيا بل و قد تحل الفوضى العارمة.
إذن المطلوب رؤية واضحة و برنامج عمل و معارضة حقيقية و ليس مكائد نسوية. المطلوب معارضة تحت مظلة الوطنية و الشرعية؛ معارضة تقدم مشروعا منافسا يستميل الناخب الجديد. المطلوب قليل من الصبر على السلطة فالتسرع لنيلها من خلال تشويه المنافس و اقصائه يزيده قوة، فالناس تتعاطف مع المحاصر، خاصة و أن مجرد التشويه يضع حتى المؤيدين لهم في موقف براجماتي اضطراري يدفعهم إلى تمكين منافسيهم، فليس هناك خطة بديلة إنما مجرد أصوات زاعقة.
المطلوب هو الخروج من الصراعات التي لا طائل من وراءها؛ فقوى اليسار و الليبرالية قد أدخلت نفسها في صراع هوية لا معنى له؛ فالإسلام و شريعته و قيمه و حضارته مرتكز رئيسي من مرتكزات هوية المجتمع المصري بكافة معتقداته. إنهم بذلك الصراع المفتعل يعطون للمحافظين قوة أكبر إذ أنهم سيكونون في هذه الحالة حماة الدين و الهوية و سيكونون على حق. و إن كان ما يقلق قوى اليسار و الليبرالية استخدام الدين و المتاجرة به أو التشدد أو فرض الوصاية، فمهمة الجميع، و القوى المحافظة قبل الجميع، التصدي لذلك إذا أرادت الأخيرة أن تكون ذات مشروع حقيقي و ليست مجرد جماعات انتهازية متشحة بالدين. و المحك في ذلك سيكون انجازهم على الأرض الذي لابد أن يعطوا فرصتهم في سبيله ليكون الحكم عليهم ممكنا قبل أن يكون صحيحا.
إن دخول القوى اليسارية و الليبرالية في أزمة هوية مصطنعة لن يقنع الناس بالتخلص من المحافظين لأن عموم الناس لا يعانون من أزمة هوية و لا يلقون بالا لعلاقة الدين بالدولة، ليس بسبب جهلهم بتلك النوعية من القضايا بل لأنها أصلا مقحمة عليهم، فهي جزء من صراع غربي في الأساس.
لذلك فعلى تلك القوى ألا تتنصل من هوية الأمة و من دينها و أن تعالج مشروعاتها لتنضوي تحت مظلة الإسلام، إن لم يكن بصفته دينا فعلى الأقل بصفته حضارة. و بذا ينضبط خطابها بأن تكون بديلا للمحافظين عن أن تكون بديلا للإسلام. ففي نظري أن أي مشروع حضاري مصري لا بد أن يكون بصفة عامة مشروع إسلامي، بمعنى أنه على الأقل لا بد ألا يخالف الشريعة الإسلامية (و في ذلك ضمانة لحماية الشرائع الأخرى و أصحابها) و إلا إذا خرج عنها خرج عن الهوية و أصبح مقحما. و هذا ما يفهم من مادة الدستور الثانية التي لا تعني إغفال المشروع اليساري أو الليبرالي لحساب المحافظ إنما تقر مظلة عامة لا يمكن الخروج من ظلها و إلا سيحدث صراع هوية حقيقي هذه المرة لأننا سنضع الناس في أزمة بين ما هو أساسي في تكوينهم و بين مشروعهم الحضاري المزمع. لذا فتسمية الإسلاميين بالمحافظين هي في نظري التسمية الصحيحة لأنهم بذلك يكونون جماعات من المسلمين و ليسوا جماعة المسلمين. جماعات لها رؤى للإسلام و لا تحتكر أي منها الإسلام.
إذن لا بد أن تنتبه القوى اليسارية و الليبرالية أنها كلما أصرت على مشروع العلمانية مقابل الدين دفع هذا إلى ترسيخ استقطاب لن يفيد سوى القوى المحافظة. و بالتالي على القوى اليسارية و الليبرالية أن تقدم نفسها على الأقل غير مناقضة أو مصطدمة بالدين عموما و بالإسلام خصوصا. عليها أن تدرك أيضا أن الإسلام دين مختلف لا يقوم على علاقة خاصة بين الإنسان و ربه فحسب و أن تلك المحاولة اليائسة لترويج فكرة "الإسلام مكانه المساجد" لن تجدي. فالمسلمون، و بخاصة المصريين منهم، يتنفسون الدين في التعامل اليومي، فدائما في قلب كل منهم سؤال ملح عن موقف الدين من كل فعل فعله أو سيقدم على فعله. فهذا الدين يعطي للعلاقة بين الإنسان و الإنسان و الإنسان و الحياة نفس الأهمية لأنه بطبيعته لا يختبئ داخل المساجد إنما ينعكس سلوكا في الحياة العامة؛ فهو ينظم و ينتظم الحياة جميعها ليس على سبيل التحكم و القهر و إنما ليؤدي الإنسان مهمته في الكون على الوجه الذي أراده الله. هكذا يعتقد المسلمون و ليس على أية قوى أن تحاول تغيير ذلك بل عليها أن تطرح مشروعها باعتبار ذلك أحد الثوابت في مجتمع أغلبيته من أتباع هذا الدين و إلا بصراحة سيفشل هذا المشروع بمجرد طرحه.
الخلاصة؛ على اليساريين و الليبراليين ببساطة أن يدخلوا المعترك وفق القواعد الجديدة و في مقدمتها احترام إرادة الشعب و في إطار الوطنية و الشرعية.
و أخيرا، على الفريقين أن يتميزا عن بعضهما فعموم الناس لا يفرقون بين اليساري و الليبرالي رغم أنهما متقابلين تقريبا، و ساعد على ذلك إنشاء تلك الجبهة الموحدة. صحيح أن الإتحاد قوة و لكن إتحادا من هذا النوع سيظل مهما كانت قوته و مدته تكتيكيا؛ فهو يقدم رسالة آنية محدودة، "نحن كمعارضة نرفض هؤلاء و لا بد أن يرحلوا"، و لكنه يحجب عن الجمهور تباين أفكار و مبادئ الفريقين و التي سيتأسس عليها مشروعيهما السياسي المنشود، و هذا سيضعف كلاهما على المدى الطويل. فلو أنهم عرضوا مشروعين متمايزين يجعل لدى الشعب بديلين للمشروع المحافظ بدلا من اللا بديل، سيكون ذلك أفضل للوطن قبل أن يكون أفضل لمستقبلهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يرني ساندرز يدعو مناصريه لإعادة انتخاب الرئيس الأميركي لولاي


.. تصريح الأمين العام عقب الاجتماع السابع للجنة المركزية لحزب ا




.. يونس سراج ضيف برنامج -شباب في الواجهة- - حلقة 16 أبريل 2024


.. Support For Zionism - To Your Left: Palestine | الدعم غير ال




.. كلام ستات | أسس نجاح العلاقات بين الزوجين | الثلاثاء 16 أبري