الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عن (كلمات الموتى) ل فيليب كلوديل

ممدوح رزق

2013 / 4 / 16
الادب والفن


هل الموت هو عقاب القدرة على الكلام، أم أن الموت يكمن في الكلام ذاته؟! .. سؤال كهذا يمكنه أن يلح بقوة بعد قراءة قصة (كلمات الموتى) لـ(فيليب كلوديل)، ترجمة (طلال فيصل) .. الثرثرة العادية التي يموت الناس خلالها فاتحين أفواههم دون فزع؛ ربما ليس لأن حقيقة أو معرفة مخلّصة ستتسرب خلسة أو تنكشف على نحو مفاجيء من مناقشة تقليدية أو جدل مكرر؛ بل ربما لأن العماء التام لا يمكنه العيش والخلود إلا بواسطة الكلمات، وهو ما يعني الفناء اللحظي السهل والبديهي للعميان بطبيعة الحال .. وحدها الغفلة تلك التي تبدو حاكمة للغة البشر في المواقف المختلفة، وحامية لقرار التعتيم الأزلي على أي إمكانية أو فرصة للفهم أو للتبرير .. الغفلة التي لا يمكن السيطرة على خفائها الممتد لكل حيز ومقصد واحتمال للحروف المتداولة في الحياة والموت .. ذلك الشيء أو تلك المسارات والسياقات المتبلدة والمتشابكة التي لا يسكنها سوى موتى .. ربما لا يدرك موتهم إلا هؤلاء الذين لا يتعاملون مع الآخرين بواسطة الكلام مثل الصبيين الأبكمين الذين أفلتا من الموت الذي حاق بالمدينة .. الذين ـ نتيجة لذلك ـ لا يموتون بنفس الطريقة على الأقل، وإنما بواسطة أداة أخرى قد يكون لها علاقة بالصمت .. لا تقتلهم الحكايات المعتادة التي أُجبرت ألسنة الجثث على الحفاظ على تاريخها وضمان سلامته.
كي يخلق (فيليب كلوديل) تعارفا متينا بيننا وبين ظلام الكلمات .. بيننا وبين الموتى المجبرين على استعمال أوهامها المحصنة طوال الوقت؛ أدخلنا إلى القرون الوسطى أو بالأحرى كشف عن ظلامها الراسخ في الحاضر .. بتعبير ( كلوديل):" تاريخ الانسانية لم يكن أكثر من عصور وسطى طويلة لم ينجح النور في اختراقها سوى في لحظات قليلة".
كنيسة .. تعذيب بآلات حديدية للحصول على اعتراف .. تعليق جثث المتهمين على فروع الأشجار .. عيد لأحد القديسين .. معرض لبيع التماثيل والوحوش والعقاقير السحرية والصور الخرافية والآثار القديمة .. موكب جنائزي .. ثلاثة يهود يحرقون أحياء بعد الاشتباه في وقوفهم وراء حوادث الموت المباغت لأهل البلدة.
موتى لأنهم يتكلمون، وكلماتهم هي سبب ودليل موتهم حتى لو بدا أنهم أحياء .. الجحيم الذي يشترك الجميع في الضياع داخل كوابيسه ومصائره القاتمة .. قصة (كلمات الموتى) أرادت أن تدفعنا لرؤية الموت فعليا لمن نظنهم أحياء، والذين هم نحن بالتأكيد.. ترشدنا للانتباه إلى الموت غير المرئي للمسمومين بالكلام .. يسهل جدا تعيين ما يشبه غاية أو تحديد هدف واضح وملموس للقصة: حتى التحدث ـ مجرد الحديث العادي بين الناس ـ يعد جريمة عقوبتها القتل المفاجيء بفعل قوة مجهولة .. يسهل أيضا الاستقرار على أن شيئا غيبيا لا يريد أن يعطي فرصة لأمر غامض قد يخرج دون توقع من أفواه البشر، أو يعطون إشارات غير ملحوظة بأنهم على وشك التلفظ به دون دراية فيكون جزاءهم الموت .. نعم يسهل التمعن في استنتاجات كهذه، لكن ربما الأكثر جدارة بالتفكير ـ في ظني ـ هو عدم احتياج الناس لقوة تقتلهم لمجرد الكلام، أو يخشى شيء غيبي من أن يتفوه البشر بأمر لا ينبغي أن يأتي على شفاههم .. الناس موتى لأنه لم يسبق لهم أبدا أن تكلموا في ما يمكن أن يجلب لهم رائحة اليقين أصلا .. اليقين الذي يحررهم نهائيا من الحياة والموت .. من كلمات الحياة والموت.
لا يمكنني إذن تجاهل الإلهام أو التخيل الذي أثاره التحريض الفانتازي للقصة عندي .. التساؤل الذي يبدو متسقا ـ حسب ما أرى ـ مع استدعائها لخبرة العصور الوسطى: لماذا لا يكون هناك من يقتل الناس فعلا لتخليص العالم من الكلمات باعتبارها ـ كما تتطلب الحكايات الخرافية أحيانا تحديد هوية واضحة للشر ـ سر الشقاء ومصدر الألم؟!.
لا يمكنني أيضا تجاهل أشباح أخرى: هل تكمن اللعنة حقا في النطق؟! .. ماذا عن الإشارات والكتابة والتعبير بالسكون؟! .. هل يرتبط الموت أكثر ـ لازلنا ملتزمين بمنطق العصور الوسطى! ـ يرتبط بالتكلم والسمع نتيجة التنقل والانتشار الفوري واليسير للكلمات ومن ثم تناسلها وتكاثرها كإجراء روتيني يخص أبديتها، أم أن لكل شيء موته الخاص لأن ما يقتل ليست حروف لغة ما وكيفية وجودها، وإنما ما تركه الزمن في جذورها قبل أن يوجد أحد .. وما لم يتركه؟!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا