الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الغندورة

خليل الشيخة
كاتب وقاص وناقد

(Kalil Chikha)

2013 / 4 / 17
الادب والفن


الحارة ..
الحارة شعبية، الأزقة كثيرة، الأبنية قديمة وباهتة. الحياة بطيئة والناس ليسوا سعداء كلياً، لكنهم ليسوا تعساء كلياً. يعيشون دون هدف، يتكلمون دون هدف، يتشاجرون دون هدف. الثرثرة مهرب أو بلسم، الثرثرة هنا تصبح هدفاً.
عند الأصيل يجلسون، أمام محلاتهم وعلى الكراسي يجلسون، في شارع واحد ترفده كل الأزقة، شارع رئيسي ، تكثر فيه السيارات، تكثر فيه أصوات الزمامير. كل منهم يقبض على مسبحة، يسبّح ويثرثر، أطول مسبحة هي مسبحة الحاج عدنان بائع النوفتيه والألبسة النسائية،
الغندورة ..
الحي أتته الغندورة، أتت فجأة ، كأنها نزلت من السماء. تسكن وحدها، تأكل وحدها، تمشي وحدها. تتغندر وحدها. سرها مجهول، لا أحد يعرف ، هل هي مطلقة ؟ هل هي عازبة، أتت ومعها سرها. هي أيضاً تعيش على مهلها. عند العصرية تخرج، وفي الشارع الرئيسي تمشي. وأمام أصحاب الدكاكين تتمايل، وفي مشيتها يمشي الحي كله، وعلى نقلة قدميها تنخلع العيون. تشرئب الرؤوس، تتغير الملامح. وجهها أسمر مستدير ممتلئ، وجسمها أيضاً ممتلئ. الشعر أسود قصير وناعم، يغطي خديها مثل برواز. لا تبتسم ولا تكلم أحدا.
أول ما تمر في الشارع تقف عند بائع النوفتيه الحاج عدنان، تقف أمام رفوف الألبسة ، تتنهد تلوح بيدها، والبائع لا يكترث لها أبداً ، يقف هو الآخر وينظر من خلال زجاج المحل إلى الشارع الذي كان يجلس فيه منذ قليل، ويأمر الولد في المحل :"سامي .. هات كذا .. سامي تعال .. سامي روح "، وهي تقف، تتنهد وتتكلم وفي الصوت رنة .. وفي لهجتها دلال، فيحتار الحاج عدنان بنفسه ماذا يفعل وعلى الغندورة ماذا يجيب. تقف معلقة حقيبتها في كتفها، والحقيبة متدلية على الخصر، ومن الخصر تركن على الردف ، وكلما تحركت تتأرجح الحقيبة. ترفع نظرها نحو الرفوف: " أنزل هذه البلوزة .. أعطني تلك التنورة ..لا.. هذه صغيرة .. لا .. هذه لونها قاتم .. اللون الأحمر .. موديل كذا .. أو كذا " والحاج عدنان يحتار بنفسه ماذا يفعل وعلى الغندورة ماذا يجيب. لكن كل هذا الهجوم، كل هذه الأسلحة، كل هذا الكم الهائل من الأنوثة. يظل الحاج عدنان رابط الجأش لا يستجيب للصوت الشجيّ والكلمة المهفهفة، الطائرة مثل حسّون.
هي والحي..
تخرج الغندورة وتترك محل النوفتيه متضوعاً بأريجها، تمشي عبر الشارع الرئيسي، وأمام الدكاكين تمر. معها تمر رائحة المسك، لا، هل هو المسك، هل هو العطر، تراكيب من العطر ما شمها أهل الحي أبداً من قبل. كلّ ما شموه سابقاً؛ عرق نسائهم، رائحة الثوم، رائحة البصل. و الخمّة في الفراش ساكنة لا تغادره، روائح لا يستسيغها الآدمي. لكن الآن، والآن فقط يتشممون عطوراً أجنبية ، عطوراً فرنسية الصنع، عطوراً تعمل مصانع فرنسا عليها ليل نهار. فيها أنوثة، فيها غابات من الياسمين ومسك الليل.
وعندما تمر هي تتحول الكائنات الجالسة على الكراسي إلى أنوف ، والأنوف تتحول إلى عيون تحدّق، والحدقات تتسع، ونفوس كانت مشرفة على الموت تحيا. وفُحيمَات كانت تحت الرماد تتقد. وتستبدل بأغنيات فريد الأطرش وأم كلثوم نانسي عجرم وهيفاء وهبي.
عندما تمر الغندورة، يدب في الحي نشاط ، وبائع الخضار يلمّع خضاره، والسَمّان ينظف زجاج واجهته، وتظل العيون مخطوفة والقلوب تدق مسرعة مثل عجلات القطار. والآهات تتردد في الحناجر، والحناجر مبحوحة.
غندورة واحدة فعلت بهم كل هذا. وفي المساء تغيب كل الأحاديث التافهة القديمة ويظل حديث الغندورة يتردد على الأفواه، ومن الأفواه إلى القلوب ينتقل. وعندما يغادر كل منهم دكانه ينظر إلى آثار أقدام الغندورة ، هنا مشت، ومن هنا مرّت. وفي البيت يقارن، وتحلو له المقارنة، الغندورة خصرها ضامر، وزوجته ليس لها خصر. الغندورة صدرها بارز وصلب، وتلك صدرها مترهل ومتدلٍّ، الغندورة رائحتها كرائحة جنان الأرض كلها وتلك والعياذ بالله. وتستمر المقارنات حتى تتشنج الأعصاب وتبدأ الألسن بالشتائم. وربما الأيدي بالضرب.
لكن الغندورة في بيتها مرتاحة ، وعلى سريرها نائمة. والأحلام بطيئة وثيرة . وهم كذلك على فرشهم نائمون، أحلامهم تأتي بطيئة ناعمة من الدكان والبيع والشراء إلى عوالم تكثر فيها جنات وانهار وغابات. وفي الصباح لا يريدون القيام إلى الأعمال وبالأحلام يتشبثون. أحلامهم الآن أصبحت أهم من الأعمال. كان للحياة طعم الروتين المتكرر في أكلهم وشربهم الفاقد للمعنى. كانت الأيام تسير بلا هدف، لكن الآن أصبح لكل شيء في الأركان معنى وكل شيء في النفوس له مغزى.
وتعود الغندورة في يوم آخر بعد العصرية، تمر كما فعلت إلى دكان الحاج عدنان، ويضع هو على وجهه سِمات الوقار، وسمات الرزانة ، لكن هي تدخل، ومن الباب تدخل، وإلى الرفوف تنظر. والحقيبة متدلية من كتفها كما كانت. والأصبع تشير إلى بلوزة هنا وتنورة هناك: " لا.. هذا جميل ، وتلك عادية .. والبنطال أجمل.. ذاك البنطال الأبيض، هات الأبيض واترك الأسود" . وهو يتكلم أيضاً بلهجة باترة، مقطومة: " هذا كل ما عندي.. يا ست .. ليس لدي ألوان أخرى". وتقف هي تتأمل بلوزة زرقاء بلون السماء، وتتنهد، " أف.. هذا عادي.." ومن خلال كل التنهدات التي تنطلق ورنة الصوت التي تأخذ صداها في النفس، ومن خلال العطور المتضوعة المهفهفة؛ تتهدّم جدران الوقار جداراً بعد آخر. وحجراً بعد حجر.
زواج..
في يوم موعود، فتح أصحاب الدكاكين الأبواب وشربوا القهوة وثرثروا ، إلا الحاج عدنان لم يفتح محل النوفتيه، ظل مغلقاً ، فتساءل متطفل وهمس آخر، لكن الدكان ظلت مغلقة. واختفت الغندورة عن الأنظار، ولم تعد تمر وتنشر عبيرها في الشارع، وعم القلق وجوه الرجال، وكثر شرب الشاي، وتدخين النرجيلة .
وبعد مرور ثلاثة أيام، شاهدوا وبأم أعينهم عند العصرية الحاج عدنان ومعه امرأة تلتحف سواد الملبس وتضع البرقع وتمشي كما كانت الغندورة تسير، وتنشر شذاً وعطوراً كما كانت الغندورة تنشر.
وبعد تساؤلات واستفسارات عرف الحي، والحي كله، أن الحاج عدنان هو الذي تزوج الغندورة وكما قال " على سنة الله ورسوله". وسترها في بيت بعد أن كانت وحيدة تعيش وأصبح يمشي معها بعد أن كانت وحدها تسير.

آب – 10 – 2008








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القبض على الفنان عباس أبو الحسن بسبب دهس سيدتين


.. كرنفال الثقافات في برلين ينبض بالحياة والألوان والموسيقى وال




.. هنا صدم الفنان عباس ا?بو الحسن سيدتين بسيارته في الشيخ زايد


.. إيران تجري تحقيقا في تحطم المروحية.. وتركيا تتحدث عن رواية ج




.. ضبط الفنان عباس أبو الحسن بعد اصطدام سيارته بسيدتين في الشيخ